"لا مشكلة عند كثير من الأسرة الأردنية، حين تستسيغ الفتاة العمل، مثلًا، في مصانع الخياطة بالمناطق الصناعية، وبراتب شهري لا يتجاوز في أفضل الأوقات 180 دينارًا أردنيًا، بل إن الأمر يكون أكثر تقبلًا عندما تسعى الشابة للعمل سكرتيرة في مكاتب الأطباء والمحامين والشركات الخاصّة، وبراتب لا يتجاوز هذا المبلغ بكثير، أما العمل كخادمة في البيوت في جوّ أسري، وبراتب شهري لا يقل عن 300 دينار، فهو أمر مرفوض اجتماعيًا وأخلاقيًا، ويصنف في خانة الفضيحة".
بهذه العبارات، تحاول الشابة الجامعية صفاء (اسم مستعار)، في حديث إلى "جيل"، تبرير إقدامها على العمل كخادمة في البيوت، في القسم الراقي من العاصمة الأردنية عمان، في محاولة مرهقة للاستمرار بمواصلة دراستها، التي تحتضر أصلًا، نتيجة الواقع المادي المزري لأسرتها.
هذه الشابة، هي من بين عدد من الفتيات الأردنيات الجامعيات اللواتي أصبحن يقبلن على امتهان العمل كخادمات منازل، في الآونة الأخيرة، غير آبهات بنظرات المجتمع لهن، وصبغها من قبل الأردنيين بـ"ثقافة العيب"، وذلك لمواجهة حمّى ارتفاع تكاليف المعيشة، واكتواء محدودي الدخل بنيرانها، وانعكاس ذلك بالضرورة على تكاليف الدراسة الجامعية في الأردن.
بحساب بسيط، فإن كلفة معدّل الساعة الدراسية الجامعية، بالنسبة للطالب الجامعي في الأردن، تقدر بنحو 40 دينارًا أردنيًا، والحديث هنا عن الساعة التنافسية العادية، بمعنى أن السنة الدراسية تكلف الطالب والطالبة ما مجموعه 1600 دينار أردني، بحسب منسق الحملة الوطنية الأردنية من أجل حقوق الطلبة "ذبحتونا"، فاخر دعاس.
ويضيف دعاس، في حديثه لـ"جيل"، أن المبلغ يتضاعف أكثر إذا ما التحق الطلبة بالبرنامج الموازي، فيصل معدّل الساعة الجامعية إلى 70 دينارًا أردنيًا، لتبلغ كلفة العام الجامعي في هذا البرنامج سنويًا إلى 2800 دينار تقريبًا.
قد تبدو هذه الأرقام بسيطة نوعا ما، يقول المتحدث، إذا ما تمت مقارنتها بالدراسة في الجامعات الخاصّة، والتي تضع الجامعات في خانة شركات تجارية تسعى للربح أكثر من التعليم، إذ ترتفع نسبة كلفة الساعة الدراسية فيها إلى نحو 90 دينارًا أردنيًا، لتتجاوز كلفة الدراسة فيها سنويًا إلـ3800 دينار تقريبًا.
وعلى الرغم من "ثقافة العيب" هذه، كما أشارت الفتاة آنفًا، لا يعلم كثيرون من مدّعي العزة والكرامة في الأردن، أنه بسببها يتم هدر أكثر من 120 مليون دينار سنويًا، وضياعها من جيوبهم، وذهابها إلى حسابات عاملات المنازل الوافدات، إذا ما علمنا أن وزارة العمل قرّرت حديثًا، مضاعفة رسوم استبدال العاملات "الوافدات"، وفق ما يؤكّده مصدر مطلع في وزارة العمل الأردنية.
في السياق نفسه، فرضت الوزارة على مكاتب استقدام العاملات رسم استبدال عاملات المنازل (الخادمة)، من 10 دنانير إلى 100 دينار، مشيرًا إلى أن عدد حالات الاستبدال التي جرت خلال العام الماضي (2016)، بلغت حوالي 7200 حالة استبدال.
ورغم تأكيد ناشطات في مجال حقوق المرأة وحمايتها، أن عددًا من الأردنيات يعملن كخادمات، إلا أن هذه المهنة تبقى حتى اللحظة مقتصرة على العاملات "الأجنبيات"، نتيجة أن الأسر الأردنية لا ترغب في تشغيل عاملة محليّة.
فالأسر الأردنية تختار العاملة الأجنبية، لاختلاف اللغة والبيئة، كون العاملة المحليّة لا تقبل بالمبيت داخل منزل مخدومها، في حين لا ترضى هذه الأسر سوى أن تكون هذه العاملة موجودة في البيت كل الوقت.
ويرجع خبراء علم الاجتماع في الأردن، في حديث إلى "جيل"، من أمثال مجدي الدين خمش، عزوف الأردنيات عن مهنة "عاملة منزل"، إلى ثقافة "العيب" عند الأسر، التي ترى فيها امتهانًا لكرامة العائلة، وجرحًا غائرًا لا يقلّ عن الطعن بالأنساب، بالنسبة للأردنيين.
فالكثير من الأسر الأردنية تفضل أن تبقى بناتها دون دخل شهري على أن يقال في حقها "إن البنت تعمل خدامة منزل"، على الرغم من أن المجتمع يحترم هذه المهنة، بدليل تعامله مع عاملة المنزل الوافدة على أنها جزء من العائلة، تتمّ مشاركتها في كل الأحداث الأسرية، بحسب هؤلاء الخبراء.
هذا، ولا يخفي خمش استغرابه الشديد، وهو يسرد الأسباب الكامنة وراء امتناع الفتيات الأردنيات عن العمل كخادمات منازل، في الوقت الذي تنتشر فيه ثقافة "التسول" في المجتمع، مؤكدا ضرورة تغيير النظرة الدونية تجاه هذه المهنة، وتقبلها كغيرها من المهن التي تدعم دخل الأسرة.
أيضا، يبدو أن الرغبة لدى الكثير من الأسر الميسورة في الأردن تتجه لتفضيل العاملة "الخادمة" المحلية، بدلا من الوافدة، إلا أن جهدها في البحث عن فتيات يقبلن العمل في الخدمة المنزلية سرعان ما يتبخر، في وقت لا تجد فتيات أردنيات أي حرج من الاصطفاف في طوابير لساعات أمام لجان الزكاة والجمعيات الخيرية للحصول على معونة بسيطة، لا تتعدى بضعة دنانير، ولكن "عزة نفسها" و"اسم عائلتها" لا يسمحان لها أبدا بمجرد التفكير في العمل "خادمة منزلية"، وفق تعبير عدد من ربات البيوت "الميسورة"، في حديثهن لـ"جيل".
فنمط التفكير، توضح فدوى صالح، وهي ربة منزل، هو الذي يحول دون تغيير النظرة لعمل الفتاة الأردنية داخل المنازل، بالرغم من وجود آلاف الفتيات الأردنيات اللواتي يعملن كعاملات مصانع ومستخدمات نظافة بالأسواق التجارية الضخمة والمستشفيات، وعاملات نظافة بالمدارس..، فأزمة التفكير "المتخلفة"، لا زالت تغتال الكثير من المهم الشريفة، ومنها "خدمة المنازل، حسب تعبيرها.
تجدر الإشارة أخيرا، إلى أن الطالبات الجامعيات اللواتي وفقن في إيجاد فرصة عمل، سواء خادمة أو غيرها من الأعمال، كعاملات في مطاعم الوجبات السريعة، وموظفات إدخال البيانات في المكاتب والمؤسسات الخاصة، يشتكين، وفق شهادات أدلى بها عدد من الفتيات لـ"جيل"، من عدم مراعاة هذه الجهات لظروف دراستهن، بل وإجبارهن على العمل ساعات طويلة مقابل إجور متدنية جدا، لا تتناسب والجهد الذي يبذلنه، ما يؤثر سلبا على تحصيلهن الدراسي، وفي كثير من الحالات تضطر الطالبة إلى تأجيل فصول دراسية، وبالتالي يتأخر تخرجها من الجامعة، وكل ذلك في سبيل تأمين متطلباتها المالية خلال فترة دراستها.