ويدفع التنافس الرئاسي الحاسم سياسيّاً، معظم الأحزاب والشخصيّات السياسيّة التونسية، إلى إعلان موقفها بوضوح وتحديد اصطفافها الفكري حيناً والبراجماتي السياسي حيناً آخر. ويبدو الرهان الرئاسي أكبر من مجرّد تنافس بين شخصيتين سياسيتين، ليتعدّاه الى اصطفاف حقيقي بين مشروعين مختلفين، ما يقتضي الانحياز صراحة لهذا الطرف أو ذاك، وهو ما أكّدته بيانات عدد من الأحزاب، والتي جاءت محمّلة برسائل سياسيّة فكريّة، توضح موقفها من ناحية وتؤكّد ضراوة التنافس من ناحية أخرى.
وفي الوقت ذاته، تفرض الانقسامات داخل هذه الأحزاب وحساباتها السياسيّة البحث عن تماسكها الداخلي قبل دعم أحد المترشحين، وهو ما يبرّر لجوء قياداتها إلى "اللاموقف"، تاركة الحريّة لقواعدها لتصوّت كما تشاء، وهو ما يعتبره محللون سياسيون كثيرون بمثابة "التفريط في أنصارها لأحد المترشحيْن"، والذي لن يتوقّف عند الانتخابات الرئاسيّة، ولكنّه سيقود إلى انضمام هذه الأصوات الفرديّة إلى هذين المشروعين بعد الانتخابات.
وفي موقف صريح وحاسم، دعا حزب "التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات"، الذي يتزعّمه رئيس المجلس التأسيسي السابق، مصطفى بن جعفر، أنصاره ومناضليه إلى "قطع الطريق أمام دعاة عودة منظومة الاستبداد والفساد ورموزها والتصويت بما يكفل عدم التفرّد بالسلطات في المرحلة المقبلة والعمل على حماية الثورة وأهدافها واحترام دولة القانون والمؤسسات"، وهي دعوة صريحة وواضحة لدعم المرزوقي ضد السبسي.
كما طالب التكتل، في بيانه، كلاّ من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري إلى يقظة أكثر وحزم في التصدي للتجاوزات والخلل خلال الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، لأنّ من شأنها أن تهدّد مصداقيّة الانتخابات وسلامتها، وشدّد على ضرورة تحلّي جميع الأطراف السياسيّة وكل المواطنين والمواطنات بالرصانة وروح المسؤوليّة وضبط النفس ورفض كلّ دعوات الانقسام ونبذ النعرات المناطقيّة والعنف.
وفي حين عبّر بن جعفر عن موقفه المتجانس، مع مساعيه قبل الدورة الأولى لتقديم مترشح وحيد عما سمي بـ"العائلة الديمقراطية"، فإنّ موقف الحزب الجمهوري الذي يتزعمه، أحمد نجيب الشابي، والذي كان جزءاً من هذه الحوارات، نأى بنفسه على غرار أحزاب عديدة عن هذا الصراع الرئاسي العاصف. وسيترك الحزب الجمهوري، وفق ما أعلنه الشابي، حرية الاختيار لأنصاره بين المرزوقي والسبسي.
ولم يستكمل المكتب السياسي للحزب الجمهوري، الذي بدأ اجتماعه يوم الأحد الماضي، أعماله بعد، لكنّه "بعد التداول في الوضع السياسي الراهن ولاعتبارات وطنية، قرر الحزب الجمهوري أن يترك حرية الاختيار لقواعده"، وفق ما يورده الشابي في تصريحات.
وعلى غرار "الجمهوري"، يوضح المتحدث الرسمي باسم حزب "تيّار المحبة"، الذي يتزعّمه، الهاشمي الحامدي، سعيد الخرشوفي، أنّ "الاتجاه العام للحزب يميل نحو ترك حريّة الاختيار لأنصاره وعدم الانحياز إلى أيّ من المرشحين في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسيّة"، في ظلّ أنباء عن اختلافات كبيرة بين أعضاء الحزب وأنصاره حول دعم هذا المرشح أو ذاك.
من جهته، يؤكّد رئيس حزب "الاتحاد الوطني الحرّ"، سليم الرياحي، دعمه السبسي تماماً، شأنه شأن حزب المبادرة الذي يتزعّمه، كمال مرجان، و"المسار" الذي يقوده، سمير بالطيب، وحزب "آفاق" الذي يترأسه ياسين إبراهيم.
وبقيت الأحزاب الستة الداعمة للمرزوقي في الدور الأول على موقفها في الدور الثاني، مع إمكانيّة انضمام شخصيات أخرى، وفق ما أفاد به رئيس حزب الإصلاح والتنمية محمد القوماني.
في موازاة ذلك، تترقّب الساحة السياسيّة التونسيّة موقفيْ "الجبهة الشعبيّة اليساريّة" وحركة النهضة. لا تزال "النهضة" مترددة، على الرغم من إعلانها الحياد، كما في دورة الانتخاب الأولى، لكنّ الجملة الإضافية التي تضمّنها بيانها الأخير والتي تدعو إلى مزيد من المشاورات لإعلان موقف نهائي بعد أيام، عكس عمق الخلافات في اجتماع مجلس الشورى الأخير نهاية الأسبوع، في حين تذهب آراء في اتجاه فهم هذا الموقف على أساس أنه "طلب لضمانات أكبر من النداء"، مقابل التزام الحياد التام.
أمّا الجبهة الشعبية، فأفادت تسريبات من اجتماعات عقدتها في الأيّام الماضية، بخلافات تعصف بين مكوّناتها، وتحديداً حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد وحزب العمال. وبينما يذهب الأول في اتجاه دعم السبسي صراحة، يتحفّظ حمة الهمامي عن هذا الموضوع، ما أجل الإعلان عن موقف نهائي موحّد إلى اليوم الأربعاء.
ويؤكد هذا الانقسام دعوة السبسي نفسه مرتين الى أنه يفضّل "أن تبقى الجبهة متماسكة على أن تدعمه في الدور الثاني"، ما يعني اعترافاً بحدّة هذا الاختلاف الذي قد يهدد وحدة الجبهة الشعبيّة، التي تضمّ أحزاباً عديدة.