اكتُبْ، ثمّة من يصدّقك
كنت، قبل أيام، أبحث عن مقالةٍ قديمة لي في "غوغل"، لعلي أعثر عليها، فحوّلني "غوغل" إلى اسمي على موقع إلكتروني سوري في تاريخ يعود إلى ما قبل الثورة، وذلك في مادة إخبارية عن خلاف في صحيفة سورية، كنت أكتب في القسم الثقافي فيها مادة أسبوعية مدة لم تستمر طويلاً. لفتتني في النقاش حول المادة، وفي التعليقات الواردة، كمية الشتائم السوقية التي طاولت كثيرين من المذكورين في المادة، منهم أنا. بدأت أبحث في مواقع سورية قبل الثورة، وأقرأ التعليقات على المواد المنشورة فيها، نادرا ما خلت مادةٌ من تعليقات فيها شتائم.
لم تتغيّر الصورة اليوم، لا على مواقع الصحف والفضائيات ولا في "فيسبوك". على العكس، يبدو أن السهولة التي يتم فيها استخدام وسائل الاتصال الحديثة أتاحت الفرصة لعرض كل ما يستخدم في الشارع من شتائم سوقية، خصوصا إذا كانت هناك مادة إشكالية، سياسية غالباً، أو دينية أو مذهبية، أو إذا كان صاحب المادة، أو أحد المذكورين فيها، شخصية إشكالية بطريقةٍ ما، قد لا تعود إشكاليته لما يحمله من فكر مثير للجدل، حيث من الواضح أن الفكر المثير للجدل لم يعد مقبولاً، فنحن في زمن الوجبات السريعة، زمن اللايت في الكتابة اليومية على "فيسبوك" أو في مقالاتنا الصحافية، أو على مدوّناتنا الشخصية، أو في حواراتنا التلفزيونية. أصبحت الإشكالية تتعلق بانحياز صاحب المادة، أو المذكور فيها، إلى طرفٍ سياسيٍّ ما، أو انتمائه إلى دينٍ أو مذهبٍ ما، أو إيمانه بأيديولوجيةٍ ما.
أتاحت وسائل الاتصال الحديثة لهذه الانحيازات التي أوصلت الانقسام بين السوريين، مثلاً، إلى حده الأقصى، أن تظهر بكل تجلياتها، إلى حدٍّ يشعر معه المتابع، أحياناً لما يثار، بأنه لو كان ثمّة سلاح إلكتروني قاتل، لاستخدمه هؤلاء المختلفون من دون أدنى تردّد. ولكن، من قال إن الكلام ليس سلاحاً أحياناً، وإن الشتائم والسباب والتعرّض للسمعة الشخصية ليست سلاحا؟ ومن قال إن التحريض ضد أحدٍ أو فئةٍ أو مجموعةٍ لا يحرّك غريزة القطيع، وقد يدفع أحد هؤلاء الذين تم تحريضهم على استخدام السلاح الحقيقي ضد من قرأ أو سمع أنه عدو له؟ حصل هذا كثيراً في التاريخ الحديث، وما زال يحدث.
وعلى الرغم من فوائد عديدة عمّمتها وسائل الاتصال الحديثة، وساهمت بتسهيل كثير من شؤون الحياة، إلا أن الطريقة التي يتم استخدامها في ذلك، خصوصا في السنوات الأخيرة، باتت تثير الرعب حقا، لقدرتها على بث الكراهية ونشرها، من جهة، وتلفيق وتزوير وقائع وأحداث وتواريخ وسير أشخاص ومجموعات من جهة أخرى، إذ يمكنني، في هذه اللحظة، أن أكتب على صفحتي على "فيسبوك" منشورا أتهم به شخصاً ما بأنه لص، أو أنه كاذب، أو أنه عميل لجهة استخباراتية معينة، أو أختلق له سيرةً مرفوضة اجتماعيا وسياسيا وأخلاقياً. ولست مضطرة إلى وضع أي مصدر أو وثيقة تثبت ما كتبته، يكفي أن أقول إنني سمعت، أو قيل لي من مصادر قريبة، أو أي شيء كهذا. ثمّة من سيصدّق، وسيتم تناقل المنشور واعتماده بوصفه حقيقةً دامغة. وسيبدأ سيل الشتائم والتعريض بشخص المذكور، ونبش سلالاته ولعنها، من دون أية وقفة، ولو لدقائق، للتأكد من صحة ما كتب. أما عن أمانتي، أنا صاحبة المنشور الأصلي، فلا داعي للسؤال، ولا داعي للبحث عن دوافع شخصية وراء كتابتي. يكفي أن يكون لدي متابعون وقرّاء يوافقون هواي الشخصي، ويتوافقون نفسياً مع ما أكتبه، حتى أنال ثقة تامة غير منقوصة. سابقا كان يقال: اكتُبْ، ثمّة من سيقرأ لك. الآن، ومع وسائل الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي، وسهولة استخدامها وانتشارها، يمكن أن نقول: اكذبْ، هناك كثيرون سيصدّقون، ويصفقون ويهللون لك.