اقتفاء أثر لفادي طفيلي؛ سيرة حيّ من خلال جثة

23 ديسمبر 2014
فادي طفيلي، تصوير كميل زخريا
+ الخط -
"اقتفاء أثر" كتاب عن مكان بين زقاق البلاط والخندق الغميق ووسط المدينة الذي تتوسّطه مقبرة الباشورة، حيث أشكال الحياة التي دارت بين قاطنيه الذين يشكّلونه عبر إشغاله، ويمنحونه وظائفه ويبثّون الروح في جماده. هم بعلاقاتهم وإقامتهم وذهابهم وإيابهم وتبادلهم التجارة والعاطفة، يمنحون هذا المكان قيمةَ وجوده، ولولاهم لتحوّل قفرًا ومرتعًا للفراغ وللموت.

لا ينقل طفيلي الصور كما لو أنها مأخوذة بكاميرا ذات بعدٍ واحدٍ، بل يمنحها أبعادًا كثيرة؛ يداورها، ويحاول تفسيرها ليجعل القارىء في قلبها. فيظهر المكان موصوفًا على الورق، مليئًا بحياة متخيّلة ممتعة للقارئ الفضولي. يضيف الكاتب إلى الأمكنة، مشاعره التي تنير، عبر ملاحقة جثّة، حيوات كثيرة متراكمة فوق بعضها؛ حيوات صنعتها الإرساليات البروتستانتية بدايات القرن العشرين ثمّ الانتداب فالحروب اللبنانية المختلفة، مع ما رافقها من تهجيرٍ وحلول جماعات مكان أخرى في الأحياء نفسها، التي تغيّرت هوّيتها جذريًا من مرحلة إلى أخرى. أضاف فادي مشاهد بعينيه الثاقبتين، عيني ساكن الحيّ وعارفه منذ الطفولة، وعينَي الشاعر الذي يعطي هذه التحوّلات والتغيرات، تفسيرات جديدة وخاصّة مليئة بتهويمات شاعرية، تجعل النص أحيانًا شاعريًا أكثر منه توثيقيًا. وإذ يستعملُ عيني الشغوف بالمعمار، يعيد النص إلى طابعه التوثيقي الحِرفيّ، فينقل لنا عبر هذا المربع البيروتي نموذجًا عن حياة بيروت المتبدّلة التي لا تثبت على حال، منذ إقرارها مركزًا للبنان الكبير المعلن عام 1926. 

يقتفي طفيلي أثر جثّة، لينقّلنا بين الأمكنة، فنرى أنواعًا مختلفة من الحياة. الجثة التي يلاحقها تعود للأستاذ جميل الصفّوري، معلّمه في المدرسة الإنجيلية في زقاق البلاط عام 1979. رُميت الجثّة ممزقةً عام 1981 في إحدى زوايا الحي، بعد أن خُطف من قبل إحدى الميليشيات. الصفّوري في عقده الخامس، لم يُعرف له أبناء أو أخوة أو أهل. أسمر، قوي البنية. كان يضع نظارات ذهبية فوق عينيه الزرقاوين، ويحمل معه تحت إبطه على الدوام كتابًا مقدّسًا، ولا يكفّ عن التبشير، بلهجته الفلسطينية الواضحة أينما حلّ. تبشيره بدينه في منطقة تنقلب رأسًا على عقب، تهجيرًا وتغييرًا ديموغرافيًا، وعدم خوفه، كانا السبب في مقتله. سرت إشاعةٌ أن خاطفيه فجّروا جسده بوضع رزمة ديناميت في فمه، لكأنهم عاقبوا فمه الذي منه يخرج كلامه وتبشيره. 

كان لخبر مقتل الأستاذ وقع الصاعقة على التلميذ. وبدا موته كمقياس لما ستؤول إليه حال الحي وسكّانه ومبانيه وكنائسه ومحاله ومقابره. الجثّة المرمية كانت تتحلّل في ذاكرة الكاتب، وبينما هي تتحلّل، كان الحي وتركيبته يتحلّلان أيضًا ويتفكّكان ويندثران، ليصير الحيّ حيًا آخر، جاءت الحرب وأرسته على حالٍ جديدة كليًا: "جثة جميل الصفّوري بالنسبة لي، ومنذ العام 1981، غدت موزّعة هكذا، هنا وهناك في جميع أنحاء زقاق البلاط وأركانه وزواياه الخبيثة. جثّة الرجل الممزّقة التي لم أرها أبدًا، غدت في ناظري وفي أحلام يقظتي زقاقَ البلاط نفسه. باتت وصمات بشرية سرّية وعلامات طيفية، تسكن زوايا الحي المهملة وترسم حدوده". ويظهر تأثير الجثة على كلّ ما في الحي: "موقع رمي الجثة كان بمثابة إحدى أهم علامات خارطة الجريمة. ومن خلال ذلك الموقع الذي بقي ملتبسًا وتعددت التخمينات حوله راحت تلك الجثة تخرج للحي وتتلبّس زواياه وزقاقاته الصغيرة كأنها تمارس فعل انتقام صامت ومثابر على طريقتها".

في فصل "الخارطة العمياء" ينقل لنا طفيلي سيرة صالح اليحفوف، زميله الكفيف في مدرسة المكفوفين الإنجيلية، الذي كان يحفظ خارطة الشارع كلّها عبر اللمس. ها هنا راح فادي ينقل القارئ بين أبنية الحيّ وجدرانه، عارضًا تاريخها وهندستها، ومن يسكن فيها. وفي فصل "فاصل المدينة الميتافيزيقي" يخبّر عن نشوء مقبرة "روضة الشهيدين" في "حرش بيروت" على الحدود الفاصلة بين المنطقتين؛ الشيعية والسنية، متطرّقًا إلى تكريس الوجود الشيعي على حافّة بيروت، بسبب موجات النزوح المتعاقبة، وتحوّلها من مدينة داخل الأسوار إلى مدينة "منفلشة" بلا حدود.
كتاب "اقتفاء أثر" لفادي طفيلي، طيّات فوق طيّات، متعدّد الطبقات والأعماق. لكن هذا كلّه، يشكّل سيرة واحدة يربطها خيط جثة. كتابٌ في التوثيق والتحقيق، وفي الوقت عينه ممتلئٌ بشاعرية مرهفة هادئة ومتينة التخييل.


المساهمون