اقتصاد مصر ما بين الإنتاج والتسول والرِشَى الخارجية

02 يوليو 2014
صورة أرشيفية لعبد الفتاح السيسي خلال زيارة للإمارات (getty)
+ الخط -
 

ثمة مجموعة من الدلالات تشير إلى تعقد الوضع المالي والاقتصادي في مصر حاليا، كان آخرها رفض عبد الفتاح السيسي اعتماد الموازنة العامة للبلاد، المقدمة من حكومة إبراهيم محلب للعام المالي الجديد 2014/ 2015 الذي بُدئ العمل به الثلاثاء مطلع يوليو/تموز، لارتفاع قيمة العجز البالغ قبل تعديل الموازنة 288 مليار دولار، والذي يؤدي إلى استمرار ارتفاع الدين العام الذي وصل بالفعل إلى 2.035 تريليون جنيه مصري (293.7 مليار دولار) بنهاية مارس/آذار حسب بيانات البنك المركزي المصري.

الأمر الثاني، ما ورد في خطاب السيسي بأحد المحافل العسكرية، عن صعوبة الاعتماد على الدعم الخليجي البالغ 21 مليار دولار منذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013، ودعوته المصريين إلى التقشف والتبرع لدعم مصر، قائلا إنه سيتنازل عن نصف راتبه ونصف ثروته.

والسؤال الآن: ما الحلول المتاحة أمام مصر للخروج من أزمتها المالية والاقتصادية؟

يوجد طرح لمجموعة من الحلول بعضها يتعلق بالداخل، وبعضها يتعلق بالخارج. ولكن قبل تناول هذه البدائل، علينا أن نشير إلى ملامح الأزمة الاقتصادية المصرية في عجالة سريعة.

ملامح الأزمة

هناك مجموعة من المؤشرات التي تعكس حجم الأزمة الاقتصادية في مصر، ولكن هذه المؤشرات عرض لمرض كما يقولون، مثل: معدل البطالة البالغ 13.5 % من القوى العاملة، واتساع نطاق شريحة الفقراء في المجتمع المصري حسب خط الفقر القومي، إذ تقدر نسبة الفقراء بـ 26% وفق هذا المؤشر، في حين تقدرها بعض المؤسسات بنحو 40% من عدد السكان الذي يتجاوز 90 مليون نسمة.

وحسب بيانات رسمية فقد تجاوز الدين المحلي 1.7 تريليون جنيه مصري، ووصل الدين الخارجي إلى 45.7 مليار دولار، أي أن الدين العام (المحلي + الخارجي) قد تجاوز نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي.

وكذلك عجز الموازنة الذي بلغ نحو 300 مليار جنيه مصري في العام المالي الأخير المنتهي بنهاية يونيو/حزيران 2014 بعد مساعدات خارجية قدرت بنحو 21 مليار دولار، والتصرف في وديعة الخليج التي تكونت في بداية التسعينيات والبالغ قيمتها 60 مليار جنيه مصري.

والأهم من ذلك، هو الارتباط السلبي لطبيعة العجز بالميزان التجاري المصري، والذي يصل لنحو 28 مليار دولار، ولا فكاك منه، لأن نسبة 75% من الواردات المصرية عبارة عن عدد وآلات وقطع غيار ومستلزمات إنتاج وسلع وسيطة وهي ضرورية لتحريك حركة الاقتصاد والمصانع.

وإذا أردنا أن نقف على حقيقة مشكلة مصر الاقتصادية، فهي تكمن في هيكل ناتجها المحلي الإجمالي، إذ تسيطر الخدمات على مكوناته بنسبة تصل إلى 52%، وتقود قطاع الخدمات أنشطة الاتصالات والتشييد والبناء وتجارة الجملة والتجزئة.

بينما تتراجع مساهمات قطاعات الإنتاج في الزراعة والصناعة، وخصوصاً الصناعات التحويلية، وهو ما يؤصل لضعف الاقتصاد في توليد فرص عمل حقيقية ومستقرة، كما يساهم في ضعف مردود القيمة المضافة.

أولًا: حلول الداخل

صناديق التبرعات: تجارب عدة خاضتها مصر في مجال اطلاق صناديق للتبرع لقضايا قومية أو لدعم الاقتصاد المصري.

- بعد انتصار أكتوبر 1973، تمت الدعوة للتبرع لتعمير سيناء، وإبان أزمة المديونية الخارجية لمصر في منتصف الثمانينيات تمت الدعوة للتبرع لمصلحة صندوق سداد ديون مصر، ولم يعلن بعد عن مصير هذه التبرعات.

- بعد ثورة 25 يناير دعا وزير المالية د. سمير رضوان عن فتح حساب للتبرع لدعم الاقتصاد المصري، وكانت الحصيلة ضعيفة للغاية (18 مليون جنيه مصري) ومع ذلك لم يعلن عن مصير هذا المبلغ، ثم جاءت مبادرة الشيخ محمد حسان، تحت عنوان "إغناء مصر عن المعونة الأميركية"، ولكن المبادرة ولدت ميتة، ولم يعلن بعد عن حجم ما حصلت عليه من تبرعات، أو كيفية التصرف فيها.

- بعد الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013 تم الإعلان عن حساب 306306 لدعم الاقتصاد المصري، وبلغت التبرعات نحو 150 مليون جنيه، ولم يُعلم مصير هذه الأموال.

- بعد دعوة السيسي للتبرع تحت شعار "تحيا مصر" أعلن عن تبرعات عدة، من قبل شخصيات عامة في حساب بالبنك المركزي يحمل الرقم 37037، وكانت القوات المسلحة صاحبة أكبر تبرع حتى الآن بمبلغ مليار جنيه.

ما يمكن أن نتوصل إليه، أن تجارب التبرع تسفر عن أمر مهم، هو أن التبرعات من دون تحديد سقف معين أو هدف محدد لتغطية متطلبات عامة معينة، أو وجود برامج واضحة، هي تجارب فاشلة، وسيكون مصيرها شأن سابقتها. والأمر الآخر هو إلى متى سيكون المتبرعون قادرين على تقديم نصف دخولهم أو ثرواتهم؟

الصناديق الخاصة

يمكن أن نسمي الصناديق الخاصة في مصر بالصناديق السوداء، فحتى وقتنا هذا، تفصح تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات عن عبارة مهمة، وهي "ما أمكن حصره منها"، أي أن الحصر الدقيق غير موجود، وللأسف فإن الجهاز المركزي للمحاسبات يتناول الصناديق الخاصة في الجهاز الإداري للدولة، ويهمل الصناديق الخاصة الموجودة داخل سراديب الهيئات الاقتصادية.

آخر ما أعلن عن رصيد هذه الصناديق، هو أن لديها 47 مليار جنيه، والحل المطروح أن يتم تحويل هذا الرصيد بالكامل للموازنة العامة للدولة، وأن الإيراد الدوري لهذه الصناديق يمكنه تغطية احتياجاتها، وما يزيد يرحل سنويًا إلى الموازنة.

من شأن هذا المبلغ، بالإضافة إلى صناديق الهيئات الاقتصادية التي لا يُعلم عنها شيء، أن تحدث دعمًا ملموسًا لسداد جزء من أصل الدين العام، أو دعم مشروعات استثمارية إنتاجية.

إصلاح الهيئات الاقتصادية

يبلغ عدد الهيئات الاقتصادية في مصر نحو 52 هيئة، وللأسف هذه الهيئات تحمل الدين المحلي بنحو 67 مليار جنيه، كما أن علاقتها بالموازنة العامة للدولة منذ عام 91 /1992 هي علاقة العجز والفائض، وكما يسفر تقرير وزارة المالية لعام 2013 /2014 عن مشروع الموازنة للعام نفسه، فإن نتائج علاقة هذه الهيئات بالموازنة كانت سلبية، إذ حملت الهيئات موازنة الدولة 115.1 مليار جنيه على مدار ثلاث سنوات فقط هي من 2009 /2010 – 2011/ 2012.

ويتمثل الإصلاح المأمول في هذه الهيئات في إلغاء أو ضم غير الضروري منها، وتطبيق الحد الأقصى على العاملين فيها، وضمها للموازنة العامة، إذ تبلغ موازنتها السنوية وفق بيانات عام 2013 /2014 نحو 955.9 مليار جنيه، أي أنها أزيد من الموازنة العامة للدولة في تلك السنة بنحو 200 مليار جنيه.

كما أن الصناديق الخاصة بهذه الهيئات تحتاج إلى أن تضم للخزانة العامة للدولة، لكي يتم معالجة الأزمة المالية بشكل صحيح. وأن يتم التخلص من ظاهرة المستشارين في هذه الهيئات.

الحد الأقصى للأجور

الإجراء الذي اتخذته حكومة حازم الببلاوي للحد الأدنى للدخل، لم يتم بموجب قانون، ولكن في إطار تحسين العلاوات، كما أن المرسوم بقانون الصادر من المجلس العسكري إبان المرحلة الانتقالية الأولى عن الحد الأقصى للأجور، فرغه من مضمونه، إذ لم يتناول المؤسسات المالية (البنوك، شركات التأمين، البورصة) ولا الهيئات الاقتصادية، ولا شركات قطاع الأعمال العام، وهو الأمر نفسه الذي تكرر في حكومة محلب الحالية.

ومن الغريب أنه منذ شهر تقريبًا، صرح وزير المالية الحالي قدري دميان بأن قانون الحد الأقصى غير دستوري، وأنه يفضي إلى هروب الكفاءات من الجهاز الحكومي، وهو ما تقرر في اجتماع الحكومة مؤخرًا برئاسة إبراهيم محلب، بالتأكيد على تطبيق الحد الأقصى للأجور بنسبة 35:1 ضعف، ولكن في الجهاز الإداري للدولة.

إن التطبيق الأجوف للحد الأقصى للأجور ساهم في أن يعلن وزير المالية هاني دميان بأن التطبيق أفضى إلى توفير 200 مليون جنيه فقط. إن من شأن تطبيق الحد الأقصى للدخول وليس الأجور في مصر أن يسمح بوفورات تقدر بنحو 30 مليار جنيه.

حلول الخارج

اتفاق صندوق النقد

الملاحظ أن حكومة محلب ومن قبلها حكومة الببلاوي، قامتا بتجهيز ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ومن المتوقع أن يتم التفاوض على قرض بقيمة 6.4 مليار دولار، بما يمثل أربعة أضعاف حصة مصر، نظرًا لاتساع حجم الفجوة التمويلية والتي تقدر بنحو 47 مليار دولار.

أجندة الصندوق ليست سرًا، فهي تركز على إجراءات هيكلية، من شأنها تقليل العجز في الموازنة، من خلال إلغاء الدعم وزيادة الضرائب، وهذه الإجراءات مجربة من قبل في مصر، وكان لها تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية السيئة والخطرة، ومن شأن تطبيقها دفعة واحدة ودون مراعاة لشريحة الفقراء ومحدودي الدخل، أن يكون لها رد فعل سلبي في الشارع.

إن من شأن توقيع اتفاق بين مصر وصندوق النقد، أن يفسح في المجال للاقتراض من الخارج، وهو ما أفصح عنه وزير المالية هاني دميان، من أن مصر تدرس طرح سندات في الخارج، لسد الفجوة التمويلية. ولكن تبقى المشكلة في تكلفة الاقتراض، والعودة مرة أخرى لأزمة مديونية خارجية جديدة.

واقتصاديا من الخطأ أن يتم استبدال الديون الخارجية بالديون المحلية، فقد توسعت الحكومة بشكل كبير في المديونية المحلية، وأصبحت تزاحم قطاع الأعمال في الاقتراض من البنوك، مما أثر سلبًا على الاستثمار، وزيادة معدلات البطالة والفقر.

الدعم العربي

اتضح خلال العام الماضي، أن الدعم الخليجي مقصور على تقديم بضعة مليارات من الدولارات في شكل مساعدات وودائع في البنك المركزي وقروض، وهي في سبيلها إلى التقلص خلال المرحلة المقبلة، فأحسن التقديرات تشير إلى أن الدعم الخليجي قد يصل إلى 16 مليار دولار في العام المالي 2014 /2015. بعد أن قدر بنحو 22 مليار دولار في العام الفائت 2013 /2014.

إن ما يستدعي وصف الدعم الخليجي لمصر خلال المرحلة المقبلة بالضعيف، هو عدم رغبة هذه الدول في زيادة استثماراتها المباشرة في مصر، فكل من (السعودية والإمارات والكويت) تمتلك صناديق سيادية تقدر أصولها المالية بنحو 1.8 تريليون دولار في يناير 2014، ومع ذلك لم تقدم هذه الصناديق السيادية على الاستثمار في مصر بمبلغ 100 مليار دولار مثلًا، وهذا المبلغ من شأنه أن يصلح أمر الاقتصاد المصري على مدار خمس سنوات.

ثمن الدور الأمني لمصر

أدت مصر دورًا أمنيًا أو عسكريًا في الخليج في عام 1990، وكان مردوده إسقاط 50% من ديون مصر في نادي باريس، فضلًا عن إسقاط ديون عسكرية أميركية بنحو 6.7 مليار دولار، وديون خليجية بمثل هذا المبلغ.

ويرى البعض أن زيارة أحد المسؤولين العراقيين للسيسي وإعلانه عن استعداد العراق لدعم الاقتصاد المصري، أو ما يقال عن دور لمصر في مواجهة ما يسمى "الإرهاب" في كل من العراق وليبيا، ينال استحسان دول الخليج وإيران والجزائر والعراق.

وهذا الدور بلا شك لن يكون بلا ثمن. ولكن ما حقيقته، وما المردود الاقتصادي المنتظر منه لمصر، هذا ما ستفصح عنه نتائج الأيام المقبلة.

خلاصة

خلص تقويم تجربة الاصلاح الاقتصادي في مصر في مطلع التسعينيات، بأنها لم تنجح في تحويل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد إنتاجي، على الرغم من تحقيق نجاحات في السياسات النقدية والمالية.

ولذلك فإن أياً من الحلول المطروحة في الداخل أو من الخارج، أو الدمج بينها، لن يصل إلى نتيجة، ما لم يركز على خلق قاعدة إنتاجية، تلبي احتياجات مصر الأساسية ذاتيًا، وبخاصة في مجال الغذاء، والدواء، والسلاح.

إن أية حلول أو بدائل سواء مما ذكرت في هذا التحليل أو خلافه، من دون الأخذ في الاعتبار الوصول إلى اقتصاد إنتاجي، ستكون نتائجها محدودة ولفترة زمنية قصيرة، ثم تكون مصر على موعد مع أزمة اقتصادية أخرى.

المساهمون