صحيح أن رئيسة بلدية باريس، آن هيدالغو، الحريصة على ولاية انتخابية ثانية، ووزير الداخلية، كريستوف كاستانير، حضرا مراسم متواضعة تذكّر بهذه المناسبة، ولكن الأجواء الصاخبة أصبحت في ذمة التاريخ. وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام واصلت التركيز، أمس، على هذا الحدث، إلا أن هموم الفرنسيين الأخرى، وخاصة إصلاح التقاعد، هي التي تشغل بالهم، في الحاضر، وفي المستقبل.
إذ ولّت الفترة التي حصلت فيها الصحيفة على مساعدات حكومية مجزية وتبرعات شعبية، وحيث بيع أحد أعدادها بالملايين (8 ملايين نسخة)، وأصبحت، رغم عافيتها المالية (20 مليون يورو)، صحيفة عادية، تتحدث عن نفسها من حين لآخر، من خلال مهاجمة الإسلام، أو التهكم على رموز، وكان آخرها السخرية من قتلى فرنسا في دول الساحل والصحراء، وهو ما أغضب قادة عسكريين فرنسيين سامين.
الصحيفة الفرنسية الساخرة تصدُر كل يوم أربعاء، ولكنها صدرت يوم أمس الثلاثاء، حيث تصادف العدد مع الذكرى المؤلمة الخامسة. ويبدو العدد الخاص بهذه المناسبة، وكأنه اعترافٌ بأن الصحيفة لم تنجح في كل شيء، أو كأن الدرس لم يُستَوْعب، بشكل. وكان العنوان عن "رقابات جديدة" و"ديكتاتوريات جديدة". ويكتُبُ محامي الصحيفة، ربشار مالكا، عن العدالة الفرنسية، ممتدحاً بعض قراراتها، ومنها ما سطرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان يوم 2 أغسطس/تموز 2018، من أن "من يختار ممارسة حرية التعبير عن دينه يجب عليه أن يتسامح ويقبل رفض الآخرين، بل وحتى بروباغاندا آخرين مُعارِضة لإيمانه.."، ولكن نفس المحامي يعبر عن القلق لأن المجتمع الفرنسي له نزوعٌ نحو التحريم.
ومن جهته عبّر مدير الصحيفة، ريس، في افتتاحيته "وُجوهُ الرقابة الجديدةُ"، عن خيبة أمله من انبثاق "رقابات جديدة": "كنا نعتقد أن الديانات فقط من كانت تمتلك الرغبة في فرض عقائدها علينا. ولكننا كنا مخطئين". ثم صبّ غضبه على شبكات التواصل الاجتماعي: "لقد أتاح تطور شبكات التواصل الاجتماعي بث آراء مختلفة، وأحيانا مثمرة، ولكنها أحيانا ظلامية، تدعو إلى المقاطعة وإلى الإدانة وإلى شجب وجهات النظر اللانمطية..." وأضاف بأن "صحيفة شارلي إيبدو، كانت هدفا لهؤلاء الممارِسين الجدد للرقابة، الذين يتحولون، بنقرة واحدة، إلى أنبياء في دياناتهم، ويقومون بإطلاق فتاوى ضد المجدِّفين..."
ثم ينتقد أحزاب اليسار التي وصلت إلى السلطة في أوروبا وفي أميركا الجنوبية، التي "لم تغيّر الحياة"، كما كان يأمُلُ فرانسوا ميتران، "ومن أجل تناسي تنازلاتهم وفشلهم، اندفعوا في اتجاه آخر، يتعلق بإعلان نظام أخلاقي جديد، طموحه الحلول محل النظام الأخلاقي الرجعي السابق المُرتكِز على العائلة والسلطة الأبوية والكولونيالية..".
وحاولت صحيفة "ليبراسيون" التي وقفت بقوة مع "شارلي إيبدو" أثناء محنتها، وفتحت مقرها أمام ما تبقى من صحافيي شارلي، إلى أن افتتحوا مقرهم الجديد، أن تذكّر، هي الأخرى، بالمناسبة، فكرست الغلاف بعنوان "دائما شارلي"، وملفا من ست صفحات لهذا الحدث. وتساءل الملف عما تبقى من روح التعبئة التي تلت الاعتداء الذي تعرضت له الصحيفة. وفي إجابة على السؤال ينتقد أليكسي ليفريي، مؤرخ متخصص في الصحافة، "تعدد النداءات إلى الرقابة، وبشكل عام، إلى الابتعاد عن الرسوم الساخرة" ويضيف: "الدعوات إلى الرقابة تتضاعف على شبكات التواصل الاجتماعي بمجرد اعتبار رسم كاريكاتوري صادماً، لدرجة أن كل رسم هجائي يبدو حاملا في ذاته رائحة الكبريت"، و"باسم الاحترام الواجب للأشخاص والجماعات، فإن كل انتقاد للديانات أصبح مريبا".
كما تحدثت ليبراسيون في مقال ضمه الملف، عن "اليهود الفرنسيين الذين لا يزالون يشعرون بالخوف"، في إشارة إلى الهجوم الذي ضرب متجرا يهوديا في العاصمة الفرنسية، في اليوم التالي للهجوم على "شارلي إيبدو".
بعد خمس سنوات على الاعتداء، قرر العديد من الصحافيين والكتاب مغادرة المركب، بسبب خلافات مع مدير الصحيفة، لوران سوريسو، الملقب ريس، منهم إيريك بورتيول، المدير المالي الذي يمتلك ثلث الرأسمال، وأيضا المغربية زينب الغزوي (التي كانت متخصصة في انتقاد الإسلام السياسي والحجاب)، ولوران ليجي، والرسام لوز، وأيضا طبيب الاستعجالات، باتريك بيلّو..
وبالمناسبة أيضاً، أجرت مجلة "سيني" لشهر يناير/كانون الثاني 2020، لقاء مع كْلُوي، زوجة الرسام تينيوس، الذي قضى في الهجوم على "شارلي إيبدو"، وتتحدث عن نفاق الطبقة السياسية، وتخص بالذكر الرئيس السابق فرانسوا هولاند، الذي وعدها في لقاء أول بدراسة ملفات عائلات الضحايا بشكل سريع، وفي لقاء ثان مع الرئيس، وكانت الملفات لا تزال تنتظر، فاجَأها بالقول: "جميل أن نلتقي من جديد"، فكان ردّها: "نعم جميل، خاصة بالنسبة لك"، وتضيف: "أنا لا أحمل ضغينة، ولكن السياسيين غير مهمّين". وتتحدث الأرملة بمرارة عن سوء تعامل الصحيفة معها، تتساءل عن الأموال التي جنتها الصحيفة، ولا تدري أين صُرفت: "إن ما صرفته لنا الصحيفة كان يتعلق بالتبرعات على عائلات الضحايا، وهي تبرعات وصلت إلى 4 ملايين يورو. وتلقيت 80 ألف يورو، بشكل شخصي، سألتهم كيف تُصرَف الأموال. وكل عائلة سواء كانت كبيرة أو صغيرة حصلت على نفس المبلغ...".
وتشدد على ضرورة "التمييز بين الاعتداء التي ضربت "شارلي إيبدو"، والذي كان اغتيالا سياسيا، وبين ما حصل من بعد، كاعتداءات 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 واعتداء نيس، التي استهدفت أناساً جالسين على أرصفة مقاه أو متجولين، لم يكونوا صحافيين سياسيين".