شهدت مدن جنوبي العراق وتحديداً البصرة وذي قار، تصعيداً واضحاً على مستوى الحراك الاحتجاجي الشعبي ولا سيما بعد تصاعد الهجمات ضد الناشطين والمتظاهرين، والتي ولّدت رد فعل غير مسبوق لدى المحتجين تمثّل بإقدام مجموعة منهم بواسطة جرافات تم استئجارها، على هدم مقرات أحزاب أبرزها "الدعوة"، و"تيار الحكمة"، و"حركة صادقون". وكان من بين هؤلاء المحتجين أقرباء للمتظاهرين الـ11 الذين أصيبوا بهجوم بواسطة عبوة ناسفة استهدفت ساحة اعتصام مدينة الناصرية (مركز محافظة ذي قار) في ساعة متأخرة من ليل الجمعة. ويأتي ذلك مع عودة التحشيد الواضح إلى ساحة الحبوبي بمدينة الناصرية، في وقت تشهد البصرة بدورها تحشيداً أمنياً واضحاً، تمّ على إثره سحب كل تراخيص السيارات التي يتم استثناؤها من التفتيش في نقاط وحواجز أمنية داخل المدينة، وسط مغادرة ناشطين بارزين البصرة نحو بغداد والنجف وكربلاء بسبب مخاوف من تصفيتهم.
وفي المجمل، يتركّز التصعيد في الجنوب العراقي بمدينتي البصرة والناصرية، في وقت يؤكد ناشطون أنّ تحشيدا بدأ من قبل ناشطين في بابل والمثنى والقادسية وواسط أيضاً لتنظيم تظاهرات تنديداً باغتيال الناشطين. وخلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، أحرق محتجون أجزاء واسعة من مبنى مكتب البرلمان العراقي في البصرة، قبل أن تندلع مواجهات بينهم وبين قوات الأمن وسط المدينة، وذلك بعد ساعات من تسريب ناشطين محادثة لنائبتين في البرلمان عن تحالف "الفتح"، المدعوم إيرانياً، وصفتا فيها المتظاهرين بأنهم مخربون مدفوعو الثمن. وقد أسفرت المواجهات عن إصابة نحو 10 متظاهرين بجروح. وقالت مصادر مطلعة في البصرة لـ"العربي الجديد"، إنّ قيادات أمنية في المحافظة طلبت من بغداد العمل على وقف أي تعليقات سياسية مستفزة للمتظاهرين لمنع حدوث تصعيد أكبر، في وقت ما زالت فيه أغلب أحياء البصرة تشهد انتشاراً أمنياً كثيفاً، ضمن خطة لمواجهة عمليات اغتيال الناشطين. كما تمّ رصد فرق فنية تقوم بصيانة وتركيب كاميرات مراقبة، فضلاً عن تواجد أمني في مناطق يسكن فيها ناشطون بارزون خوفاً من استهدافهم.
أحرق محتجون أجزاء واسعة من مبنى مكتب البرلمان في البصرة
في المقابل، شهدت الناصرية تصعيداً جديداً تمثّل بتفجير داخل ساحة الاعتصام الرئيسة بالمدينة تسبب بإصابة 11 متظاهراً بينهم فتى أصيب بجروح خطيرة، وذلك بعد ساعات من تظاهرة خرج بها ناشطون ينددون بتصريحات رئيس الوزراء الأسبق وزعيم حزب "الدعوة الإسلامية" نوري المالكي، والتي وصف فيها الناصرية بأنها مدينة "ساقطة"، في إشارة إلى خروجها عن السيطرة الأمنية. وعلى إثر التفجير، أقدم متظاهرون وناشطون على هدم مبان ومقرات أحزاب مغلقة أساساً بعد أن كان تم حرقها نهاية العام الماضي إثر تفجر الاحتجاجات الشعبية، لكن يبدو أنّ هدمها الآن محاولة لإيصال رسائل تؤكّد رفض المتظاهرين لهذه الأحزاب التي تشترك في كونها جميعها مقربة من إيران، وأبرزها حزبا "الدعوة" و"الفضيلة" و"حركة صادقون" (الجناح السياسي لمليشيا "العصائب")، و"تيار الحكمة" بزعامة عمار الحكيم.
وخلال الأيام الماضية، استهدفت مجموعات مسلحة ناشطين ومحتجين بارزين في مدينة البصرة، قتل منهم أربعة هم تحسين أسامة ورهام يعقوب برفقة زميلة لها وفلاح الحساني، فيما فشلت محاولات اغتيال الناشطة لوديا ريمون والناشطين عباس صبحي وفهد الزيدي. أمّا في ساحة التحرير ببغداد، فقد أصيبت مسعفة تدعى انتصار أحمد بثلاث طلقات نارية نقلت على إثرها إلى المستشفى.
ولا يعرف المتظاهرون والناشطون سبب تصعيد الهجمات ضدهم، لكنهم يتهمون مليشيات موالية لإيران بالوقوف وراء ذلك، خصوصاً أنّ أعداد المحتجين لم تعد كما كانت خلال الأشهر الماضية، إذ يتوزعون اليوم، وعددهم بالعشرات، في خيمهم بمراكز المدن، مثل ساحة الصدرين بالنجف، وساحة الحبوبي في الناصرية، وبالقرب من مجسر الثورة في بابل، وساحة الساعة في واسط، وساحة الحسين في الديوانية في بغداد. كما ينتشرون في ساحة التحرير والعلاوي وشارع النضال والصالحية، إضافة إلى خيم متناثرة في ساحات رئيسة بمدينة البصرة. ويؤكد ناشطون لـ"العربي الجديد"، أنّ المليشيات المسلحة تتربص بالمعتصمين دونما سبب، وتسعى إلى اغتيالهم للنيل من تظاهراتهم الرافضة لسلطة الأحزاب والفصائل المسلحة.
لكن مسؤولاً عراقياً بوزارة الداخلية في بغداد، قال لـ"العربي الجديد"، إنّ "عمليات الاغتيال تندرج ضمن التصعيد الإجمالي في الملف الأمني بالعراق"، موضحاً أنه "لا يمكن عزلها عن هجمات الكاتيوشا واستهداف أرتال التحالف الدولي، لأنّ مصدرها واحد، وهي موجهة ضدّ خطوات رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في التعامل مع التظاهرات ومحاولات التهدئة". وأضاف أنّ "المنفذين هم جماعات من داخل الفصائل الولائية (الموالية لإيران)"، كاشفاً عن "صدور أمر قبض بحق ثلاثة مشتبه بهم بالتورط في استهداف ناشطين في البصرة، لكن حتى الآن لم يتم تنفيذ أمر الاعتقال لمجهولية مكان إقامة المشتبه بهم".
ووجه أكثر من 134 ناشطاً عراقياً من مختلف المحافظات في العراق، أمس السبت، نداءً عاجلاً إلى الحكومة وإلى المجتمع الدولي للتدخل، على خلفية تلقيهم تهديدات يومية بالتصفية. ونشر الناشطون بياناً عبروا فيه عن مخاوفهم من عمليات التحريض ضدهم التي تجري على مواقع التواصل الاجتماعي، وأشاروا إلى "تقارير موثوقة عن وقوع عشر محاولات اغتيال في بابل وبغداد والبصرة وذي قار خلال شهر أغسطس/آب الحالي"، مطالبين الحكومة بالتصدي لجميع التهديدات وعمليات التصفية التي تطاول المدافعين عن حقوق الإنسان ونشطاء المجتمع المدني، إضافة إلى دعوتهم المجتمع الدولي إلى دعم جهود المدافعين عن حقوق الإنسان في العراق.
مسؤول: عمليات الاغتيال تندرج ضمن التصعيد في الملف الأمني
وقال ناشط وصحافي من البصرة لـ"العربي الجديد"، إنّ "المليشيات هي التي تسيطر حالياً على المشهد الأمني وهي التي تتحكم بقرارات المحافظة من خلال علاقاتها المتينة مع المحافظ أسعد العيداني"، مضيفاً أنه "خلال اليومين الماضيين، شهدت البصرة حالة كانت قد عرفتها خلال عام 2018، وهي هرب الناشطين والصحافيين والإعلاميين والمؤثرين على مستوى ساحات الاحتجاج من المدينة". وأشار الناشط نفسه الذي تحدث بشرط عدم ذكر اسمه كونه مهددا من قبل المليشيات وفق قوله، إلى أنّ "خيم الاعتصام شهدت تراجعاً بأعداد الشبان الرافضين للحكومة الحالية وسلطة العصابات وكذلك الشبان من دعاة الدولة المدنية، عقب عودة اغتيال الناشطين أخيراً".
ولفت إلى أنّ "المحافظة وعقب التوتر الأمني الذي حصل بعد اغتيال ناشطين كانت آخرهم رهام يعقوب، شهدت زيارة لوزير الداخلية عثمان الغانمي وعدد من المسؤولين الأمنيين، لكن من دون أي تغيير على مستوى سلطة المليشيات. حتى أنّ إقالة قائد شرطة البصرة رشيد فليح، وهو أبرز القادة العسكريين المتورطين بقمع الاحتجاجات في المدينة، لم تكن مرضية للأهالي". وأكد أنّ "المطلب الحالي للمتظاهرين في المدينة، هو إغلاق جميع مقرات الفصائل المسلحة وتسليم الملف الأمني للجيش العراقي وجهاز مكافحة الإرهاب فقط".
أما الناشط من مدينة الناصرية أحمد حديد، فقال في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ "المليشيات المعروفة في المدينة والمسيطرة على قرارات الحكومة المحلية، بلغت مرحلة متقدمة من الإجرام، إذ إنها باشرت باستخدام طرق عنفية جديدة، مثل استخدام العبوات الناسفة لترهيب المتظاهرين". وأكد أنّ "المتظاهرين في المدينة يخشون من تطور طرق إرهاب المحتجين واغتيالهم، ولكنهم فرحون في الوقت نفسه، كون ردود فعل المليشيات تؤكد المأساة الكبيرة التي تمرّ بها، وأنها أفلست وبلغت مرحلة اللاجدوى في معالجة أزماتها الداخلية من جهة، والحكومية من جهة ثانية".
من جهته، نفى عادل الكرعاوي، المتحدث باسم جماعة "أنصار الله الأوفياء"، وهي فصيل مسلح يوالي المرشد الإيراني علي خامنئي ويعمل في العراق ضمن هيئة "الحشد الشعبي"، أن تكون هناك "علاقة للفصائل المسلحة بجرائم اغتيال الناشطين"، معتبراً أنّ "هذه الادعاءات هي لتشويه صورة فصائل المقاومة الإسلامية".
وأضاف الكرعاوي في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ "هناك أكثر من طرف يستفيد من تشويه صورة المقاومة الإسلامية في العراق، ومنهم الأطراف الخليجية التي تعمل على دعم بعض الناشطين في الاحتجاجات"، موضحاً أنّ "أطرافاً عراقية، وبعضها حكومية، تستفيد من استمرار نزيف الدم من أجل تمرير قرارات تضرّ بالحشد الشعبي ومقراته وقادته".
إلى ذلك، قال عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، بدر الزيادي، إنّ "الحكومة العراقية مسؤولة عن متابعة ملف المحافظات الجنوبية ومعرفة الجهات التي تعبث بأمن المواطنين وتقتل وتهدد الناشطين، وتقع هذه المسؤولية على رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، كونه القائد العام للقوات المسلحة". وأوضح في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، أنّ "كل المؤشرات تشير إلى جهات تخريبية تعمل على تأجيج الرأي العام تجاه قضايا حساسة، ولا بدّ من إجراء تعديلات في الخطط الأمنية، ونشر مزيد من قوات الأجهزة الأمنية في البصرة والناصرية، وتعزيز الجهد الاستخباراتي في سبيل التوصل إلى المتورطين بجرائم الاغتيال التي يرفضها الجميع".