اعتصام القصبة 2.. الاحتجاج ضمير معلن تقديره حرية

14 يناير 2015
احتمالات الاستمرار بنفس الزخم كانت ضعيفة (الأناضول)
+ الخط -

يمكن اعتبار حركة الاعتصامات العديدة والمتكررة من أبرز معالم الثورة التونسية كشكل احتجاجي جديد في المشهد السياسي التونسي والعربي عموماً.. وهو اقتراح لتعبيرة نضالية متفردة أظهرت قدرة كبيرة جداً على الذهاب بعيداً في اختراق الحس الجمعي وكسب تعاطفه وتأييده، وكذلك انخراط شرائح اجتماعية متباعدة طبقياً ومختلفة ثقافياً فيها. ولعل اعتصام القصبة 2 نموذج رائد ودالٌّ بقوة على قدرة الحشد الشعبي النوعي والفاعل على إحداث تغييرات مفصلية في التاريخ.

انطلق يوم 20 فبراير/شباط 2011، بعد مظاهرة كبيرة في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة نادت بالقطع النهائي مع نظام المخلوع بن علي ورموزه، وكذلك استجابة لنداء شباب الثورة المقموع بوحشية بقايا بوليس بن علي في اعتصام القصبة 1 الذي تم فضه يوم 28 يناير/كانون الثاني 2011. وكان شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" هو العنوان المركزي لهذا الحراك، إذ تيقن أحرار تونس وشعبها المتوهج ثورة وحرية أن بقايا النظام الذي خلفه بن علي متمثلاً في رئيس وزرائه محمد الغنوشي، ومن يحيط به من وزراء ومستشارين والممسكين بالحكم طبقاً لدستور بن علي وبآليات عمله، يحاولون إنتاج نفس النظام، ولكن بشكل جديد موهمين الشعب، المتيقظ فطرياً حينها، أن تونس تتغير. يوم 20 فبراير/ شباط تداعى الأحرار من كل المحافظات، وتجمع كل الفرقاء السياسيين والتشكيلات الحزبية الممانعة، تلك التي لم تنخرط في محاولة حرف الثورة نحو معالجات سطحية مزيفة.

وشباب تونس، شاباته خاصة، حيث كان حضورهن مميزاً وفاعلاً، ولعله من أعظم تجليات الثورة التونسية حينها. وتجمع الأحرار في ساحة القصبة، وهي الساحة المقابلة لقصر الحكومة، وقرروا الاعتصام. اعتصام .. اعتصام حتى يسقط النظام.. مدعومين من عموم أبناء الشعب بكل شرائحه وتوجهاته، حيث أن مستلزمات واحتياجات المعتصمين وفّرها الحشد الكبير والهائل من التونسيين الذين دعموا الاعتصام، والذين أتوا من كل الجهات وكذلك قام أبناء الأحياء الشعبية المجاورة بتأمين المعتصمين من محاولات التشويش والاختراق أو الهجوم من البوليس. الكل اختار موقعه تحت الشمس بمسؤولية وعطاء وإيثار مدهش، ولكنها الحقيقة..

خيمة إعلام، خيمة طبية، خيمة تلقي المساعدات، خيمة تخزين المؤونة وتوزيعها على المعتصمين، لجنة التأمين والحراسة.. القصبة قبلة الأحرار وترنيمة روح الثورة. في القصبة عُقد أول مجلس وطني للثورة، ولو بشكل تلقائي، وذلك من خلال تمثيلية الجهات وشباب الثورة. صور الشهداء تحتفي بنا ونلتحف أمانتهم. هناك في كل خيمة صورة شهيد وأم شهيد ووصية شهيد، كل صباح كنا نقبّل أيادي أمهات الشهداء ولا نقدر على النظر إلى أعينهم. كان حزنهن أقوى من الرصاص. في خيمة أخرى شيخ قارب السبعين، وقار شيبته يهز الكيان.

أحد الأصدقاء وكان رفيقه في الخيمة، روى لي أنه من أتباع إحدى الطرق الصوفية وتاجر معروف في مدينته (من مدينة قربة) التحق بالاعتصام، لأنه يريد أن يقابل الله بكلمة حق. وفي مكان آخر وعند زاوية وزارة المالية المحاذية للكتابة العامة للحكومة، كلمات مسربة لأحمد فؤاد نجم، وهمس للشيخ إمام، ودندنة حزينة لقمنِ أوتار قيثارة حزينة غائبة تقديرَها المختلف.. هذه تونس في القصبة ترفض الانحناء.. حالة التحام أسطورية بين الفكرة وصناعها.. بين الحرية والأحرار.. ولعل يوم الجمعة 25 فبراير/شباط 2011، كان واحداً من أبرز معالم هذا الاعتصام الملحمة.. جمعة الغضب.. حيث عرفت تونس أضخم صلاة جمعة في تاريخها.. مئات الآلاف تجمعوا في ذلك اليوم العظيم والكل بصوت واحد" آمين.. بعد كل دعاء من خطيب الجمعة الذي أمَّ الناس يومها في ساحة القصبة، وأذكر يومها حالة الخشوع والتجلي الصوفي التي رأيتها على ملامح بعض الأصدقاء من الماركسيين ومن غير الملتزمين دينياً، وهم بين المصلين رافعين أيديهم للسماء: آمين.. والثورة أمانة. أتذكر يومها إحدى المناضلات من حزب ماركسي همست في أذن محجبة تقف بجانبها، فابتسمت الأخيرة وأخرجت حجاباً من حقيبتها وسلمته لها حتى تدعه على رأسها أثناء خطبة الجمعة. هذا هو اعتصام القصبة 2. لا لون إلا لون الإنسان غير القابل للتأطير والخارج عن النواميس السلطانية وانتماؤه للحرية وللحرية فقط. وفي نفس ذلك اليوم.. يوم الجمعة 25 فبراير/شباط استشهد خمسة شبان في مواجهات مع البوليس في شارع الحبيب بورقيبة، قريباً من وزارة الداخلية، وكأن الرسالة قد وصلت بضمان الدم.. المعركة متواصلة مع جيوب الردة وغطرستها ووحشيتها.. وواصلتها حرائر وأحرار الاعتصام أياماً بعد ذلك في ظروف مناخية قاسية جداً، أمطار وبرد شديد ومحاصرة من البوليس وإرهاب خفي من ميليشيا غير معلومة الهوية، ولكنها معلومة الأهداف.. وتواصل الاعتصام إلى غاية إعلان الرئيس المؤقت حينها فؤاد المبزع، عن إقالة محمد الغنوشي وتعيين شخصية أخرى لإدارة حكومة تسيير أعمال وتحديد موعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي.. وتحسس المعتصمون حينها بأن شيئاً ما يحدث.. نقاش وحوارات بين مختلف فعاليات الاعتصام.. نواصل الاعتصام؟؟ نعلق الاعتصام؟ وتبقى الخيارات مفتوحة؟؟ احتمالات الاستمرار بنفس الزخم كانت ضعيفة، خاصة مع ترحيب شريحة كبيرة من الناس بهذا الإجراء. وفي الأخير تم تعليق الاعتصام يوم 3 مارس/آذار 2011، وغادر المعتصمون الساحة يوم 4 مارس/آذار 2011، ولكن أرواحهم بقيت معلقة بين صورة شهيد وصوت مؤذن جامع الزيتونة المحاذي لساحة القصبة، ولم تغادر شعارات الثورة وشارات النصر كينونتهم التي احتضنت الوطن حباً وطواعية.

لا يمكن اختزال اعتصام القصبة 2 في كلمات أو وقائع، فهو عصي على التطويع لأنه جمال الثورة النقية.. تشعر به ولا تستطيع أن تصفه.. كالحب! ومادمنا نعشق الحرية، فإننا في حالة حب دائمة.. في اعتصام دائم.

واستمر الاعتصام في أرواح الذين شاركوا فيه وأصبح وشماً في ذاكرة الشعب التونسي، معه وبه أدرك أحرار تونس أن المستحيل ليس تونسياً.


*تونس

المساهمون