14 فبراير 2018
استِقلالُ كردِستان.. سرابٌ لا يختَفي
في نهايةِ يناير/ كانون الثاني 2016 ، عجَّت مدينةُ أربيل في كردستان العراق بِشائعاتٍ حولَ الاستِقلال والانفِصالِ عن الدولةِ العراقيَّة، والاستِفتاء بخصوصِ حقِّ تقريرِ المصير. فقد أعلنَ رئيسُ حكومةِ إقليمِ كردستان، مسعود البرزاني، في مقابلةٍ له مع صحيفةِ الغارديان أنَّ الاستِقلالَ لم يكنَ وَشيكاً كما هو اليوم، وأنَّ قادةَ العالمِ فهِموا، أخيراً، أنَّ الحدودَ التي رُسِمت عام 1916 إثر اتفاقِيَّة سايكس بيكو في طريقَها إلى الزوال. ووِفقاً للإعلامِ المحلي، كرَّرَ رئيسُ الوزَراءِ فَحوى تصريحه هذا أمامَ الجنرال لويْد أوستن، الذي يترأَّسُ القيادةَ المركزيَّة الأميركيَّة (سنتكوم) في أربيل. وما لبثَ أن أعلنَ، بعدَ ذلكَ بأيَّام، في بدايةِ فبراير/شباط الجاري، عن استِفتاءٍ حولَ الاستقلال.
يفسِّرُ تطوُّرُ الأحداثِ المُذهِل في المنطقةِ عودةَ المسألةِ الكرديَّة في الشرقِ الأوسط، فقد أدّى هجومُ تنظيمِ الدولةِ الإسلاميَّةِ في يوليو/ تموز 2014 إلى سيطرةِ الجهاديين على الموصلِ، لكنَّه أدَّى، أيضاً، إلى انهِيارِ الجيش العراقي. فاغتَنم البشمركة الفرصةَ للسيطرةِ على كركوك، وهي مدينةٌ غنيَّةٌ جدّاً بالبترولِ، وموضعُ مُطالبة قديمةٍ لدى الكُرد (علماً بأن سكّانَ المدينةِ ليسوا كلُّهم كرداً والسلطات الكرديَّة تطالبُ بإحصاءٍ بهدفِ تحديدِ نسبةِ الكردِ فيها). أصبحَت معظمُ الأراضي التي يطالبُ بها الكُردُ تحتَ سيطرتِهم، وكذلك ثرواتُ الطاقةِ المرتبطةِ بتلك الأراضي. فهل هذا يعني أنَّ استقلالَهم باتَ اليومَ على منالٍ منهم ؟
تمتدُّ الطريقُ بين أربيل والسليمانيَّة على أكثرِ من 200 كيلومترٍ. هي الطريقُ المعبَّدةُ عينُها التي تربطُ منذُ عقودٍ شرقَ البلاد بغربِها. تحملُ تلك الطريقُ اسمَ هارشي هاميلتون، وهو اسمُ المهندسِ النيوزيلندي الذي شقَّها بين 1928 و1932، إبّان الاستِعمارِ البريطاني. ساهمَت الطريق في انفتاحِ تلكَ المِنطقة الجبليَّةِ الواقِعةِ على مَقربةٍ من تركيا وإيران. منذُ ذلكَ الزمنِ الغابر، لم يتمَّ فتحُ أيّةِ طريقٍ تصلُ الشرقَ بالغرب، إذ آثرت الحكومة المركزيَّة العراقيَّة فتحَ طرقاتٍ من الشمالِ إلى الجنوب ـ باتِّجاهِ بغداد. وكانت حريصةً على تَفادي تشجيعِ الوِحدةِ الكُرديَّةِ واستقلاليَّتها.
إلّا أنَّه، بعد سقوطِ نظام صدّام حسين عام 2003، وتأسيسِ حكومةِ إقليم كردستان، تمَّ تأسيسُ شبكةِ مواصلاتٍ أكثر كثافة، ناهيكَ عن مطاراتٍ دوليَّةٍ في أربيل (2003) والسليمانِيَّة (2005)، بالإضافةِ إلى مطارِ دهوك، المتوقَّع الانتهاء منه في غضونِ أشهر، إن سمحَت الأزمةُ الاقتصاديَّةُ بذلك.
على مسافةٍ من المدينتين، نجدُ مدينةَ كو يه، وهي متوسِّطةٌ يبلغُ عددُ سكَّانِها ما يقاربُ المائة
ألف نسمة، وفيها اليومَ جامِعة. ونحنُ نَتوغّلُ في قلبِ الإقليم، إذ بنا نَتعرَّضُ لتفتيشٍ دقيق، ليسَ الهدفُ منه أمنِيّاً بقدرِ ما هو الإشارةُ إلى أنَّنا ندخلُ تحتَ سيطرةِ سلطة أخرى. فتحلُّ الراياتُ الخضراءُ للاتِّحاد الوطنيّ الكُردِستانيّ الذي يرأسُه جلال طالباني مَحلَّ عَلمِ حكومةِ إقليمِ كردستان (الـمَطبوع بشمسٍ مُشعّة، والشمسُ رمزٌ زرادِشتيٌّ قديم). على جانِبَي الطريق، تَكثُرُ صورُ الّذين قَضَوْا في المعاركِ خلالَ مجابهاتِهم مع تنظيمِ الدولة. تنقسِمُ حكومةُ إقليمِ كردستان إدارياً إلى أربعِ مُحافظات (أربيل، دهوك، السليمانية، ومحافظة حلبجة الجديدة نسبةً إلى المدينة ِالتي قامَت قوّاتُ صدّام حسين بإبادةِ سكّانِها الكُردِ بالأسلِحةِ الكيميائيَّة عام 1988)، إلّا أنّها سياسيّاً، تنقسمُ إلى قسمين: فالحزبُ الديمقراطيُّ الكردستاني الذي يرأسُه مسعود البارزاني (ابن مُصطفى بارزاني، رمزٌ من رموزِ النضالِ الكردي) يسيطرُ على مُحافظتَي أربيل ودهوك، بينما يسيطرُ الاتحادُ الوطنيُّ الكردستانيُّ على مُحافظتَيْ السليمانيّة وحلبجة. يقومُ كلٌّ من الحزبَين بتدريبِ مقاتِليه في أكاديميَّةٍ عسكريَّةٍ مُنفصِلة، ويبتُّ وحدَه في أمرِ إرسالِهم أو عدمِ إرسالِهم إلى الجَبهة. وحتى فترةٍ ليسَت بعيدةٍ، لطالَما حاولَ الحزبُ الديمقراطيُّ الكردستانيُّ والاتِّحادُ الوطنيُّ الكردستانيُّ أن يهيمِنَ واحدُهما على الآخر بقوَّة السلاح؛ ووصلَ الأمرُ بالحزبِ الديمقراطيِّ الكردستانيِّ إلى طلبِ مساعدةِ صدّام، الذي أرسَلَ بدبّاباتٍ لدحرِ منافسِه.
في نهايةِ عام 2009، ظهرَ حزبُ كوران (التغيير) ليناهِضَ الحزبين التاريخِيَّين، وبسرعةٍ أصبحَ ثاني أكبرَ قوّةٍ انتِخابيّةٍ في البلادِ، بعد الحزبِ الديمقراطيِّ الكردِستاني.
ها هي السليمانيةُ تلوحُ، أخيراً، مُتَّكِئةً إلى سفوحِ جبال زاغروس، التي تُغطّيها الثلوج، وهي أكبرُ سلسلةٍ جبليّةٍ في العراق، وتمتدُّ داخلَ إيران. وتَعتدُّ السليمانيَّة التي يبلغُ عددُ سكّانِها ما يقاربُ المليونَ نسمة، بكونِها العاصمةَ الثقافيَّة للإقليمِ، إذ توجد فيها الجامِعات، والمقاهي حيث يَلتقي جيلٌ من شبّانٍ وشابّاتٍ مُتعطِّشين للنِقاشات، وحيث نرى صورَ تشي غيفارا ومارلين مونرو وجان بول سارتر. ولا يلبثُ أن يتَماكَر راوٍ من أهلِها، ويَروي أنَّ أربيلَ لم تكن لتصبحَ "عاصمة"، لولا إرادة صدّام حسين الذي وقَّع اتفاقيَّة الحكمِ الذاتيِّ عام 1974.
سجن السليمانيّة الأحمر
"السجن الأحمر". ما مِن مكانَ غيرَه ليفهمَ المرءُ عذاباتِ الكُرد، وصبرَهم على المآسي وديمومةَ حلمِهم بالاستِقلال. فيهِ سُجِنَ آلافُ المناضِلين. أسست هذا المتحَف هيروخان، زوجة جِلال الطالباني، ويديرُه آكو غريب، وهو بشمركة وسجينٌ سابق، فنانٌ عمرُه 55 سنة، ورئيسُ جمعيَّةِ صداقةٍ فرنسيَّة – كرديَّة، اسمُها ديالوغ. يرافِقُ بنفسِه زوار المتحف، لا سيَّما الأجانبَ منهم، وقد زارته آن هيدالغو، رئيسةُ بلديَّة باريس في أكتوبر/تشرين الأول 2015، كما يزورُ المتحفَ طلّابُ المدارس، كي لا ينسوا أبداً تاريخَهم.
ينتصِبُ في الباحةِ تمثالٌ في آخرِ مراحِل نحتِه، يبلغُ علوُّه خمسةَ أمتار، يجسِّدُ ملاكاً فاتحاً
بلباسٍ تقليديٍّ كرديٍّ، ويرفعُ ذراعَه إلى السماء : سيتمُّ إهداءُ هذا التمثال إلى مدينةِ كوباني، رمزِ المقاومةِ ضدَّ تنظيمِ الدولة الإسلاميَّة. داخلَ قاعاتِ هذا المبنى، الذي كانَ سجناً، ثمَّةَ لوحاتٌ وتماثيلُ شمعيَّةٌ تحكي ملحمةَ المقاومةِ الكرديَّةِ ضدَّ نظام البعث العراقي. نقرأُ على إحدى البِطاقات التوضيحيَّةِ بمُحاذاة إحداها "لا أصدقاء سوى الجبال". في قاعات عِدّة، نجدُ تذكيراً بأشكالِ التعذيب الذي كانَ يتعرَّضُ له كلُّ مشبوه. كُرِّسَت مساحةٌ واسعةٌ لعملِيّات مُرقَّمةٍ من 1 إلى 8، وهي عمليّات الأنفال التي نفّذَها صدّام بين1988 و1989: أدَّت، في حينَها، إلى إبادةِ عشراتِ الآلاف من الكُرد، بالغازِ أو رَمياً بالرصاصِ واحداً تلوَ الآخر. صورٌ شمسيَّةٌ لِآلافِ "المفقودين" تَكسو الحيطانَ بتَحفُّظ. وقد اعترفَت دولٌ أوروبيَّةٌ عديدةٌ بأنَّ ما حَدثَ في الأنفال "إبادة جماعِيّة".
حدودٌ بطولِ 1000 كيلومتر
في المقهى الذي تمَّ ترتيبُه على نسقِ قاعةِ استقبالٍ كرديةٍ، بصناديقِه وقطعِه التقليديَّة، عشرةٌ من البشمركة عائدون من الجبهة، وبينهم ثلاثُ نساء، يجتمِعون حولَ طاولةٍ مُمتدَّة. يشرَح لنا آخرون، أكبرُ سنّاً وأعضاءٌ في الاتِّحاد الوطنيِّ الديمقراطي، أنَّهم يذهَبون باستمرارٍ إلى خُطوطِ الجبهة الأماميَّة، بمُهِمَّةِ إيصالِ تجربتِهم للأصغَرِ عمراً. ولكنَّ الشخصَ الذي يقودُ النقاشَ مسؤولٌ في حزبِ العُمّال الكردستاني PKK التركي، فيقولُ، وكأنَّه بذلك يبرِّرُ حضوره في هذا الجمعِ: "نحنُ نحاربُ في كلِّ مكانٍ تُطرحُ فيه المسألةُ الكرديَّة". لعبَ حزبُه دوراً مُهمّاً في مواجِهةِ تنظيمِ الدولةِ الإسلاميَّةِ في صيفِ 2014: أيَّامٌ قليلةٌ، واختفى الجنودُ العراقيّون المائة ألف فتوسّعت الخلافةُ على مساحةِ ألف كم إضافيَّة، ثم احتلَّ تنظيمُ الدولةِ الموصل وتقدَّمَ داخلَ الأراضي الكرديّة حتى مشارفِ أربيل. ويؤكِّدُ أحدُ كوادرِ الاتِّحاد الوطنيِّ الكردستاني: "لم نَكنْ جاهزين آنذاك. فقد مرَّت علينا فترةٌ طويلةٌ من السلمِ، جرّدتنا من الأسلحة. إلا أنَّ كلَّ الأحزابِ الكرديَّةِ ساهمَت بالمقاومةِ وباستِعادة الأرض". يستذكِرون أساليبَ مُحاربةِ تنظيمِ الدولة الإسلاميَّة، سياسةَ نشرِ الذعر، استخدامَه كوماندوس من الانتحاريين، الدورَ المركزيَّ الذي يلعبُه المتطوِّعون الأجانب في صفوفِه: فمعظمُ الجوازات التي تمَّ أخذُها عن الجُثثِ في عمليَّة الهجومِ المضادِّ لم تكن لعراقيّين. ويتذمَّرون كذلكَ من قِدمِ أسلحتِهم وقلَّةِ العَتادِ العسكري الذي يَصلُ إليهم من الغرب.
تمتدُّ الجبهةُ مُذّاك على أكثرَ من 1000 كيلومتر. منها 600 كيلومتر لا يواجِهُ فيها البشمركة التنظيمَ، بل المليشيات العربية الشيعيَّة العراقيَّة التي يعتبِرونها عدُوَّهما القادم. ما زِلنا بعيدين عن هذا الوضع، والعدوُّ الآنَ هو التنظيم، وكذلك تركيا. ويعتبرُ أحدُ كوادرِ حزبِ العمّالِ الكردستاني أنَّ "تنظيمَ داعش مشروعٌ تركيٌّ موجَّهٌ ضدَّ أنقرة، وغداً ضِدَّ أوروبا". وكلَّما امتدَّ الحديث، ازدادت التلميحاتُ السلبِيَّةُ الموجَّهةُ ضدَّ الحزبِ الديمقراطيِّ الكردستاني، ويذهبُ بعضُ أعضاءِ الاتِّحادِ إلى اتِّهامِ عناصرِه بالخِيانة، والتحالفِ السرّيِّ مع أنقرة.
تركيا، حليف "طبيعي"؟
"تركيا منفذُنا نحوَ أوروبا وما بعدَ أوروبا، لا سيّما وأنَّ إيران بقيَت تحتَ العقوباتِ فترةً طويلة،
وأنَّ سورية في حالةِ حرب. في البداية، كانت علاقتُنا مع أنقرة صعبة. وكانَ الأتراكُ مُعارضين أيَّة استقلالِيَّةٍ كُرديَّة. حشدَ الأتراكُ مائة ألف جنديّ على حدودِنا عام 2008، إلّا أن موقفَ أنقرة أصبحَ أكثرَ ليونةً منذ ذلك الوقت، والعلاقاتُ مع أربيل توطَّدَت". اسم المتحدث فلاح مصطفى، خمسينيٌّ يتكلَّم العربية والإنكليزية بطلاقة، وهو كادرٌ ذو نفوذٍ في الحزب الديمقراطي الكردستاني، مقرّبٌ من رئيسِ الحكومة، وبمثابة وزيرٍ فيها، إذ يشغل منصبَ "رئيس دائرة العلاقات الخارجية" في حكومة إقليم كردستان. يجدرُ بالذكرِ أنّه في كردستان لا توجدُ رسميّاً وزارةَ خارجيّة، فتلك وزارةٌ "سياديّةٌ" من صلاحيَّةِ حكومةِ بغدادَ حصراً، وفقاً لدستور 2004، إلا أنَّ حكومةَ إقليمِ كردستان تستضيفُ ما يقاربُ ثلاثين بعثةً تمثيليَّة، غالباً ما تكونُ قنصليّات تابعة لبلدانٍ عديدة، وتنتظرُ السلطات الكرديةُ بفارغِ الصبرِ افتِتاح القنصليَّة العامَّة للمملكةِ العربيَّة السعودية، كما أنَّ لإقليم كردستان ما يقاربُ 15 تمثيلاً رسمياًّ في الخارج.
لا يَفوت الوزيرَ أنَ المحيط َالإقليميَّ مُعادٍ، وأنَّ الإقليمَ محاصَرٌ من دونَ مَنفَذٍ على البحر. لذلك، تبدو له تركيا حَليفاً "طبيعياً": فهي، على عكسِ الجيران الآخرين، تستوردُ الطاقةَ التي توجد بوفرةٍ في كردستان، لا سيَّما بعدَ السيطرةِ على كركوك من البشمركة، وهي تستطيعُ، في المقابلِ، أن تقدِّمَ لكردستان الموادَّ التي تحتاجُها، كما أنَّ شركاتِ المقاولاتِ تلعبُ دوراً مهماً في العمران. ومنذُ صيفِ 2014، تغيَّر ضخُّ البترول باتِّجاه الشمال، بدلاً من المرورِ في بغداد. وباتَت تركيا اليومَ أوَّلَ بلدٍ مستثمِر في إقليمِ كردستان العراق.
هل تعقَّدت العلاقاتُ مع أنقرة بحكم عودةِ القتال ضدَّ الكردِ في تركيا، كما تدلُّ أزمةُ إقفالِ الحدودِ في منتصفِ كانون الأول/ ديسمبر والذي دامَ 22 يوماً؟ يعطي الوزيرُ جواباً حذراً: " نحن لا نعتبِرُ أنَّ حزبَ العمّالَ الكردستاني تنظيمٌ إرهابي. نصحناهم أن يقبلوا وقفَ إطلاق النار، لكنَّهم لا يريدون أن يلعبوا اللعبةَ السياسيَّة". وإن اعتبرنا "ردودَ الفعل التركية غيرَ ملائمة"، فمِن المُستبعَدِ أن تكونَ ردودَ فعلِه "المُعتدِلة" موضعَ إجماعٍ لدى الرأي العامِّ الكردي، الذي يرى الدبّاباتِ التركيّةَ تقصفُ المدنَ في الجنوبِ الشرقي، والذي يعتبرُ أنَّ النصرَ في كوباني أُحرِزَ بفضلِ حزبِ العُمّال الكردِستاني.
القطيعةُ مع بغداد
يضعُ فلاح مصطفى العلاقاتِ مع بغداد في صميم همومِه. "فنحنُ لسنا مُندَمِجين في العراق، ولا مستقلّين عنه. ولفترةٍ طويلة، ناضَلنا تحتَ شعارِ (الحرّيّةُ للعراق والحكمُ الذاتيُّ للكرد". ولكنَّ سلطةَ بغداد لا تقبلُ التفاوضَ معنا، إلّا في حالاتِ ضعفِها. ثمَّ لا تلبثُ أن تتراجعَ عن التزاماتِها ما إن تَقوى".
يبقى الوزيرُ متفائلاً في ما يتعلَّق بالاستقلال، إلّا أنَّ الحلفاءَ الغربيّين شديدو الحذر، ما إنْ يتطرَّق النقاشُ إلى تقسيمِ العراق، وذلك على الرغم من الدعمِ الذي يقدِّمونَه لحكومةِ إقليم كردستان، لا سيَّما على الصعيدِ العسكريِّ من الوِلاياتِ المتَّحِدةِ (فرنسا لها قاعدة هناك). لكنَّ الوزيرَ على يقينٍ من رأِيه: "لن يكونَ الأتراكُ مسرورين إن أعلَنَّا استقلالَنا، إنما سيتقبَّلون الوضع. لذلك نحتاجُ إلى دعمِ أوروبا". على أنّ تشيكوسلوفاكيا وهنغاريا وحدَهما دعمتا فكرة الاستقلال. وسبق أن دعمت هاتان الدولَتان بقوَّةٍ الاجتِياحَ الأميركيَّ للعِراق عام 2003، من أصلِ 28 دولةٍ في الاتِّحادِ الأوروبي. أما روسيا، فقد عملَت على توطيدِ علاقاتِها، أخيراً، مع العراقِ وطهران، لا بل وسمحَت لحزب ِالاتِّحاد الديمقراطي، وهو الامتدادُ السوري لحزب العمّال الكردستاني، بفتحِ فرعٍ له في موسكو. وأخيراً، هناك بغدادُ التي تعارِضُ أيَّ إعلانٍ أحاديّ الجانبِ للاستِقلال، على الرغم من أنَّ العلاقاتِ مجمَّدة منذُ تعليقِ الاتفاقيَّةِ على توزيعِ الموارِد (17% من الميزانيَّةِ مخصَّصةٌ لحكومةِ إقليمِ كردستان)، ولا تملكُ بغدادُ أيَّة وسيلةٍ للضغط.
انهيارٌ اقتِصادي
نرى بوضوحٍ أثرَ هبوطِ سعرِ البترول. منذُ أشهر فقط، كانت كردستان تتباهى بأنَّها "دبي الجديدة"، وكان الحديثُ فيها عن "فرصٍ لا نظيرَ لها" للمُستثمرين الأجانب. ولَكَمْ غُضَّ النظرُ عن الفسادِ الذي سمحَ بتكوينٍ سريعٍ لثرواتٍ طائلةٍ، مُرتبِطةٍ في مُعظمِ الأحيانِ، بالحزبِ الديمقراطيِّ الكردستاني، أو بالاتِّحاد الوَطنيِّ الكردستاني.
وتهدِّدُ الأزمةُ أساساتِ حكومةِ الإقليم نفسِها. فالموظَّفون في القطاعِ العام (عددُهم 1.5 مليون من أصلِ 7 ملايين نسمةٍ) وهو إجماليُّ عددِ سكان الإقليم، علماً بأنَّ الرقمَ تغيَّرَ بنسبةٍ ملحوظةٍ منذ السيطرةِ على كركوك، وهم الكتلةُ الأكبرُ من الموظَّفين، لم يَحصلوا على أجورِهم منذُ أشهر. البشمركة أنفسُهم لا يقبَضون أجورَهم إلاّ بينَ حينِ وحين، وعددُهم يقارِبُ مائتي ألف، يقضون أوقاتَهم بينَ الجبهةِ وعملِهم الاعتِيادي، لا بل إنَّ معلوماتٍ صحافيَّةً ألمانيَّةً تفيدُ بأنَّ بنادقَ وأسلحةً متطوِّرةً كانَت برلين قد قدَّمتها، يتمُّ بيعُها في الأسواقِ العامّة.
"نستطيعُ بمواردِنا أن نطعمَ 50 مليون شخصاً. بذَّرنا مواردَنا من البترول، عِوضاً عن أن نؤسِّس لاقتِصادٍ مستقل. أيادٍ وَسخة عَنِيَت بتحويلِ الأموال". هذا ما يقولُه جلال جوهر، وهو مسؤولٌ في حزبِ التغيير (كوران)، وكانَ فترةً طويلةً عضواً في المكتبِ السياسيِّ في الاتِّحادِ الوطنيِّ الكردستاني. لم يُبذلْ أيُّ جهدٍ جدِّيٍّ في الزراعة، فنجدُ عندَ الباعةِ البرتقالَ المستورد، ولا نجدُ منتوجاتٍ محلِّيَّة. ويتابعُ أنَّ كرداً كثيرين يسعَوْن إلى الهجرة. وفي ديسمبر/ كانون الأوّل 2015، أثارَ غرقُ 24 كرديّاً في بحرِ إيجة، وهم يحاوِلون الوصولَ إلى اليونان، مشاعرَ قوِيَّة. ويبدو حزبُ كوران مُستعداً لاستخدامِ الاستياءِ العام، فينظِّم احتِجاجات وإضرابات تأخذُ أحياناً مَنحىً عنيفاً.
تراكمت الديونُ. الدفعُ للشرِكاتِ توقَّف، والعديدُ منها تركَ البلاد. ولئن تمكَّنت شركاتٌ مثل كارفور، ولافارج، أوَّلُ شركةٍ مُستثمرةٍ غيرُ نفطيَّة، بالإضافةِ إلى ثلاثةِ مصانعَ إسمنتيَّةٍ، من الاستمرار، فثمّةَ شائعاتٌ كثيرةٌ تَشي بقربِ رحيلِ شركةِ توتال. وبما أنَّ حكومةَ إقليمِ كردستان لا تحظى بالاعتِراف كدولةٍ، لا يمكنُها الحصولُ على قروضٍ سياديَّةٍ من مؤسَّساتٍ دوليَّةٍ أو من دولٍ أخرى. وحدها تركيا قبلت بذلك.
رهانُ الوحدة
فالأزمةُ هذه تهدِّدُ إذاً مَكاسبَ حكومةِ إقليمِ كردستان الهشَّة: من تعدُّدِ الجامِعات، والتعايش مع الأقليات، وهو أكثرُ هشاشةً ممّا تدَّعيه السلطات، ففي الإقليم يفضَّلُ الحديثُ عن الأقليَّات كشركاء، التوسُّع العمرانيُّ والمَديني، وخدمات البُنى التحتيَّةِ والنظافة في المدن، وإعادة ترميمِ المباني والبيوت القديمة، وبعض المكاسِبِ القانونيَّةِ المتعلِّقة بحقوقِ المرأة، وأهمُّها محاربةُ خِتان الإناث، وهي مُمارسة أكثر انتشاراً هنا منها في العراق.
يزيدُ عددُ اللاجئين (1.5من النازحين العراقيين، وثلثمائة ألف من السوريين) من ضخامةِ التحدِّيات. فهل سيستطيعُ الإقليمُ، المُنغلِق جُغرافياً والمُضعف اقتِصاديّاً، أن يتَحدّى القدرَ ويَحصلَ على الاستقلال، كما يظنُّ الرئيسُ مسعود البارزاني؟ يَبقى الجوابُ في يدِ السياسيّين، إلّا أنَّ انقساماتِهم تشكِّلُ عائقاً صعبَ التجاوز. وعلى الرغم من أنَّ كلَّ الأحزابِ تدعمُ فكرةَ الاستقلال، إلّا أنها تتمزَّق في ما بينها. ثم إنَّ المرضَ ينأى بجلال طالباني عن الحياةِ السياسية، ما يزيدُ من الانقِساماتِ في وسطِ الاتِّحادِ الوطَنيِّ الكردستاني. وصلَت فترةُ الرئيس بارزاني إلى نهايتِها في 2015، من دونَ إجماعٍ على تمديدِه. وتمَّ طردُ كوران من حكومةِ الوحدةِ الوطنية، فضاعفَ الحزبُ نداءاتِه إلى التظاهر. فما هوَ السبيلُ نحوَ هَبّة اتِّحاديَّةٍ، لا بدَّ منها للوصولِ إلى الاستِقلال؟
ترجمة هناء جابر
يفسِّرُ تطوُّرُ الأحداثِ المُذهِل في المنطقةِ عودةَ المسألةِ الكرديَّة في الشرقِ الأوسط، فقد أدّى هجومُ تنظيمِ الدولةِ الإسلاميَّةِ في يوليو/ تموز 2014 إلى سيطرةِ الجهاديين على الموصلِ، لكنَّه أدَّى، أيضاً، إلى انهِيارِ الجيش العراقي. فاغتَنم البشمركة الفرصةَ للسيطرةِ على كركوك، وهي مدينةٌ غنيَّةٌ جدّاً بالبترولِ، وموضعُ مُطالبة قديمةٍ لدى الكُرد (علماً بأن سكّانَ المدينةِ ليسوا كلُّهم كرداً والسلطات الكرديَّة تطالبُ بإحصاءٍ بهدفِ تحديدِ نسبةِ الكردِ فيها). أصبحَت معظمُ الأراضي التي يطالبُ بها الكُردُ تحتَ سيطرتِهم، وكذلك ثرواتُ الطاقةِ المرتبطةِ بتلك الأراضي. فهل هذا يعني أنَّ استقلالَهم باتَ اليومَ على منالٍ منهم ؟
تمتدُّ الطريقُ بين أربيل والسليمانيَّة على أكثرِ من 200 كيلومترٍ. هي الطريقُ المعبَّدةُ عينُها التي تربطُ منذُ عقودٍ شرقَ البلاد بغربِها. تحملُ تلك الطريقُ اسمَ هارشي هاميلتون، وهو اسمُ المهندسِ النيوزيلندي الذي شقَّها بين 1928 و1932، إبّان الاستِعمارِ البريطاني. ساهمَت الطريق في انفتاحِ تلكَ المِنطقة الجبليَّةِ الواقِعةِ على مَقربةٍ من تركيا وإيران. منذُ ذلكَ الزمنِ الغابر، لم يتمَّ فتحُ أيّةِ طريقٍ تصلُ الشرقَ بالغرب، إذ آثرت الحكومة المركزيَّة العراقيَّة فتحَ طرقاتٍ من الشمالِ إلى الجنوب ـ باتِّجاهِ بغداد. وكانت حريصةً على تَفادي تشجيعِ الوِحدةِ الكُرديَّةِ واستقلاليَّتها.
إلّا أنَّه، بعد سقوطِ نظام صدّام حسين عام 2003، وتأسيسِ حكومةِ إقليم كردستان، تمَّ تأسيسُ شبكةِ مواصلاتٍ أكثر كثافة، ناهيكَ عن مطاراتٍ دوليَّةٍ في أربيل (2003) والسليمانِيَّة (2005)، بالإضافةِ إلى مطارِ دهوك، المتوقَّع الانتهاء منه في غضونِ أشهر، إن سمحَت الأزمةُ الاقتصاديَّةُ بذلك.
على مسافةٍ من المدينتين، نجدُ مدينةَ كو يه، وهي متوسِّطةٌ يبلغُ عددُ سكَّانِها ما يقاربُ المائة
في نهايةِ عام 2009، ظهرَ حزبُ كوران (التغيير) ليناهِضَ الحزبين التاريخِيَّين، وبسرعةٍ أصبحَ ثاني أكبرَ قوّةٍ انتِخابيّةٍ في البلادِ، بعد الحزبِ الديمقراطيِّ الكردِستاني.
ها هي السليمانيةُ تلوحُ، أخيراً، مُتَّكِئةً إلى سفوحِ جبال زاغروس، التي تُغطّيها الثلوج، وهي أكبرُ سلسلةٍ جبليّةٍ في العراق، وتمتدُّ داخلَ إيران. وتَعتدُّ السليمانيَّة التي يبلغُ عددُ سكّانِها ما يقاربُ المليونَ نسمة، بكونِها العاصمةَ الثقافيَّة للإقليمِ، إذ توجد فيها الجامِعات، والمقاهي حيث يَلتقي جيلٌ من شبّانٍ وشابّاتٍ مُتعطِّشين للنِقاشات، وحيث نرى صورَ تشي غيفارا ومارلين مونرو وجان بول سارتر. ولا يلبثُ أن يتَماكَر راوٍ من أهلِها، ويَروي أنَّ أربيلَ لم تكن لتصبحَ "عاصمة"، لولا إرادة صدّام حسين الذي وقَّع اتفاقيَّة الحكمِ الذاتيِّ عام 1974.
سجن السليمانيّة الأحمر
"السجن الأحمر". ما مِن مكانَ غيرَه ليفهمَ المرءُ عذاباتِ الكُرد، وصبرَهم على المآسي وديمومةَ حلمِهم بالاستِقلال. فيهِ سُجِنَ آلافُ المناضِلين. أسست هذا المتحَف هيروخان، زوجة جِلال الطالباني، ويديرُه آكو غريب، وهو بشمركة وسجينٌ سابق، فنانٌ عمرُه 55 سنة، ورئيسُ جمعيَّةِ صداقةٍ فرنسيَّة – كرديَّة، اسمُها ديالوغ. يرافِقُ بنفسِه زوار المتحف، لا سيَّما الأجانبَ منهم، وقد زارته آن هيدالغو، رئيسةُ بلديَّة باريس في أكتوبر/تشرين الأول 2015، كما يزورُ المتحفَ طلّابُ المدارس، كي لا ينسوا أبداً تاريخَهم.
ينتصِبُ في الباحةِ تمثالٌ في آخرِ مراحِل نحتِه، يبلغُ علوُّه خمسةَ أمتار، يجسِّدُ ملاكاً فاتحاً
حدودٌ بطولِ 1000 كيلومتر
في المقهى الذي تمَّ ترتيبُه على نسقِ قاعةِ استقبالٍ كرديةٍ، بصناديقِه وقطعِه التقليديَّة، عشرةٌ من البشمركة عائدون من الجبهة، وبينهم ثلاثُ نساء، يجتمِعون حولَ طاولةٍ مُمتدَّة. يشرَح لنا آخرون، أكبرُ سنّاً وأعضاءٌ في الاتِّحاد الوطنيِّ الديمقراطي، أنَّهم يذهَبون باستمرارٍ إلى خُطوطِ الجبهة الأماميَّة، بمُهِمَّةِ إيصالِ تجربتِهم للأصغَرِ عمراً. ولكنَّ الشخصَ الذي يقودُ النقاشَ مسؤولٌ في حزبِ العُمّال الكردستاني PKK التركي، فيقولُ، وكأنَّه بذلك يبرِّرُ حضوره في هذا الجمعِ: "نحنُ نحاربُ في كلِّ مكانٍ تُطرحُ فيه المسألةُ الكرديَّة". لعبَ حزبُه دوراً مُهمّاً في مواجِهةِ تنظيمِ الدولةِ الإسلاميَّةِ في صيفِ 2014: أيَّامٌ قليلةٌ، واختفى الجنودُ العراقيّون المائة ألف فتوسّعت الخلافةُ على مساحةِ ألف كم إضافيَّة، ثم احتلَّ تنظيمُ الدولةِ الموصل وتقدَّمَ داخلَ الأراضي الكرديّة حتى مشارفِ أربيل. ويؤكِّدُ أحدُ كوادرِ الاتِّحاد الوطنيِّ الكردستاني: "لم نَكنْ جاهزين آنذاك. فقد مرَّت علينا فترةٌ طويلةٌ من السلمِ، جرّدتنا من الأسلحة. إلا أنَّ كلَّ الأحزابِ الكرديَّةِ ساهمَت بالمقاومةِ وباستِعادة الأرض". يستذكِرون أساليبَ مُحاربةِ تنظيمِ الدولة الإسلاميَّة، سياسةَ نشرِ الذعر، استخدامَه كوماندوس من الانتحاريين، الدورَ المركزيَّ الذي يلعبُه المتطوِّعون الأجانب في صفوفِه: فمعظمُ الجوازات التي تمَّ أخذُها عن الجُثثِ في عمليَّة الهجومِ المضادِّ لم تكن لعراقيّين. ويتذمَّرون كذلكَ من قِدمِ أسلحتِهم وقلَّةِ العَتادِ العسكري الذي يَصلُ إليهم من الغرب.
تمتدُّ الجبهةُ مُذّاك على أكثرَ من 1000 كيلومتر. منها 600 كيلومتر لا يواجِهُ فيها البشمركة التنظيمَ، بل المليشيات العربية الشيعيَّة العراقيَّة التي يعتبِرونها عدُوَّهما القادم. ما زِلنا بعيدين عن هذا الوضع، والعدوُّ الآنَ هو التنظيم، وكذلك تركيا. ويعتبرُ أحدُ كوادرِ حزبِ العمّالِ الكردستاني أنَّ "تنظيمَ داعش مشروعٌ تركيٌّ موجَّهٌ ضدَّ أنقرة، وغداً ضِدَّ أوروبا". وكلَّما امتدَّ الحديث، ازدادت التلميحاتُ السلبِيَّةُ الموجَّهةُ ضدَّ الحزبِ الديمقراطيِّ الكردستاني، ويذهبُ بعضُ أعضاءِ الاتِّحادِ إلى اتِّهامِ عناصرِه بالخِيانة، والتحالفِ السرّيِّ مع أنقرة.
تركيا، حليف "طبيعي"؟
"تركيا منفذُنا نحوَ أوروبا وما بعدَ أوروبا، لا سيّما وأنَّ إيران بقيَت تحتَ العقوباتِ فترةً طويلة،
لا يَفوت الوزيرَ أنَ المحيط َالإقليميَّ مُعادٍ، وأنَّ الإقليمَ محاصَرٌ من دونَ مَنفَذٍ على البحر. لذلك، تبدو له تركيا حَليفاً "طبيعياً": فهي، على عكسِ الجيران الآخرين، تستوردُ الطاقةَ التي توجد بوفرةٍ في كردستان، لا سيَّما بعدَ السيطرةِ على كركوك من البشمركة، وهي تستطيعُ، في المقابلِ، أن تقدِّمَ لكردستان الموادَّ التي تحتاجُها، كما أنَّ شركاتِ المقاولاتِ تلعبُ دوراً مهماً في العمران. ومنذُ صيفِ 2014، تغيَّر ضخُّ البترول باتِّجاه الشمال، بدلاً من المرورِ في بغداد. وباتَت تركيا اليومَ أوَّلَ بلدٍ مستثمِر في إقليمِ كردستان العراق.
هل تعقَّدت العلاقاتُ مع أنقرة بحكم عودةِ القتال ضدَّ الكردِ في تركيا، كما تدلُّ أزمةُ إقفالِ الحدودِ في منتصفِ كانون الأول/ ديسمبر والذي دامَ 22 يوماً؟ يعطي الوزيرُ جواباً حذراً: " نحن لا نعتبِرُ أنَّ حزبَ العمّالَ الكردستاني تنظيمٌ إرهابي. نصحناهم أن يقبلوا وقفَ إطلاق النار، لكنَّهم لا يريدون أن يلعبوا اللعبةَ السياسيَّة". وإن اعتبرنا "ردودَ الفعل التركية غيرَ ملائمة"، فمِن المُستبعَدِ أن تكونَ ردودَ فعلِه "المُعتدِلة" موضعَ إجماعٍ لدى الرأي العامِّ الكردي، الذي يرى الدبّاباتِ التركيّةَ تقصفُ المدنَ في الجنوبِ الشرقي، والذي يعتبرُ أنَّ النصرَ في كوباني أُحرِزَ بفضلِ حزبِ العُمّال الكردِستاني.
القطيعةُ مع بغداد
يضعُ فلاح مصطفى العلاقاتِ مع بغداد في صميم همومِه. "فنحنُ لسنا مُندَمِجين في العراق، ولا مستقلّين عنه. ولفترةٍ طويلة، ناضَلنا تحتَ شعارِ (الحرّيّةُ للعراق والحكمُ الذاتيُّ للكرد". ولكنَّ سلطةَ بغداد لا تقبلُ التفاوضَ معنا، إلّا في حالاتِ ضعفِها. ثمَّ لا تلبثُ أن تتراجعَ عن التزاماتِها ما إن تَقوى".
يبقى الوزيرُ متفائلاً في ما يتعلَّق بالاستقلال، إلّا أنَّ الحلفاءَ الغربيّين شديدو الحذر، ما إنْ يتطرَّق النقاشُ إلى تقسيمِ العراق، وذلك على الرغم من الدعمِ الذي يقدِّمونَه لحكومةِ إقليم كردستان، لا سيَّما على الصعيدِ العسكريِّ من الوِلاياتِ المتَّحِدةِ (فرنسا لها قاعدة هناك). لكنَّ الوزيرَ على يقينٍ من رأِيه: "لن يكونَ الأتراكُ مسرورين إن أعلَنَّا استقلالَنا، إنما سيتقبَّلون الوضع. لذلك نحتاجُ إلى دعمِ أوروبا". على أنّ تشيكوسلوفاكيا وهنغاريا وحدَهما دعمتا فكرة الاستقلال. وسبق أن دعمت هاتان الدولَتان بقوَّةٍ الاجتِياحَ الأميركيَّ للعِراق عام 2003، من أصلِ 28 دولةٍ في الاتِّحادِ الأوروبي. أما روسيا، فقد عملَت على توطيدِ علاقاتِها، أخيراً، مع العراقِ وطهران، لا بل وسمحَت لحزب ِالاتِّحاد الديمقراطي، وهو الامتدادُ السوري لحزب العمّال الكردستاني، بفتحِ فرعٍ له في موسكو. وأخيراً، هناك بغدادُ التي تعارِضُ أيَّ إعلانٍ أحاديّ الجانبِ للاستِقلال، على الرغم من أنَّ العلاقاتِ مجمَّدة منذُ تعليقِ الاتفاقيَّةِ على توزيعِ الموارِد (17% من الميزانيَّةِ مخصَّصةٌ لحكومةِ إقليمِ كردستان)، ولا تملكُ بغدادُ أيَّة وسيلةٍ للضغط.
انهيارٌ اقتِصادي
نرى بوضوحٍ أثرَ هبوطِ سعرِ البترول. منذُ أشهر فقط، كانت كردستان تتباهى بأنَّها "دبي الجديدة"، وكان الحديثُ فيها عن "فرصٍ لا نظيرَ لها" للمُستثمرين الأجانب. ولَكَمْ غُضَّ النظرُ عن الفسادِ الذي سمحَ بتكوينٍ سريعٍ لثرواتٍ طائلةٍ، مُرتبِطةٍ في مُعظمِ الأحيانِ، بالحزبِ الديمقراطيِّ الكردستاني، أو بالاتِّحاد الوَطنيِّ الكردستاني.
وتهدِّدُ الأزمةُ أساساتِ حكومةِ الإقليم نفسِها. فالموظَّفون في القطاعِ العام (عددُهم 1.5 مليون من أصلِ 7 ملايين نسمةٍ) وهو إجماليُّ عددِ سكان الإقليم، علماً بأنَّ الرقمَ تغيَّرَ بنسبةٍ ملحوظةٍ منذ السيطرةِ على كركوك، وهم الكتلةُ الأكبرُ من الموظَّفين، لم يَحصلوا على أجورِهم منذُ أشهر. البشمركة أنفسُهم لا يقبَضون أجورَهم إلاّ بينَ حينِ وحين، وعددُهم يقارِبُ مائتي ألف، يقضون أوقاتَهم بينَ الجبهةِ وعملِهم الاعتِيادي، لا بل إنَّ معلوماتٍ صحافيَّةً ألمانيَّةً تفيدُ بأنَّ بنادقَ وأسلحةً متطوِّرةً كانَت برلين قد قدَّمتها، يتمُّ بيعُها في الأسواقِ العامّة.
"نستطيعُ بمواردِنا أن نطعمَ 50 مليون شخصاً. بذَّرنا مواردَنا من البترول، عِوضاً عن أن نؤسِّس لاقتِصادٍ مستقل. أيادٍ وَسخة عَنِيَت بتحويلِ الأموال". هذا ما يقولُه جلال جوهر، وهو مسؤولٌ في حزبِ التغيير (كوران)، وكانَ فترةً طويلةً عضواً في المكتبِ السياسيِّ في الاتِّحادِ الوطنيِّ الكردستاني. لم يُبذلْ أيُّ جهدٍ جدِّيٍّ في الزراعة، فنجدُ عندَ الباعةِ البرتقالَ المستورد، ولا نجدُ منتوجاتٍ محلِّيَّة. ويتابعُ أنَّ كرداً كثيرين يسعَوْن إلى الهجرة. وفي ديسمبر/ كانون الأوّل 2015، أثارَ غرقُ 24 كرديّاً في بحرِ إيجة، وهم يحاوِلون الوصولَ إلى اليونان، مشاعرَ قوِيَّة. ويبدو حزبُ كوران مُستعداً لاستخدامِ الاستياءِ العام، فينظِّم احتِجاجات وإضرابات تأخذُ أحياناً مَنحىً عنيفاً.
تراكمت الديونُ. الدفعُ للشرِكاتِ توقَّف، والعديدُ منها تركَ البلاد. ولئن تمكَّنت شركاتٌ مثل كارفور، ولافارج، أوَّلُ شركةٍ مُستثمرةٍ غيرُ نفطيَّة، بالإضافةِ إلى ثلاثةِ مصانعَ إسمنتيَّةٍ، من الاستمرار، فثمّةَ شائعاتٌ كثيرةٌ تَشي بقربِ رحيلِ شركةِ توتال. وبما أنَّ حكومةَ إقليمِ كردستان لا تحظى بالاعتِراف كدولةٍ، لا يمكنُها الحصولُ على قروضٍ سياديَّةٍ من مؤسَّساتٍ دوليَّةٍ أو من دولٍ أخرى. وحدها تركيا قبلت بذلك.
رهانُ الوحدة
فالأزمةُ هذه تهدِّدُ إذاً مَكاسبَ حكومةِ إقليمِ كردستان الهشَّة: من تعدُّدِ الجامِعات، والتعايش مع الأقليات، وهو أكثرُ هشاشةً ممّا تدَّعيه السلطات، ففي الإقليم يفضَّلُ الحديثُ عن الأقليَّات كشركاء، التوسُّع العمرانيُّ والمَديني، وخدمات البُنى التحتيَّةِ والنظافة في المدن، وإعادة ترميمِ المباني والبيوت القديمة، وبعض المكاسِبِ القانونيَّةِ المتعلِّقة بحقوقِ المرأة، وأهمُّها محاربةُ خِتان الإناث، وهي مُمارسة أكثر انتشاراً هنا منها في العراق.
يزيدُ عددُ اللاجئين (1.5من النازحين العراقيين، وثلثمائة ألف من السوريين) من ضخامةِ التحدِّيات. فهل سيستطيعُ الإقليمُ، المُنغلِق جُغرافياً والمُضعف اقتِصاديّاً، أن يتَحدّى القدرَ ويَحصلَ على الاستقلال، كما يظنُّ الرئيسُ مسعود البارزاني؟ يَبقى الجوابُ في يدِ السياسيّين، إلّا أنَّ انقساماتِهم تشكِّلُ عائقاً صعبَ التجاوز. وعلى الرغم من أنَّ كلَّ الأحزابِ تدعمُ فكرةَ الاستقلال، إلّا أنها تتمزَّق في ما بينها. ثم إنَّ المرضَ ينأى بجلال طالباني عن الحياةِ السياسية، ما يزيدُ من الانقِساماتِ في وسطِ الاتِّحادِ الوطَنيِّ الكردستاني. وصلَت فترةُ الرئيس بارزاني إلى نهايتِها في 2015، من دونَ إجماعٍ على تمديدِه. وتمَّ طردُ كوران من حكومةِ الوحدةِ الوطنية، فضاعفَ الحزبُ نداءاتِه إلى التظاهر. فما هوَ السبيلُ نحوَ هَبّة اتِّحاديَّةٍ، لا بدَّ منها للوصولِ إلى الاستِقلال؟
ترجمة هناء جابر