وبغرض مناقشة طرق مواجهة تقدّم من تعتبره أنقرة "العدو الأول للأمن القومي التركي"، أي "العمال الكردستاني"، على الحدود الجنوبية للجمهورية، عقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اجتماعين متتالين يومي الأربعاء والخميس لأعضاء الحكومة وكبار المسؤولين العسكريين والإداريين. وحضر الاجتماع كل من نائب رئيس الوزراء نعمان كورتولموش، ووزير الخارجية مولود جاويش أوغلو ووزير الداخلية صلاح الدين أوزتورك، وكل من قائد هيئة الأركان التركية الجنرال نجدت أوزال، وقائد القوات البرية الجنرال خلوضي أكار.
وكثفت الحكومة التركية اتصالاتها الدولية بهذا الشأن، وبحسب المتحدث باسم الخارجية التركية تانجو بيلغيج، فإن الحكومة التركية أجرت اتصالات بالمنطمات الدولية مثل مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي، والأمانة العامة لحلف شمال الأطلسي، إضافة إلى الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وألمانيا وإيطاليا، والدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامية كالسعودية وقطر، التي قام وزير خارجيتها بزيارة خاطفة إلى أنقرة يوم الخميس، التقى خلالها أردوغان.
وأكد بيلغيج أن أنقرة لن تقبل بتقدم قوات "الاتحاد الديمقراطي"، الذي اعتبره تغييراً للتركيبة الديمغرافية في المنطقة، قائلاً إن "التطورات في المنطقة خلال الأيام المقبلة، ستقوم بإعادة تشكيل سياسات تركيا حول هذا الأمر".
ورغم الحساسية التركية التاريخية من قيام كيان كردي مستقل في المنطقة، فإنها في المقابل تقيم علاقات أكثر من متينة مع إقليم كردستان العراق، بل ولا تعارض استقلال الإقليم، لذلك لا يجب إخراج ردّ الفعل التركي على ما حدث في تل أبيض من سياقه في إطار المعركة المستمرة مع "العمال الكردستاني" منذ منتصف الثمانينيات، وخصوصاً أن أنقرة تعتبر أن خطر "داعش" مؤقت، وأن ضربه يلقى إجماعا دوليا لا خلاف عليه.
اتفاق بين "داعش" و"الديمقراطي"!
وفي محاولة لإظهار خطر "الاتحاد الديمقراطي"، أشار رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو في مقابلة تلفزيونية، إلى عقد اجتماع سري بين "الاتحاد الديمقراطي" و"داعش" في مدينة الحسكة التي شهدت هجوماً عنيفاً من قبل الأخير على مختلف المحاور، وبالذات تلك التي كان يشغلها النظام، معتبراً أن تقدم الاتحاد الديمقراطي في تل أبيض هو نتاج اتفاق بين الطرفين.
ناهيك عن دوافع داود أوغلو للحديث عن هكذا اجتماع، لكن الواضح أن "داعش" لم يقاتل؛ إذ إنه لم يظهر شراسة في تل أبيض كما فعل في تكريت، رغم أن دعم طائرات التحالف كان نفسه، ورغم أن ضخامة مليشيا "الحشد الشعبي" والجيش العراقي كانت تفوق قوات "الاتحاد الديمقراطي" بعشرات المرات. كما أن "داعش" المعروف بقدرته على إدارة عدة معارك متزامنة، أوقف كل نشاطه في الحسكة منذ بدء معركة تل أبيض.
إضافة إلى ذلك، كان لدخول قوات "الاتحاد الديمقراطي" إلى تل أبيض وهزيمة "داعش" مكاسب سياسية وشعبية كبيرة للطرفين، خصوصاً بعد الاتهامات التي طالت الأول حول القيام بتطهير عرقي وطرد السكان العرب والتركمان، والتي أشعلت حملة قومية شرسة بين الناشطين السوريين العرب والأكراد، حوّلت "الاتحاد الديمقراطي" إلى الممثل الشرعي والوحيد لأكراد سورية، بل والمدافع عن "الأكراد" و"الساعي لتحقيق دولة كردستان". رغم أن أدبيات "العمال الكردستاني" لا تعارض الدولة القومية فحسب بل تحقرها وتحقر الداعين لها.
اقرأ أيضاً: تركمان سورية يتهمون "الحماية الكردية" بتهجيرهم
وبالنسبة لـ"داعش"، كان الخروج من تل أبيض دفعة لأسهمه المنخفضة في سورية، وإنعاشاً "لمظلومية العرب السنة" التي ما زال التنظيم يقتات عليها منذ إعلان دولته.
تحويل بوصلة العداء إلى أنقرة
يدير "العمال الكردستاني" صراعه مع أنقرة، عبر ملفين منفصلين، أولهما دعم حزب "الشعوب الديمقراطي" في خطواته بالاندماج في الجمهورية التركية والتحول إلى معارضة تركية لا تقتصر مهمتها على الدفاع عن حقوق الأكراد، بل عن جميع المواطنين الأتراك المهمشين. أما الملف الثاني فهو عبر حرب الأذرع في سورية.
استطاع "الاتحاد الديمقراطي" بعد فرض سلطته على كل من المناطق الشمالية من محافظة الحسكة ومنطقة عين العرب وعفرين، وإعلان مشروعه بالإدارة الذاتية إثر معارك ضارية مع تشكيلات المعارضة السورية المختلفة ومن ثم تنظيم "داعش"، أن يقدم نفسه كممثل شرعي ووحيد للأكراد السوريين، فقاد حملة إعلامية ضخمة ضد شباب التنسيقيات المستقلة، ثم بدأ بحملته ضد الأحزاب الكردية الموالية لإربيل والممثلة بالمجلس الوطني الكردي، لينجح خلال أقل من عامين في تحويل بوصلة العداء الكردية من دمشق إلى أنقرة، فبات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو العدو الأول للأكراد السوريين وليس بشار الأسد والنظام السوري الذي بات العدو الثاني.
لم تفلح جميع المحاولات التي بذلها رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني للتقريب بين المجلس الوطني الكردي و"الاتحاد الديمقراطي" في إطار الهيئة الكردية العليا لأسباب كثيرة منها: عدم التزام "الاتحاد الديمقراطي" بالاتفاقيات والتفكك والخلافات ضمن المجلس الوطني الكردي، إضافة إلى الخلاف الرمزي على قيادة الحركة القومية الكردية بين قائدين مهمين وهما برزاني وزعيم "الكردستاني" عبد الله أوجلان. وفيما يبدو برزاني في تحالف مع أنقرة لحماية نفسه من تغول إيران وبغداد، كان وما زال "العمال الكردستاني" في حلف مهم مع إيران، التي دعمته وحليفها النظام السوري لسنوات ضد أنقرة، الأمر الذي بدا واضحاً في هجوم "العمال" على قوات حزب "الديمقراطي الكردستاني"، فرع إيران، على الحدود العراقية الإيرانية منذ أسابيع.
الخيارات التركية
ولكن السؤال المطروح حالياً: ما هي الخيارت التركية لضرب "الكردستاني" في سورية، أو تحجيمه؟
على المستوى الداخلي التركي، فإن عداء "العمال الكردستاني" أمر لاخلاف عليه مع شريحة تتجاوز التسعين في المائة من السكان، وبعد النجاح الذي حققه حزب "الشعوب الديمقراطي" في الانتخابات "كحزب تركي"، سيبدو موقف زعيمه صلاح الدين دميرتاش أكثر ارتباكاً إن حاول دعم "الاتحاد الديمقراطي" في حال عملت أنقرة على ضرب الأخير بشكل غير مباشر؛ فإن لم يتحرك دميرتاش سيكسب عداء الجناح القومي في "العمال الكردستاني"، وهو الأكثر نفوذا في "الشعوب الديمقراطي"، وإن تحرك سيخسر مشروعه. وعندها، ستكون فرصة مؤاتية جداً من قبل حزب "العدالة والتنمية"، وبقية الأحزاب لضربه في عقر مشروعه المنادي بإحلال السلام، إذ تؤكد جميع المؤشرات أن الانتخابات البرلمانية التركية المقبلة لن تتأخر إلى ما بعد نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، لتبدو الحكومة التركية أكثر قدرة على الحركة من ذي قبل، أي أثناء هجوم "داعش" على عين العرب في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
ميدانياً، لا يعني الإدارة الأميركية الآن سوى هدف واحد وهو القضاء على "داعش"، لذلك يبدو خيار أنقرة الأقرب، هو العمل مع السعودية لضرب "الكردستاني"، حليف طهران، عبر الضغط على واشنطن لتكثيف دعم التحالف الجوي لقوات المعارضة السورية في معركتها مع "داعش" في ريف حلب الشرقي والشمالي، المستمرة منذ بداية الشهر الحالي، وبالتالي تستطيع قوات المعارضة التقدم نحو الحدود الإدارية لمدينة عين العرب التي يسيطر عليها "الاتحاد الديمقراطي"، فاصلة بين كانتونات الإدارة الذاتية المتصلة الآن أي الجزيرة وتل أبيض وعين العرب عن كانتون عفرين في حلب، لتتكفل الخلافات العقائدية وعوامل أخرى بإشعال معركة بين الجانبين، تبدو بحسابات القوة العسكرية بعد رفع الدعم الجوي عن الطرفين لصالح المعارضة.