استنزاف الثروات العربية

23 يوليو 2014
العرب يفقدون نصف ثرواتهم مع تصدير النفط الخام
+ الخط -

تستورد الدول العربية تقريباً كل شيئ من دول العالم المختلفة، بينما تتخصص فى تصدير المواد الأولية والقليل الذى لا يذكر من السلع المصنعة أو تامة الصنع، وتكشف الموازين التجارية للدول العربية بجلاء هذه الحقيقة الاقتصادية المرة، والتى تعني فى ظاهرها وفى جوهرها معاً الاستنزاف المنظم للثروات وللموارد العربية ممّا يحول دون تكثيف التراكم الرأسمالي، والتحول اللازم لإحداث تنمية اقتصادية حقيقية.

ولعل الجانب الخطير فى تخصص الاقتصاديات العربية المفرط فى تصدير المواد الخام و الاولية يكمن فى أن القيمة الاقتصادية المضافة المولدة لآثار اقتصادية إيجابية تتحقق فى الدول المستوردة للمواد الاولية من خلال عمليات التصنيع والتداول المختلفة التى تضيفها الصناعات التحويلية المختلفة الى المواد الخام والأولية، بينما تحرم الاقتصاديات العربية المصدرة لهذه المواد الخام من القيمة المضافة هذه، والتي تتم خارج أراضيها، ثم تستورد الدول العربية هذه المواد الاولية مرة أخرى بعد تصنيعها فى الخارج فى صورة سلع مصنعة .

وأفضل مثال تاريخي لهذه القضية يكمن فى القطن المصري الذى كان و مازال يصدر الى مختلف دول العالم، ولا سيما بريطانيا بأبخس الاثمان ثم يعاد تصديره مصنعاً مرة أخرى الى دول العالم كافة، ومن بينها مصر بالأسعار العالمية مثال حي على استنزاف الموارد استمر حوالي قرنين من الزمان هما عمر الثورة الصناعية الاولى .

واذا نظرنا الى تصدير المواد الخام بمنظور آخر بخلاف القيمة المضافة المستنزفة من جراء التصدير المفرط للمواد الخام العربية سنجد أن الاستنزاف لا يقتصر فقط على استنزاف المال و القيمة المضافة المهدرة حيث ينطوى تصدير المواد الخام أيضا على استنزاف قوة وساعات العمل العربية لمصلحة الدول المستوردة للمواد الخام العربية من جهة ومن جهة أخرى ضياع الفرص البديلة لاستغلال المواد الاولية العربية فى صناعاتها المحلية المختلفة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر يستغرق انتاج قنطار القطن الخام حوالى ألفى ساعة عمل من وقت زراعته الى حين حصاده، ويباع فى الاسواق العالمية بمبلغ لا يتجاوز خمسين دولاراً أمريكيّاً، بينما يستغرق انتاج قميص قطن ساعتين عمل، ويباع بحوالي خمسين دولاراً أو اكثر بحسب الموديل والجودة.

ولك عزيزى القارئ أن تتخيل حجم استنزاف الموارد بحسبة رياضية بسيطة بقسمة ساعات العمل التى يستغرقها انتاج قنطار القطن على ساعات العمل التى يستغرقها انتاج قميص القطن أي ألفين ساعة عمل على ساعتين ساعة عمل والناتج الف ساعة او مرة هو ببساطة معامل أو معدل الاستنزاف الاقتصادي الناتج عن تصدير القطن الخام.

وكلما كان هذا المعامل كبيرا كلما كان الاهدار و الاستنزاف الاقتصادي كبيراً، فالعلاقة بين معامل الاستنزاف الاقتصادي وبين والقيمة الاقتصادية المهدرة فى تصدير المواد الاولية علاقة طردية ومؤكدة، وهكذا نرى كارثة نهب الموارد العربية الناتج عن التخصص فى تصدير المواد الخام و الاولية.

ولا شك أن معدل الاستنزاف الاقتصادي هذا يتنافى مع المنطق الاقتصادي لنظرية النفقات النسبية الذى يحكم التخصص فى التجارة الدولية لان هذه النظرية قامت على اساس عدة افتراضات لم يكن من بينها بطبيعة الحال التكلفة المباشرة وغير المباشرة لمعدل الاستنزاف الاقتصادي.

ولو أخذت فى اعتبارها تكلفة هذا العنصر على الشعوب المستنزفة لأصبحت تجارة المواد الاولية تجارة سرية ومحرمة كتجارة المخدرات الآن.

ويترتب على ذلك سقوط نظرية النفقات النسبية لانها تغتال حاضر ومستقبل الشعوب المصدرة للمواد الاولية لأنها لا تأخذ فى اعتبارها التكلفة المباشرة وغير المباشرة لمعدل الاستنزاف الاقتصادي المصاحب لتخصص الدول النامية المفرط فى تصدير المواد الاولية.

وبطبيعة الحال يرجع هذا التخصص المفرط فى تصدير الدول النامية بشكل عام للمواد الاولية الى سياسة الاستسهال التجاري والاقتصادي من جهة و من جهة أخرى الى حاجة الدول النامية الى استثمارات كبيرة وضخمة لتصنيع هذه المواد الاولية وتصديرها مصنعة، ولكن افتقار الدول النامية الى خريطة استثمارية تضع على رأس اولوياتها تصنيع المواد الاولية فيجعل قضية تصنيع المواد الاولية قضية مؤجلة دائماً.

وتتخصص جميع الدول النامية تقريباً فى تصدير المواد الخام حيث تبلغ حوالى ثلثي صادراتها في المتوسط، بينما تستورد تقريباً كل شيئ من دول العالم الاول فى منظومة محكمة لنهب الموارد وتحويلها الى العالم الاول تحت مظلة ما يسمى بالتجارة الحرة أو العادلة، فهى تجارة حية وعادلة بالنسبة للعالم الاول ومجحفة وجائرة بالنسبة للعالم الثالث او النامي.

وجاءت منظمة التجارة الدولية بآلياتها وقوانينها الظالمة لتفرض على العالم الثالث ان يظل والى الابد سوقاً مستهلكة لمنتجات العالم الاول، وسوقاً مصدرة للمواد الأولية للعالم الاول ليظل ينهب موارده بالقانون الدولى للتجارة الحرة.

ونتيجة ذلك أحكم النظام العالمي الجديد قبضته التجارية على العالم النامى وقيده بتبعية اقتصادية وتجارية ليضمن التدفق المستمر للمواد الخام والاولية بدرجة لا يمكن الفكاك منها الا بحكام لديهم استقلال وطني ورؤى حقيقية أمثال جمال عبد الناصر ومحمد علي ولكن أين هم الآن؟.

وتتعالى الاصوات العربية الحرة من حين لآخر منادية بإيقاف تصدير المواد الخام العربية للحد من هذا النزيف الاقتصادي المستمر، ولا شك ان هذه الدعوة فى محلها، ولكن لا يمكن أن تتخذ بقرار ادارى فوري لأن ذلك - لو حدث - سوف يؤدى الى انهيار اقتصادي وتجاري فوري ومدوي للدول العربية التى تعتمد اقتصادياتها بشكل مطلق على تصدير المواد الاولية، ولكن يتحقق إيقاف النزيف الاقتصادي الناشئ عن التخصص فى تصدير المواد الاولية بانتهاج استراتيجية صناعية طويلة الاجل لإقامة صناعات مختلفة لتصنيع المواد الاولية بشكل مكثف يسمح بإيجاد طلب محلي كبير ومتزايد على المواد الاولية العربية محليّاً يستوعب المواد الخام العربية و يحد من امكانيات الاستسهال التجاري بتصديرها الى الخارج من دون تصنيع ولا تدوير وبأبخس الاثمان.

ويمكن لدولة مثل مصر أن تنتج القطن المصري لأغراض التصنيع المحلي للمصانع المصرية فقط وتقوم بزراعة الأراضي التى تم توفيرها من زراعة القطن لزراعة القمح الذي تعتبر مصر المستورد الاول له فى العالم.

وبذلك نحد من نزيف كل من تصدير القطن الخام واستيراد القمح الذى بات يشكل قضية أمن قومي بالمفهوم وبالمعنى الواسع للأمن القومي المصري والعربي معاص لأن تهديد الامن القومي المصري يهدد الامن القومي العربي برمته حتى لو كان هذا التهديد من بوابة الامن الغذائي التى تحدث عنها الرؤساء كثيراً وفى مقدمهم الرئيس السادات - رحمه الله - من دون ان يضعوا آليات لحماية هذا الامن القومي بتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح ولكنهم اكتفوا بتحقيق الاكتفاء الذاتى من الخيار والكنتالوب والفراولة التى أصبحت متوفرة بالسوق على مدار فصول السنة، وربما يوفرون البطيخ شتاء لينعم المواطن بالبطيخ صيفاً وشتاء بفضل الهندسة الوراثية لسانلي كوهين.

أما فى الدول العربية البترولية فإن الوضع يزداد حدة وتفاقماً لأن هذه الدول تعتمد بشكل مطلق على تصدير البترول الخام وبمعدلات كبيرة جداً، حيث تعد الدول العربية البترولية من كبار مصدري البترول الخام على مستوى العالم كله.

فكلما كانت الصادرات كبيرة كان الاستنزاف كبيراً، هذا وبرغم التخمة المالية المصاحبة لتصدير البترول العربي الخام والتي خلفتها حقبة البترودولار وحتى الوقت الحاضر فإن الاستنزاف الاقتصادي الناشئ عن تصدير البترول الخام العربي يعتبر مروعاً اذا علمنا ان معدل الاستنزاف الاقتصادي المصاحب لتكرير البترول يدور حول مائة مرة.

ويعني ذلك ببساطة شديدة جداً ان الثروة العربية كان يمكن ان تكون خمسين مثلاً أو ضعف قيمتها اذا ما صدر العرب نصف بترولهم مكرراً وليس خاماً أو مائة مثل أو ضعف فيمتها اذا ما صدر العرب كل بترولهم مكرراً وليس خاماً.

ولكن ترى متى سيقدمون على ذلك؟

عندما يشرق الفجر العربى الجديد بعد الليل الطويل ولكنه سيشرق لا محال.

المساهمون