10 أكتوبر 2024
استفتاء كردستان العراق.. تداعياته ومستقبل الأزمة
بعد تحميله رئيس إقليم كردستان العراق مسؤولية تداعيات إصراره على إجراء استفتاء على الاستقلال، قرّر رئيس إقليم كردستان، مسعود البارزاني، التنحّي عن رئاسة الإقليم، ونقل صلاحياته إلى الحكومة والبرلمان، اعتبارًا من الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2017. وقد ألقى البارزاني، بهذه المناسبة، كلمة اتهم فيها خصومه السياسيين، خصوصا الاتحاد الوطني الكردستاني، "بارتكاب خيانة قومية عظمى"، أدت إلى خسارة قواته السيطرة على أراضٍ متنازع عليها مع بغداد بعد إجراء الاستفتاء. في حين ركّزت وسائل إعلام كردية، ومواقع التواصل الاجتماعي التابعة لقيادات عسكرية وسياسية، على دور الحرس الثوري الإيراني والحشد الشعبي الموالي لطهران.
الدور الإيراني
قبل عملية استعادة المناطق المتنازع عليها، والتي أطلقها رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، سلطت وسائل إعلام كردية الأضواء على زيارة قام بها إلى كردستان قائد فيلق القدس، التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، حاول خلالها "إقناع" السياسيين الكرد في السليمانية وأربيل بإلغاء نتائج الاستفتاء. وقد نقلت مصادر كردية قريبة من الاتحاد الوطني الكردستاني تهديد الجنرال الإيراني، بأنه لا يمانع تدخل مليشيات الحشد الشعبي ضد الإقليم، إذا مضى في مشروع إجراء الاستفتاء. وعلى الرغم من أن بعضهم رأى في التركيز الكردي على دور الحشد الشعبي والحرس الثوري الإيراني مبالغةً لدفع واشنطن إلى تقديم دعم أكبر لموقف البارزاني؛ الأمر الذي يفسر نفي التحالف الدولي وجود أي قوات للحرس الثوري في كركوك، فإن الدور الإيراني مع ذلك كان مهمًّا في إفشال مساعي الإقليم نحو الاستقلال.
وفي خضم الجدل حول الدور الإيراني، جاء موقف البيت الأبيض حذرًا؛ إذ أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن بلاده لا تنحاز إلى أي طرفٍ في النزاع، تلاه طلب وزارة الخارجية الأميركية من أطراف النزاع الدخول في حوار لحل الأزمة؛ ما أدى إلى خيبة أمل كردية، عبرت عنها ممثلة إقليم كردستان في واشنطن، عندما قالت إن الولايات المتحدة "شجعت بغداد وإيران وتركيا في كل خطوة"، علمًا أن واشنطن كانت دعت إلى تأجيل الاستفتاء.
لكنّ الحياد الأميركي قد لا يستمر في حال ذهاب بغداد، بعيدًا في خطواتها ضد الإقليم، بدعم إيراني، خصوصًا إذا نجحت إيران في السيطرة كليًّا على قرار أكراد السليمانية؛ ما يعني أن طهران قد نجحت في أن تنافس واشنطن بقوة في منطقة نفوذها الأهم في العراق، ممثّلة في كردستان. لهذا، يمكن القول إن أي تطور في الموقف الأميركي سيكون رهنًا بإجراءات السلطات العراقية وحدود الدور الإيراني في الأيام والأسابيع المقبلة، وكذلك بالصراع الكردي - الكردي الذي تعمّق إبان العمليات وانسحاب البشمركة.
الصراع الكردي - الكردي
أعاد انسحاب بشمركة الاتحاد الوطني الكردستاني من كركوك، أمام تقدم قوات الجيش العراقي، إلى الذاكرة استعانةَ مسعود البارزاني عام 1996 بالجيش العراقي أيام النظام السابق في الصراع ضد خصمه جلال الطالباني، مع أن الأحزاب الكردية كانت حينها تجمع على معارضة النظام السابق. وقد حاول الاتحاد الوطني، بانسحابه أمام القوات الحكومية وتسليمها كركوك، تقويضَ مكاسب البارزاني من الاستفتاء، ودفعه إلى الاستقالة؛ باعتبار أن البارزاني، بإصراره على إجراء الاستفتاء، كان يحاول الهروب من أزمةٍ داخلية، والحفاظ على منصبه رئيسًا لكردستان؛ وهو ما يعارضه فيه خصومه.
وقد وصلت الخلافات بين الأحزاب الكردية أوجها بعد أن تفكك التحالف الكردستاني في الانتخابات العامة الماضية في الإقليم، كما انفضّ تحالف الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي داخل مجلس النواب الاتحادي الذي عرف أول مرة ثلاث كتل كردية رئيسة، هي كتلتا الحزبين إضافة إلى كتلة حركة التغيير. وقبيل إجراء الاستفتاء، وعلى الرغم من الإجماع الكردي الظاهر، كانت مواقف القوى الكردية الأخرى تؤيد تأجيله. وباكتمال سيطرة القوات العراقية على المناطق المتنازع عليها، بدا البارزاني وحيدًا، إلا من حلفائه التقليديين في بغداد، مثل رئيسي الوزراء ومجلس النواب السابقين، إياد علاوي وأسامة النجيفي. لهذا، جاء بيانه الأول، بعد خسارته كركوك، موجهًا إلى القوى الكردية داخل الإقليم، أكثر منه إلى الخارج، ولم يتضمن سوى دعواتٍ عامة للحفاظ على المكاسب، مع تراجع في المطالب، مع قبوله الضمني التفاوض حول كيفية نشر القوات العراقية والقوات العائدة إلى الإقليم.
وبهذا، يبدو أن البارزاني، المتهم بفرض سياسة الأمر الواقع، قد رضخ للأمر الواقع الذي فرضه خصومه. وعلى الرغم من اتهامه قوى كردية بالتورّط في إفشال مساعيه لإقامة دولة مستقلة، فإنه بدا حريصًا على امتصاص الأزمة الداخلية التي يواجهها المعسكر الكردي. وقد بات عليه ترتيب أوراقه الداخلية في إطار صراع كردي - كردي مقبل، خصوصًا أنه أضاع إمكانية إقامة الدولة الكردية التي تمتد إلى كركوك، وأصبح أمام جبهة كردية عريضة معارضة، لا تقتصر على الاتحاد الوطني، بل تشمل حركة التغيير والتحالف من أجل الديمقراطية والعدالة الذي يقوده رئيس وزراء إقليم كردستان السابق برهم صالح. وتشير معلوماتٍ غير مؤكدة إلى وجود خلافات داخل بيت الزعيم نفسه، وهي خلافات بين صهره نيجرفان بارزاني رئيس وزراء الإقليم وابنه مسرور الذي يرأس مجلس الأمن القومي.
وانضم الرئيس العراقي، فؤاد معصوم، وهو أساسًا قيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني، إلى منتقدي عملية الاستفتاء؛ إذ وصفها بأنها "أفضت إلى عودة القوات الأمنية الاتحادية إلى السيطرة المباشرة على كركوك [...] من دون أن يعني ذلك تغييرًا في الطبيعة الدستورية والوظيفية لقوات البيشمركة ومهامها، باعتبارها جزءًا من المنظومة الدفاعية الوطنية العراقية. وهو كلام حمل رسالتين في اتجاهين؛ الأولى إلى البارزاني أن الاستفتاء أفضى إلى دخول القوات العراقية، والثانية إلى بغداد، وفحواها ضرورة معالجة وضع قوات البشمركة في المناطق المتنازع عليها. وهو أمر سترفضه بغداد على الأرجح، خصوصًا أن العبادي أصدر أمرًا بالإبقاء على جهاز مكافحة الإرهاب والشرطة المحلية في كركوك والمناطق المتنازع عليها، وانسحاب كل القوات الأخرى بما في ذلك الحشد الشعبي.
عقدة كركوك
ليس وضع كركوك هو القضية الوحيدة المثيرة للجدل بين بغداد وأربيل، بل كذلك المنافذ الحدودية والنفط، والهوة الآخذة في الاتساع بين العرب والتركمان من جهة، والكرد من جهة أخرى، والتي يمكن أن تتحول إلى أزمة تعايش في المناطق المتنازع عليها، وربما تتحول إلى مواجهاتٍ مسلحة في الأيام المقبلة. وتدل إشارات رمزية أخرى على متغيرات مهمة؛ فتسمية "شمال العراق" الذي بدأ رئيس الوزراء، والمسؤولون في بغداد، باستخدامها منذ الاستفتاء، يعني أن بغداد ربما في طور التراجع عن التفاهمات القائمة مع الأكراد حول مستقبل الإقليم منذ إطاحة النظام السابق.
وفي سابقةٍ، هي الأولى منذ عام 2003، اختير محافظ عربي لكركوك خلفًا لمحافظها الكردي المقال، وهي إشارة إلى أن كركوك لن تعود أبدًا إلى كردستان، وأن المادة 140 من الدستور باتت جزءًا من الماضي. وكانت هذه المادة قد نصّت على إصلاحات في التركيبة الديموغرافية لمناطق يتهم النظام السابق بأنه غيّر طبيعتها السكانية.
في هذا السياق، يجب أن تُفهم مطالبات رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، بإعادة توزيع السكان في كركوك، واصفًا إياها بأنها كانت قبل نصف قرن ذات أغلبية تركمانية. وإذا ما صحّت اتهامات مسؤولي إقليم كردستان بوجود اعتداءاتٍ على بيوت الكرد في بعض مناطق كركوك، ونزوح مئة ألف منها، فإن هذا يعني أن المدينة أمام تغيير جديد في تركيبتها السكانية.
مستقبل الأزمة
لا يبدو أن الأزمة ستقف عند هذا الحد. ولا يبدو أيضًا أن بغداد ستكتفي بالإجراءات التي
اتخذتها، خصوصًا بعد النزاع السياسي والقانوني والعسكري على المعابر الحدودية بين العراق وتركيا؛ إذ لم تلق مبادرة أربيل الخاصة بتجميد الاستفتاء استجابةً لدى بغداد التي تصر على الإلغاء، وليس التجميد. وفي الوقت الذي دعت بغداد إلى الحوار مع أربيل، جاءت مذكرة اعتقال نائب رئيس الإقليم، كوسرت رسول، على خلفية تصريحاته ضد الجيش، وهو تطور جديد في خط الأزمة بين الجانبين. ويُعدّ رسول، الذي انشق قبل عام عن الاتحاد الوطني الكردستاني ودعم الاستفتاء، من القيادات التاريخية الكردية، وتأتي مذكرة اعتقاله بمنزلة رسالة إلى البارزاني نفسه؛ فنائبه يواجه مذكرة اعتقال، وهي أيضًا تكشف عن محاولة بغداد الدخول على خط الصراعات السياسية داخل الإقليم.
سوف يتوقف مسار الأزمة في اتجاه الحل أو التصعيد على جملة من العوامل؛ أهمها كيفية تعامل الجيل الجديد من قادة الكرد مع قضية الاستفتاء وحلم الاستقلال ونوعية التفاهمات التي سيكونون مستعدين للتوصل إليها مع حكومة بغداد. خلال الاستفتاء، مات جلال طالباني، واستقال مسعود البارزاني نتيجة الاستفتاء، وصعد جيل آخر، هو جيل الأبناء، ممثّلًا بقُباد طالباني إلى جانب نيجرفان ومسرور البارزاني. فكيف سيتعامل هؤلاء مع الأزمة التي أنهت حقبة المناضلين القدامى، وحقبة الإنجازات المستمرة منذ 1992؟
وتجدر الإشارة إلى عامل آخر مهم، سيكون دوره مركزيًّا في تحديد مسارات الأزمة، ويتمثّل في العلاقة بين إيران وتركيا. والسؤال هو: أيستمر البلدان في رؤية مصلحة مشتركة في تحجيم معسكر البارزاني، أم أن تركيا التي تخشى هيمنة إيرانية كاملة على الإقليم الكردي باتت مستعدة لتغيير موقفها؟ وقد بدأت تظهر مؤشراتٌ، في الأيام الأخيرة، على أن تركيا لا تريد هزيمة كاملة لمعسكر حليفها السابق البارزاني؛ لأن هذا يعني فعليًّا سيطرة إيرانية كاملة في شمال العراق. وماذا عن مواقف الدول العربية وتأثيرها في موضوع وحدة العراق أو تقسيمه، خصوصًا أن أطرافًا شيعية عراقية وجهت إلى محور السعودية اتهاماتٍ بدعم الانفصال، ولم يبدّد اتصال العاهل السعودي بالعبادي، ودعمه وحدة العراق هذه الشكوك؟ يبقى العامل الأهم الذي يراقب الجميع تحركاته هو الموقف الأميركي الذي سيكون له تأثير حاسم في تحديد توجهات الأزمة خلال الفترة المقبلة.
الدور الإيراني
قبل عملية استعادة المناطق المتنازع عليها، والتي أطلقها رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، سلطت وسائل إعلام كردية الأضواء على زيارة قام بها إلى كردستان قائد فيلق القدس، التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، حاول خلالها "إقناع" السياسيين الكرد في السليمانية وأربيل بإلغاء نتائج الاستفتاء. وقد نقلت مصادر كردية قريبة من الاتحاد الوطني الكردستاني تهديد الجنرال الإيراني، بأنه لا يمانع تدخل مليشيات الحشد الشعبي ضد الإقليم، إذا مضى في مشروع إجراء الاستفتاء. وعلى الرغم من أن بعضهم رأى في التركيز الكردي على دور الحشد الشعبي والحرس الثوري الإيراني مبالغةً لدفع واشنطن إلى تقديم دعم أكبر لموقف البارزاني؛ الأمر الذي يفسر نفي التحالف الدولي وجود أي قوات للحرس الثوري في كركوك، فإن الدور الإيراني مع ذلك كان مهمًّا في إفشال مساعي الإقليم نحو الاستقلال.
وفي خضم الجدل حول الدور الإيراني، جاء موقف البيت الأبيض حذرًا؛ إذ أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن بلاده لا تنحاز إلى أي طرفٍ في النزاع، تلاه طلب وزارة الخارجية الأميركية من أطراف النزاع الدخول في حوار لحل الأزمة؛ ما أدى إلى خيبة أمل كردية، عبرت عنها ممثلة إقليم كردستان في واشنطن، عندما قالت إن الولايات المتحدة "شجعت بغداد وإيران وتركيا في كل خطوة"، علمًا أن واشنطن كانت دعت إلى تأجيل الاستفتاء.
لكنّ الحياد الأميركي قد لا يستمر في حال ذهاب بغداد، بعيدًا في خطواتها ضد الإقليم، بدعم إيراني، خصوصًا إذا نجحت إيران في السيطرة كليًّا على قرار أكراد السليمانية؛ ما يعني أن طهران قد نجحت في أن تنافس واشنطن بقوة في منطقة نفوذها الأهم في العراق، ممثّلة في كردستان. لهذا، يمكن القول إن أي تطور في الموقف الأميركي سيكون رهنًا بإجراءات السلطات العراقية وحدود الدور الإيراني في الأيام والأسابيع المقبلة، وكذلك بالصراع الكردي - الكردي الذي تعمّق إبان العمليات وانسحاب البشمركة.
الصراع الكردي - الكردي
أعاد انسحاب بشمركة الاتحاد الوطني الكردستاني من كركوك، أمام تقدم قوات الجيش العراقي، إلى الذاكرة استعانةَ مسعود البارزاني عام 1996 بالجيش العراقي أيام النظام السابق في الصراع ضد خصمه جلال الطالباني، مع أن الأحزاب الكردية كانت حينها تجمع على معارضة النظام السابق. وقد حاول الاتحاد الوطني، بانسحابه أمام القوات الحكومية وتسليمها كركوك، تقويضَ مكاسب البارزاني من الاستفتاء، ودفعه إلى الاستقالة؛ باعتبار أن البارزاني، بإصراره على إجراء الاستفتاء، كان يحاول الهروب من أزمةٍ داخلية، والحفاظ على منصبه رئيسًا لكردستان؛ وهو ما يعارضه فيه خصومه.
وقد وصلت الخلافات بين الأحزاب الكردية أوجها بعد أن تفكك التحالف الكردستاني في الانتخابات العامة الماضية في الإقليم، كما انفضّ تحالف الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي داخل مجلس النواب الاتحادي الذي عرف أول مرة ثلاث كتل كردية رئيسة، هي كتلتا الحزبين إضافة إلى كتلة حركة التغيير. وقبيل إجراء الاستفتاء، وعلى الرغم من الإجماع الكردي الظاهر، كانت مواقف القوى الكردية الأخرى تؤيد تأجيله. وباكتمال سيطرة القوات العراقية على المناطق المتنازع عليها، بدا البارزاني وحيدًا، إلا من حلفائه التقليديين في بغداد، مثل رئيسي الوزراء ومجلس النواب السابقين، إياد علاوي وأسامة النجيفي. لهذا، جاء بيانه الأول، بعد خسارته كركوك، موجهًا إلى القوى الكردية داخل الإقليم، أكثر منه إلى الخارج، ولم يتضمن سوى دعواتٍ عامة للحفاظ على المكاسب، مع تراجع في المطالب، مع قبوله الضمني التفاوض حول كيفية نشر القوات العراقية والقوات العائدة إلى الإقليم.
وبهذا، يبدو أن البارزاني، المتهم بفرض سياسة الأمر الواقع، قد رضخ للأمر الواقع الذي فرضه خصومه. وعلى الرغم من اتهامه قوى كردية بالتورّط في إفشال مساعيه لإقامة دولة مستقلة، فإنه بدا حريصًا على امتصاص الأزمة الداخلية التي يواجهها المعسكر الكردي. وقد بات عليه ترتيب أوراقه الداخلية في إطار صراع كردي - كردي مقبل، خصوصًا أنه أضاع إمكانية إقامة الدولة الكردية التي تمتد إلى كركوك، وأصبح أمام جبهة كردية عريضة معارضة، لا تقتصر على الاتحاد الوطني، بل تشمل حركة التغيير والتحالف من أجل الديمقراطية والعدالة الذي يقوده رئيس وزراء إقليم كردستان السابق برهم صالح. وتشير معلوماتٍ غير مؤكدة إلى وجود خلافات داخل بيت الزعيم نفسه، وهي خلافات بين صهره نيجرفان بارزاني رئيس وزراء الإقليم وابنه مسرور الذي يرأس مجلس الأمن القومي.
وانضم الرئيس العراقي، فؤاد معصوم، وهو أساسًا قيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني، إلى منتقدي عملية الاستفتاء؛ إذ وصفها بأنها "أفضت إلى عودة القوات الأمنية الاتحادية إلى السيطرة المباشرة على كركوك [...] من دون أن يعني ذلك تغييرًا في الطبيعة الدستورية والوظيفية لقوات البيشمركة ومهامها، باعتبارها جزءًا من المنظومة الدفاعية الوطنية العراقية. وهو كلام حمل رسالتين في اتجاهين؛ الأولى إلى البارزاني أن الاستفتاء أفضى إلى دخول القوات العراقية، والثانية إلى بغداد، وفحواها ضرورة معالجة وضع قوات البشمركة في المناطق المتنازع عليها. وهو أمر سترفضه بغداد على الأرجح، خصوصًا أن العبادي أصدر أمرًا بالإبقاء على جهاز مكافحة الإرهاب والشرطة المحلية في كركوك والمناطق المتنازع عليها، وانسحاب كل القوات الأخرى بما في ذلك الحشد الشعبي.
عقدة كركوك
ليس وضع كركوك هو القضية الوحيدة المثيرة للجدل بين بغداد وأربيل، بل كذلك المنافذ الحدودية والنفط، والهوة الآخذة في الاتساع بين العرب والتركمان من جهة، والكرد من جهة أخرى، والتي يمكن أن تتحول إلى أزمة تعايش في المناطق المتنازع عليها، وربما تتحول إلى مواجهاتٍ مسلحة في الأيام المقبلة. وتدل إشارات رمزية أخرى على متغيرات مهمة؛ فتسمية "شمال العراق" الذي بدأ رئيس الوزراء، والمسؤولون في بغداد، باستخدامها منذ الاستفتاء، يعني أن بغداد ربما في طور التراجع عن التفاهمات القائمة مع الأكراد حول مستقبل الإقليم منذ إطاحة النظام السابق.
وفي سابقةٍ، هي الأولى منذ عام 2003، اختير محافظ عربي لكركوك خلفًا لمحافظها الكردي المقال، وهي إشارة إلى أن كركوك لن تعود أبدًا إلى كردستان، وأن المادة 140 من الدستور باتت جزءًا من الماضي. وكانت هذه المادة قد نصّت على إصلاحات في التركيبة الديموغرافية لمناطق يتهم النظام السابق بأنه غيّر طبيعتها السكانية.
في هذا السياق، يجب أن تُفهم مطالبات رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، بإعادة توزيع السكان في كركوك، واصفًا إياها بأنها كانت قبل نصف قرن ذات أغلبية تركمانية. وإذا ما صحّت اتهامات مسؤولي إقليم كردستان بوجود اعتداءاتٍ على بيوت الكرد في بعض مناطق كركوك، ونزوح مئة ألف منها، فإن هذا يعني أن المدينة أمام تغيير جديد في تركيبتها السكانية.
مستقبل الأزمة
لا يبدو أن الأزمة ستقف عند هذا الحد. ولا يبدو أيضًا أن بغداد ستكتفي بالإجراءات التي
سوف يتوقف مسار الأزمة في اتجاه الحل أو التصعيد على جملة من العوامل؛ أهمها كيفية تعامل الجيل الجديد من قادة الكرد مع قضية الاستفتاء وحلم الاستقلال ونوعية التفاهمات التي سيكونون مستعدين للتوصل إليها مع حكومة بغداد. خلال الاستفتاء، مات جلال طالباني، واستقال مسعود البارزاني نتيجة الاستفتاء، وصعد جيل آخر، هو جيل الأبناء، ممثّلًا بقُباد طالباني إلى جانب نيجرفان ومسرور البارزاني. فكيف سيتعامل هؤلاء مع الأزمة التي أنهت حقبة المناضلين القدامى، وحقبة الإنجازات المستمرة منذ 1992؟
وتجدر الإشارة إلى عامل آخر مهم، سيكون دوره مركزيًّا في تحديد مسارات الأزمة، ويتمثّل في العلاقة بين إيران وتركيا. والسؤال هو: أيستمر البلدان في رؤية مصلحة مشتركة في تحجيم معسكر البارزاني، أم أن تركيا التي تخشى هيمنة إيرانية كاملة على الإقليم الكردي باتت مستعدة لتغيير موقفها؟ وقد بدأت تظهر مؤشراتٌ، في الأيام الأخيرة، على أن تركيا لا تريد هزيمة كاملة لمعسكر حليفها السابق البارزاني؛ لأن هذا يعني فعليًّا سيطرة إيرانية كاملة في شمال العراق. وماذا عن مواقف الدول العربية وتأثيرها في موضوع وحدة العراق أو تقسيمه، خصوصًا أن أطرافًا شيعية عراقية وجهت إلى محور السعودية اتهاماتٍ بدعم الانفصال، ولم يبدّد اتصال العاهل السعودي بالعبادي، ودعمه وحدة العراق هذه الشكوك؟ يبقى العامل الأهم الذي يراقب الجميع تحركاته هو الموقف الأميركي الذي سيكون له تأثير حاسم في تحديد توجهات الأزمة خلال الفترة المقبلة.