رفض أرمان توغانبايف أستاذ الرياضيات في مدرسة حكومية بالعاصمة الروسية موسكو، الصمت على الضغوط التي تعرض لها للمشاركة في الاستفتاء على تعديلات الدستور الروسي والذي أجري خلال الفترة من 25 يونيو/حزيران الماضي وحتى 1 يوليو/تموز وأسفر عن تمرير "تصفير" عدد ولايات الرئيس فلاديمير بوتين، بنسبة موافقة قاربت 78 في المائة مع نسبة مشاركة بلغت 67 في المائة.
كشف توغانبايف أن إدارة التعليم المحلية هددت بـ"مشكلات" لمن لا يسجل نفسه للتصويت الإلكتروني، مضيفا: "يبدو أن مطلب التصويت في حد ذاته ليس بخطورة التوجيه بكيفية التصويت، ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلي". وأرجع توغانبايف انزعاجه من الضغوط التي تعرضها لها، إلى حقيقة تسليم قوائم المصوتين لإدارة التعليم رغم أنه يجب ألا يطلع عليها أحد سوى لجنة الانتخابات، معتبرا أن إجبار المدرسين على التصويت يعود إلى السعي لرفع نسبة المشاركة.
ودعا زملاءه إلى عدم الخوف، بحسب ما قال في منشور أثار تفاعلا واسعا على موقع "فيسبوك"، مضيفا: "هناك احتمال أن يتم تسريحي. ليس بوسعي أن أقول إن هذا العمل غير مهم بالنسبة إلي، وكنت أتمنى أن أدرّس للفصل الجديد في العام الدراسي المقبل (يبدأ في روسيا في 1 سبتمبر/أيلول). لكنني غير مستعد للقيام بعمل دنيء من أجل ذلك عن طريق إبرام صفقة مع الضمير".
ضغوط على المدرسين
حالة توغانبايف ليست فردية، وفق ما يوضحه يوري فارلاموف محامي نقابة "المدرس" المستقلة، (لها فروع في 18 إقليما روسياً)، مشيرا إلى أن النقابة بدأت بتلقي مثل هذه الشكاوى من أعضائها منذ مارس/آذار الماضي، حين كان من المنتظر أن يجري الاستفتاء في 22 أبريل/نيسان الماضي، قبل أن يتم تأجيله بسبب تمدد جائحة كورونا.
ويقول فارلاموف لـ"العربي الجديد": "تقدم عضوان ناشطان بالنقابة في مارس/آذار الماضي بشكوى مفادها أن أطقم التدريس باتت تتلقى رسائل عبر تطبيقات التراسل بضرورة المشاركة في التصويت. بعد ذلك هدأ الوضع بسبب فرض نظام العزل الذاتي وتأجيل التصويت. إلا أن الأمر بات يتكرر في الأسابيع الماضية، ووصل الأمر إلى أن إحدى الرسائل تضمنت تهديدا بأن من لم يسجل نفسه للتصويت الإلكتروني، لن يعود للعمل في المدرسة. وهذه الحالة لم تكن فردية، إذ تلقينا 12 شكوى حتى الآن".
ويلفت إلى أن جميع شكاوى المدرسين الذين طلبوا عدم الكشف عن بياناتهم ومدارسهم، تضمنت صور "سكرينشوت" للرسائل ذات نفس النص تقريبا باستثناء رسالة واحدة طالبت بالتصويت بـ"نعم" وليس المشاركة فقط، لافتا إلى أنه تم رصد مثل هذه الوقائع في أكثر من عشر مدارس.
وحول دور مديري المدارس عند الضغط على العاملين بها، يضيف: "كشف بعض ممثلي إدارات المدارس في رسائلهم إلى المدرسين أن إدارة التعليم المحلية وجهت لهم أمرا بالعمل على تحقيق مشاركة نسبتها 100 في المائة لأطقم التدريس في الاستفتاء".
وبحسب نبذة تعريفية بموقع رئاسة بلدية موسكو، فإن إدارة التعليم والعلوم هي الجهة المنوط بها تنفيذ سياسات الدولة في مجال التعليم مع مراعاة خصائص المدينة، وهي مسؤولة عن تحقيق الحق الدستوري للمواطنين في التعليم.
ودفع هذا الوضع بنقابة "المدرس" إلى إصدار بيان للتأكيد على عدم قانونية الإجبار على التصويت، لافتة إلى أن الدستور الروسي يكفل للمواطنين حرية ممارسة حقوقهم السياسية، وأكدت على استعدادها لتقديم العون القانوني لمن يتعرضون للضغط بهدف الإرغام على المشاركة في الاستفتاء.
وتنص الفقرة الثانية من المادة 32 من الدستور الروسي على أن "مواطني روسيا الاتحادية لهم الحق في أن ينتخبوا ويُنتخبوا إلى جهات سلطة الدولة وجهات الإدارة المحلية وكذلك أن يشاركوا في الاستفتاء"، دون الإشارة إلى إلزامية التصويت.
موسكو على خريطة الانتهاكات
على الرغم من ورود شكاوى متكررة من الإرغام على التصويت في مختلف الانتخابات الروسية في السنوات الماضية، إلا أن التصويت على التعديلات الدستورية حطم كل الأرقام القياسية السابقة، وفق ما يوضحه الصحافي ألكسندر بليوشيف والذي يعمل بإذاعة "إيخو موسكفي" (صدى موسكو) ذات التوجهات الليبرالية معارضة.
ويقول بليوشيف لـ"العربي الجديد": "تلقيت أنا وزملائي في وسائل الإعلام الأخرى عددا كبيرا من الشكاوى من أن المديرين فرضوا المشاركة في التصويت باستخدام ترسانة كاملة من الوسائل بدءاً من طلبات مهذبة ووصولا إلى تهديدات مباشرة. لا يحدث ذلك في المؤسسات ذات التمويل الحكومي فحسب، وإنما أيضا في القطاع الخاص".
ويلفت الصحافي الروسي إلى أن "موسكو انضمت إلى هذه العملية بصورة نشيطة بعد أن اعتبرت في الانتخابات السابقة إقليما مواتيا نسبيا من هذه الجهة"، مقللا من مزاعم السلطات بأن أنباء الإجبار على التصويت "مفبركة".
وتظهر "خريطة الانتهاكات في الانتخابات"، وهو مشروع أطلقته حركة "غولوس" (الصوت) المجتمعية الروسية المعنية بالدفاع عن حقوق الناخبين، والتي اطلع عليها "العربي الجديد"، وقوع مئات المخالفات بالدوائر الانتخابية في العاصمة الروسية.
وبلغ عدد البلاغات المسجلة بوقوع مخالفات، 2136 حالة، بما فيها نحو 800 انتهاك في موسكو وضواحيها، وفق الخريطة التفاعلية.
ويرجع بليوشيف انضمام موسكو إلى خريطة الانتهاكات بقوة هذه المرة إلى السماح فيها بالتصويت الإلكتروني، ما دفع الموظفين الحكوميين في العاصمة إلى العمل على تسجيل أكبر عدد من الأشخاص للتصويت عن بعد.
وحول المبررات التي قد تقدمها السلطات المحلية في حال إثبات الانتهاكات بشكل قاطع، يضيف: "قد يكون المبرر هو أن المسؤولين في موسكو حرصوا على صحة المواطنين في ظروف استمرار الوباء، فطلبوا من الجهات الخاضعة لهم التذكير بإمكانية التصويت عن بعد، إلا أنها بالغت في ذلك كالمعتاد".
ومع ذلك، لا يعفي بليوشيف الموظفين المستجيبين للضغوط من المسؤولية عما آلت إليه الأمور، قائلا: "ما دام الناخبون يبدون استعدادا لاستبدال إحدى الحريات بعدم التعرض لمشكلات في العمل، لن تتغير الأمور على الأرجح. لا يتحمل من يرغمون على التصويت وحدهم المسؤولية عن الوضع الراهن، وإنما أيضا من يقبل ذلك بسهولة، ويحل مسألة ظرفية مقابل تعقيد الحياة، بما في ذلك لأبنائه".
تقليد راسخ
يشير عميد كلية علم الاجتماع والعلوم السياسية بالجامعة المالية التابعة للحكومة الروسية، ألكسندر شاتيلوف، إلى أن تعبئة الموظفين الحكوميين للتصويت في الانتخابات هو تقليد راسخ في الثقافة السياسية الروسية منذ عهد الرئيس الراحل، بوريس يلتسين، في تسعينيات القرن الماضي، مستشهدا بتجارب بعض الدول الأجنبية في فرض غرامات مالية على من يتنصل من التصويت.
ويقول شاتيلوف لـ"العربي الجديد": "هناك بالفعل حالات حدثت فيها توصية موظفي المؤسسات الحكومية مثل المدارس والمكتبات بالمشاركة في الاستفتاء وحتى إجبارهم على ذلك، ولكن من دون توجيههم بكيفية التصويت. تسعى السلطات الروسية لتحقيق نسبة المشاركة في الاستفتاء بما لا يقل عن 50 في المائة لإضفاء الشرعية على التعديلات، فباتت مستعدة لتعبئة الجميع للتصويت وحتى المعارضين".
وفي معرض إجابته عن سؤال حول من قد يقف وراء مثل هذه التوصيات بالتصويت، يضيف: "يمكن الجزم بأنها ليست صادرة من الكرملين، بل هناك جهات حكومية تقوم بتعميم التوصيات حول نسبة المشاركة المرغوب فيها إلى أسفل عمود السلطة، ثم يعتمد تحقيقها على ثقل المديرين وقدرتهم على إقناع المرؤوسين على المشاركة في التصويت من عدمها".
وسبق لصحيفة "كوميرسانت" الروسية أن أفادت عند انطلاق حملة الاستفتاء في مارس/آذار الماضي، نقلا عن مصدرين مقربين من ديوان الرئاسة الروسية، بأن الكيانات الإدارية الروسية تلقت "توصيات منهجية" تضمنت وصفا لكيفية رفع نسبة المشاركة في استفتاء تعديل الدستور. وفي الصفحة الأولى من الوثيقة، تم تحديد هدف المشروع كـ"رفع نسبة المشاركة في التصويت على مشروع الدستور إلى 60 في المائة".
نسبة غير مؤثرة
يعتبر مدير عام مركز المعلومات السياسية بموسكو، أليكسي موخين، أن حالات الإرغام على التصويت وغيرها من الانتهاكات، إن حدثت، لم يكن من شأنها تغيير نتيجة الاستفتاء وقلب الموازين لصالح رفض التعديلات الدستورية.
ويقول موخين لـ"العربي الجديد": "الإجبار على التصويت مفهوم ضبابي جدا، وحتى السؤال الموجه إلى العاملين مثل "هل صوتّم؟" يمكن تفسيره على أنه ضغط. في جميع الأحوال، فإن الإجبار على التصويت لم يكن من شأنه تغيير النتيجة، حيث يمكن زيادة التصويت بـ"نعم" بصورة اصطناعية بنسبة 10 - 20 في المائة وليس إلى 80 في المائة".
وفي معرض إجابته عن سؤال حول تحقيق نسبة تصويت بـ"نعم" فاقت نتائج استطلاعات الرأي وتوقعات الكرملين نفسه، يضيف: "أدت جهود معارضي التعديلات الدستورية والحملة التي قاموا بشنها على شبكات التواصل الاجتماعي إلى توجه الناخبين المتأرجحين إلى مراكز الاقتراع للتصويت بـ"نعم" خوفا منهم من عدم اعتماد تمرير شق التعديلات الخاص بحزمة من الضمانات الاجتماعية. كما ساهم استمرار التصويت أسبوعا كاملا وإمكانية اختيار طريقة التصويت حضوريا أو إلكترونيا في خلق الظروف المواتية للمشاركة".