استغلال الجوازات... الدنمارك تحقق في مئات آلاف حالات الاحتيال

16 فبراير 2020
تدقيق أكبر في الجوازات يزيد فترة الانتظار (ناصر السهلي)
+ الخط -

مئات آلاف جوازات السفر الدنماركية سُرقت أو استصدرت عن طريق التحايل منذ عام 2008. تعتقد السلطات أنّ كلّ تلك الجوازات تصل إلى أيدي المهربين ومرتكبي الجرائم داخل القارة الأوروبية وخارجها

تطالب السلطات التشريعية والأمنية في الدنمارك بحلول جذرية لمشكلة استغلال جواز سفر البلاد، الذي يتيح لحامله الدخول إلى 187 بلداً من دون تأشيرة، وذلك بعد الإعلان عن فقدان نحو 330 ألف جواز سفر، واستصدار جوازات عن طريق الاحتيال، بين عامي 2008 و2019.

لتوضيح الصورة أكثر، تقدم شاب دنماركي من أصول أفريقية من موظفي مكاتب "خدمة المواطنين" في مكتبة محافظة آرهوس العامة، للحصول على جواز سفر دنماركي، وهو الجواز الذي تصدره تلك المكاتب والبلديات، من دون تدخل الشرطة إلّا في حالات معينة. بدت الأمور طبيعية بعدما سُجل الاسم والمعلومات، لكنّ شيئاً ما أثار ريبة الموظفة، حين دسّ الشاب صورة شاب عربي بدلاً من صورته لتوضع في الجواز الدنماركي. هنا تدخلت الشرطة لتكتشف أنّها المرة الثالثة التي يطلب فيها الشاب جوازاً بدلاً من ضائع. توصلت التحقيقات إلى أنّ إساءة استخدام الجواز، سواء في تهريب البشر، ببيعه بأثمان باهظة، أو لأعمال غير قانونية، وفقاً للشرطة وتقرير خاص صدر أخيراً، ليعود السجال حول الجواز الدنماركي، بعد الكشف عن سرقة طاولت 134 جوازاً في جنوب الدنمارك، لينضم الرقم إلى أكثر من 330 ألف جواز مسروق خلال الفترة الممتدة من 2008 حتى ديسمبر/ كانون الأول 2019.

الجواز الأحمر بات مطلوباً بشدة (ناصر السهلي) 












في العادة، تنظر سلطات الحدود الدنماركية، خصوصاً الشرطة، نظرة متفحصة وسريعة إلى جواز سفر بلدها، إذا ما كان المسافر عائداً من دولة خارج الاتحاد الأوروبي، فالسفر بين دول الاتحاد لا يحتاج تلك الوقفة في طابور المطارات بانتظار فحص الجوازات، بل تخصص ممرات لـ"مواطني الاتحاد الأوروبي" و"جنسيات أخرى". لكن، يبدو أنّ الحصيلة الثقيلة لنزيف الجواز الدنماركي، بالسرقة والتزوير، والتحايل باستخراجه قانونياً، دفع بالسلطات إلى سؤال مسافر من أصل عربي، وصل إلى مطار كوبنهاغن من خارج أوروبا في فبراير/ شباط الجاري: "هل ستواصل إلى مدينة آرهوس بالطائرة؟" والهدف اكتشاف ما إذا كان الشخص يتحدث الدنماركية أم يحمل جوازاً مشتبهاً به، خصوصاً مع مشكلة استصدار جوازات أصلية بصور حامليها الذين يجرى تهريبهم، وفقاً لما تذكر مصادر في الشرطة لـ"العربي الجديد".

أساليب مكتشفة
خلال الأعوام القليلة الماضية، باتت محاولات وصول مهاجرين سريين إلى كندا دافعاً لارتفاع سعر الجواز الدنماركي في السوق السوداء، إلى أكثر من 5 آلاف يورو. وإذا كانت محاولة الشاب الصومالي فشلت، فقد نجحت محاولات أخرى باستصدار جوازات أصلية تحمل صوراً أخرى، بحسب اعتراف السلطات. وكانت سلطات الحدود الكندية قد كشفت عن 21 حالة تهريب بجوازات دنماركية حتى نهاية العام الماضي 2019 وحده. وجاء الكشف بعد تزويد الجواز الجديد برقاقة إلكترونية تحتوي على معلومات دقيقة حول هيئة حامل الجواز وعلاماته الفارقة. ومن بين البلدان التي يركز عليها موظفو الحدود والمطارات دول عربية وأميركية لاتينية، ودول من داخل الاتحاد الأوروبي، كاليونان وجمهورية التشيك.

لا تقتصر عملية استغلال الجواز الدنماركي على التحايل المباشر، بمعلومات صحيحة بصورة شخص آخر، بل تمتد إلى عمليات سرقة جريئة من مراكز استصدار الجوازات، وهو الأمر الذي يثير قلق السلطات المعنية، خوفاً من "استخدام الجوازات في الجريمة" بحسب التقرير الذي صدر عن الشرطة الوطنية في نهاية العام الماضي.

وذهبت "شرطة جنوب الدنمارك"، في بيان صحافي في الثالث من فبراير/ شباط الجاري، بعد حادثة السرقة الأخيرة للجوازات، إلى أنّ "معظم الجوازات المسروقة يجرى استخدامها للدخول والخروج غير المشروعين للدنمارك ودول أخرى. ويسيء السارقون استخدام هوية أصحابها الأصليين، للحصول، مثلاً، على خدمات القطاع العام والخدمات الائتمانية المصرفية". وذكرت الشرطة الوطنية أنّ الجوازات المسروقة يجرى الإبلاغ عنها داخلياً وعالمياً عبر الإنتربول.




وكشف التلفزيون الدنماركي، في معرض تناوله القضية في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، عن مذكرة تعود إلى صيف 2018 حول قيام جناة مجهولين في مراكز خدمات المواطنين والبلديات المختلفة في البلد بخداع الموظفين للحصول على جوازات سفر تحتوي معلومات صحيحة عن صاحب الجواز باستثناء استبدال صورته بصورة شخص آخر. وبحسب المذكرة، فإنّ الشرطة تلقت اتصالات من السلطات الكندية تبلغها بوجود جوازات سفر دنماركية صحيحة لكنّها تحمل صورة أشخاص آخرين غير أصحابها الأصليين المستصدرة باسمهم. وهو الأمر الذي أخذه مركز البحوث الوطنية لمكافحة الجرائم، في كوبنهاغن، على محمل الجد. واعتبر المركز أنّ هناك تزايداً كبيراً في عمليات الاحتيال.

جواز للجريمة
وبسبب احتلال جواز الدنمارك مرتبة متقدمة من بين أفضل 5 جوازات سفر حول العالم، ما يتيح لحامله الدخول إلى 187 دولة من دون تأشيرة مسبقة، فإنّ متخصصين بعالم الجريمة والإرهاب يبدون مخاوف من تحويله إلى أداة للتفلت من السلطات الأمنية حول العالم. وفي السياق، يرى الباحث في قضايا الإرهاب في "أكاديمية الدفاع السويدية" ماغنوس رانستروب أنّ "سرقة الجوازات الدنماركية أمر كارثي، إذا ما أخذنا بالاعتبار أنّ العام الماضي وحده شهد سرقة نحو 34 ألف جواز، فمن خلال الجواز يصبح الشخص جزءاً من النظام، ويمكنه فتح حساب مصرفي، وغيرها من أمور مفيدة في عالم الجريمة والإرهاب".

وفي تعقيبه على تقرير ديسمبر الماضي حول سرقة الجواز الدنماركي، يؤكد المدير السابق لجهاز الاستخبارات الدنماركي، هانس يورغن بونيكسن، أنّ "سرقة أكثر من 330 ألف جواز سفر أمر خطير جداً في عالم الجريمة والتزوير وعمليات تهريب البشر والهروب من السجون، حتى يمكن استخدامها في العمليات الإرهابية". وكان تقرير متخصص في 2014 قد أشار إلى أنّ "سعر الجواز الدنماركي المسروق أو المباع لتهريب أشخاص من أفريقيا وآسيا يصل إلى نحو 60 ألف كرونة دنماركية (نحو 9500 دولار)". ومنذ عام 2002 تزايدت أعداد الجوازات المفقودة سنوياً، حتى وصلت في 2012 و2013 و2014 إلى أكثر من 35 ألف جواز سنوياً.

وتؤكد شرطة شرق يولاند (غربي وسط الدنمارك) لـ"العربي الجديد" أنّ "ما يثير الانتباه ذهاب أشخاص للإبلاغ عن فقدان الجواز مرات متكررة. فقد كشفت إحدى القضايا عن قيام مواطن من أصل شرق أفريقي بالإبلاغ عن فقدان جوازه الدنماركي 3 مرات خلال وقت قصير جداً". وتبيّن بعد التحقيق في الأمر أنّ "الجواز جرى استخدامه في حالة واحدة على الأقل من بعد الإبلاغ عن سرقته، لتسفير شخص آخر من مطار في ألمانيا إلى كندا". واختيار ألمانيا، خصوصاً مطار هامبورغ، هو لتجنب التدقيق الدنماركي للمسافرين إلى خارج دول الاتحاد الأوروبي.

تخاف الشرطة من استخدام الجوازات في الجريمة (ناصر السهلي) 












وتحت مسمى "القضية الصومالية" في صيف 2018 بدأت الشرطة التحقيق في طلب أشخاص من خلفيات عرقية غير دنماركية الحصول على جواز، بعد الإبلاغ عن فقدان جوازاتهم مرات عدة، ما أثار اشتباه السلطات الأمنية، ودفعها إلى متابعة تلك القضايا بشكل صارم.

محاولات خروج
أحد الشبان العرب يعترف لـ"العربي الجديد" بعد هروبه من اليونان أنّ "المقتدرين فقط أو المستدينين وحدهم هم من يتمكن من السفر بجوازات مزورة من أثينا إلى بقية دول الاتحاد الأوروبي". ويذكر الشاب أنّ "التحايل للخروج من اليونان قد تتجاوز كلفته 6 آلاف يورو، إذ ملّ المهاجرون الانتظار سنوات من دون حلول لقضية اللجوء".

وكانت سلطات أمن مطار العاصمة اليونانية قد كشفت على مدى السنوات التالية لاتفاق الاتحاد الأوروبي مع تركيا، في 2016، لوقف تدفق المهاجرين عن "عشرات حالات محاولة الخروج من البلاد بجوازات سفر أوروبية مزورة، ومن بينها دنماركية، فيما نجحت حالات أخرى في السفر من دون اكتشافها" بحسب الشرطة الدنماركية. كذلك، أكدت يوروبول (الشرطة الأوروبية) في الأعوام الثلاثة الماضية تفاقم استخدام الجوازات الأوروبية (المسروقة) من قبل مهربي البشر، بعد تشديد الإجراءات الأوروبية لدخول المهاجرين إليها.

من ناحيتها، ذكرت الشرطة الدنماركية أنّها تعلم الآن كيفية إرسال الجوازات من داخل البلاد "إما بالبريد إلى بلد منشأ التهريب، أو عبر سفر شخص يحمل هذه الجوازات للمهربين". ووفقاً لمعلومات "يوروبول" فإنّ "خدمات البريد السريع يجرى استخدامها من مختصين بالتهريب في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، وتتراوح أسعار الجوازات ما بين 4 آلاف يورو و5 آلاف".

وبالرغم من أنّ مدينة إسطنبول التركية كانت وجهة مفضلة للضالعين في الجوازات المشبوهة، فإنّ أثينا، بعد عام 2016، باتت السوق الأشهر للجوازات المزورة. كذلك، فإنّ الكشف عن اتجاه أصحاب الجوازات المشبوهة إلى كندا من مطارات غير دنماركية، رفع سعرها في السوق السوداء.




ويحذّر المدير السابق لجهاز الاستخبارات الدنماركي، هانس يورغن بونيكسن، من أنّ "تسويق الجواز الدنماركي في السوق السوداء لاستخدامه في عالم الجريمة، بما فيها تهريب البشر وغيره، قد يؤثر على هذا الجواز الذي يُنظر إليه باحترام حول العالم، خصوصاً أنّه يعكس مجتمعاً لا مجال فيه لرشوة الموظفين، للحصول على هذه الوثيقة".
المساهمون