لا أحد يعرف، على وجه اليقين المسار الذي ستتخذه أسعار النفط في المستقبل. هناك شبه إجماع بين متابعي أسواق الطاقة، بأن العديد من الدول والشركات حول العالم قد بدأت بالفعل، الاستعداد للتعايش مع أسعار متدنية للنفط الخام، تحوم حول الخمسين دولاراً للبرميل في المستقبل المنظور. تاريخياً، لن يكون ذلك صادماً على الإطلاق، إذ إن أسعار النفط الحالية، التي تراجعت نحو 60% في غضون 20 شهراً، هي في الواقع، بالقرب من متوسط السعر الحقيقي لبرميل النفط على مدى السنوات المائة الماضية، أي بحدود 39 دولاراً.
ما يثير الدهشة حقاً، هو التحول الجذري الذي بدأ يتشكل في قطاع الصناعات النفطية مع دخوله حقبة جديدة من النفط الرخيص، والتي لا يمكن اعتبارها مجرد مرحلة اعتيادية من "الكساد النفطي" متبوعة بـ "طفرة نفطية" في المستقبل القريب. في الواقع، هذا الوضع الطبيعي الجديد ثمرة الاضطرابات التي باتت تشهدها أسواق الطاقة العالمية منذ نحو عامين تقريباً، والتي من شأنها أن تؤثر ليس فقط على منتجي النفط والغاز، ولكن أيضاً على كل دولة، وشركة، وفرد في العالم.
احتياجات العالم
في الماضي، كان تطوير الاحتياطيات النفطية التقليدية يتم من شركات نفط وطنية وعالمية كبرى من أجل سد احتياجات الطلب العالمي على النفط. وكان ذلك يستغرق من خمس إلى عشر سنوات من أجل اكتشاف وتطوير حقول النفط، ومن ثم تصدير الإنتاج إلى الأسواق بعد استثمار مليارات الدولارات في حقول نفط جديدة. وتعتبر هذه بعض الافتراضات الأساسية وراء النموذج الذي وجّه صناعة النفط والغاز خلال عقود عديدة ماضية.
خلال العقد الماضي، بدأ هذا النموذج بالتكسّر على يد منتجين أميركيين ابتكروا نموذجاً جديداً لإنتاج النفط، أسهم في تدمير النهج المتبع سابقاً. حيث قاموا بتطوير تكنولوجيا تعتمد على استخلاص النفط من الصخر الزيتي عبر تقنيات الحفر والتكسير. هذه التقنية مكنتهم، أيضاً، من رفع الإنتاج خلال فترة زمنية قصيرة، لا تتجاوز بضعة أشهر، واستثمار رأسمال صغير نسبياً، مقارنة بمتطلبات الاستثمار الكبيرة لمنافسيهم التقليديين.
نتيجة لذلك، ارتفعت حصة النفط المنتج من الصخر الزيتي من حوالي 10% من إجمالي إنتاج النفط الخام الأميركي، إلى نحو 50%، حيث أسهمت هذه التقنية في تمتين صناعة النفط الأميركية من خلال إنتاج ما يقرب 4 ملايين برميل إضافي من النفط الخام يومياً عما كان عليه في عام 2008.
سد الفجوة
أدى ذلك تدريجياً، إلى سد الفجوة بين الإنتاج الأميركي للنفط وبين أكبر اثنين من منتجي النفط في العالم، روسيا والسعودية. في يناير/ كانون الثاني من هذا العام، رفعت الولايات المتحدة حظراً استمر أربعين عاماً على تصدير النفط الأميركي، حيث وجدت شحنات النفط الأميركية طريقها إلى الأسواق العالمية لأول مرة، ما سمح لمنتجي النفط في الولايات المتحدة من الاستفادة من الأسواق التي توفر هامشاً ربحياً أعلى.
على الرغم من ذلك، يتصرف هؤلاء المنتجون غير التقليديين في الولايات المتحدة باعتبارهم منتجين "بدائل" فقط، غير قادرين على السيطرة على أسواق الطاقة في ظل وجود السعودية كثقل موازن، وكأفضل منتج "متأرجح" حقيقي في العالم. علاوة على ذلك، بدأت عدة دول أخرى، مثل الصين والأرجنتين، بتطوير مواردهما من النفط والغاز من خلال اعتمادهما تكنولوجيا الحفر والتكسير، فضلاً عن تركيز معظم استثماراتهما النفطية الحالية من أجل دعم خططهما في هذا الصدد.
على الرغم من ذلك، استمرت السعودية، بالنظر إلى طاقتها الإنتاجية الفائضة، بلعب دور المنتج القادر على السيطرة على أسعار السوق من خلال رفع أو خفض الإنتاج كلما دعت الضرورة لذلك.
لكن هذا الدور المحوري لا يبدو قادراً على الصمود. فعندما تبدأ الأسعار في الارتفاع، فإن منتجي النفط الصخري، الذين تسببوا باختلال أسواق الطاقة على نحو كبير، قادرون على إبطال قرارات المنتجين التقليديين الكبار، الساعية إلى تجميد الإنتاج، في غضون أشهر، وليس سنوات. وذلك من خلال العودة إلى المنافسة، والاندفاع لملء الفراغ بغية التهام حصصهم في السوق. نستنتج أن العصر الذهبي للنفط، حيث كانت تسجل الأسعار فيه فوق مستوى المائة دولار للبرميل، قد ولّى فعلاً، وعلى الدول المنتجة التكيّف مع حقبة جديدة من النفط الرخيص.
في الواقع، إن انخفاض أسعار النفط يمكن أن يؤدي إلى خلق توازن جديد للقوى في صناعة النفط، اعتماداً على ردود فعل الدول المنتجة. فعند سعر 55 دولاراً للبرميل مثلاً، فإن النفط قادر على وضع بعض الدول المنتجة تحت ضغط كبير في ظل عائدات نفطية متدنية. وقد تضطر دول، مثل فنزويلا ونيجيريا والعراق وإيران وروسيا، إلى إقرار المزيد من الخطط التقشفية من أجل التصدي للعجز المتنامي في موازناتها العامة خلال السنوات الخمس المقبلة. وبالمثل، فقد جمعت دول مجلس التعاون الخليجي ثروات كبيرة خلال العقد الماضي، من خلال بنائها احتياطيات نقدية وفيرة وصناديق للثروة السيادية، ولكن حتى هذه الدول قد تتعرض للضغوط إذا ما استمرت في السير بالنهج الحالي المعتمد بشكل أساسي على عوائد النفط.
(خبير اقتصادي أردني)
اقــرأ أيضاً
ما يثير الدهشة حقاً، هو التحول الجذري الذي بدأ يتشكل في قطاع الصناعات النفطية مع دخوله حقبة جديدة من النفط الرخيص، والتي لا يمكن اعتبارها مجرد مرحلة اعتيادية من "الكساد النفطي" متبوعة بـ "طفرة نفطية" في المستقبل القريب. في الواقع، هذا الوضع الطبيعي الجديد ثمرة الاضطرابات التي باتت تشهدها أسواق الطاقة العالمية منذ نحو عامين تقريباً، والتي من شأنها أن تؤثر ليس فقط على منتجي النفط والغاز، ولكن أيضاً على كل دولة، وشركة، وفرد في العالم.
احتياجات العالم
في الماضي، كان تطوير الاحتياطيات النفطية التقليدية يتم من شركات نفط وطنية وعالمية كبرى من أجل سد احتياجات الطلب العالمي على النفط. وكان ذلك يستغرق من خمس إلى عشر سنوات من أجل اكتشاف وتطوير حقول النفط، ومن ثم تصدير الإنتاج إلى الأسواق بعد استثمار مليارات الدولارات في حقول نفط جديدة. وتعتبر هذه بعض الافتراضات الأساسية وراء النموذج الذي وجّه صناعة النفط والغاز خلال عقود عديدة ماضية.
خلال العقد الماضي، بدأ هذا النموذج بالتكسّر على يد منتجين أميركيين ابتكروا نموذجاً جديداً لإنتاج النفط، أسهم في تدمير النهج المتبع سابقاً. حيث قاموا بتطوير تكنولوجيا تعتمد على استخلاص النفط من الصخر الزيتي عبر تقنيات الحفر والتكسير. هذه التقنية مكنتهم، أيضاً، من رفع الإنتاج خلال فترة زمنية قصيرة، لا تتجاوز بضعة أشهر، واستثمار رأسمال صغير نسبياً، مقارنة بمتطلبات الاستثمار الكبيرة لمنافسيهم التقليديين.
نتيجة لذلك، ارتفعت حصة النفط المنتج من الصخر الزيتي من حوالي 10% من إجمالي إنتاج النفط الخام الأميركي، إلى نحو 50%، حيث أسهمت هذه التقنية في تمتين صناعة النفط الأميركية من خلال إنتاج ما يقرب 4 ملايين برميل إضافي من النفط الخام يومياً عما كان عليه في عام 2008.
سد الفجوة
أدى ذلك تدريجياً، إلى سد الفجوة بين الإنتاج الأميركي للنفط وبين أكبر اثنين من منتجي النفط في العالم، روسيا والسعودية. في يناير/ كانون الثاني من هذا العام، رفعت الولايات المتحدة حظراً استمر أربعين عاماً على تصدير النفط الأميركي، حيث وجدت شحنات النفط الأميركية طريقها إلى الأسواق العالمية لأول مرة، ما سمح لمنتجي النفط في الولايات المتحدة من الاستفادة من الأسواق التي توفر هامشاً ربحياً أعلى.
على الرغم من ذلك، يتصرف هؤلاء المنتجون غير التقليديين في الولايات المتحدة باعتبارهم منتجين "بدائل" فقط، غير قادرين على السيطرة على أسواق الطاقة في ظل وجود السعودية كثقل موازن، وكأفضل منتج "متأرجح" حقيقي في العالم. علاوة على ذلك، بدأت عدة دول أخرى، مثل الصين والأرجنتين، بتطوير مواردهما من النفط والغاز من خلال اعتمادهما تكنولوجيا الحفر والتكسير، فضلاً عن تركيز معظم استثماراتهما النفطية الحالية من أجل دعم خططهما في هذا الصدد.
على الرغم من ذلك، استمرت السعودية، بالنظر إلى طاقتها الإنتاجية الفائضة، بلعب دور المنتج القادر على السيطرة على أسعار السوق من خلال رفع أو خفض الإنتاج كلما دعت الضرورة لذلك.
لكن هذا الدور المحوري لا يبدو قادراً على الصمود. فعندما تبدأ الأسعار في الارتفاع، فإن منتجي النفط الصخري، الذين تسببوا باختلال أسواق الطاقة على نحو كبير، قادرون على إبطال قرارات المنتجين التقليديين الكبار، الساعية إلى تجميد الإنتاج، في غضون أشهر، وليس سنوات. وذلك من خلال العودة إلى المنافسة، والاندفاع لملء الفراغ بغية التهام حصصهم في السوق. نستنتج أن العصر الذهبي للنفط، حيث كانت تسجل الأسعار فيه فوق مستوى المائة دولار للبرميل، قد ولّى فعلاً، وعلى الدول المنتجة التكيّف مع حقبة جديدة من النفط الرخيص.
في الواقع، إن انخفاض أسعار النفط يمكن أن يؤدي إلى خلق توازن جديد للقوى في صناعة النفط، اعتماداً على ردود فعل الدول المنتجة. فعند سعر 55 دولاراً للبرميل مثلاً، فإن النفط قادر على وضع بعض الدول المنتجة تحت ضغط كبير في ظل عائدات نفطية متدنية. وقد تضطر دول، مثل فنزويلا ونيجيريا والعراق وإيران وروسيا، إلى إقرار المزيد من الخطط التقشفية من أجل التصدي للعجز المتنامي في موازناتها العامة خلال السنوات الخمس المقبلة. وبالمثل، فقد جمعت دول مجلس التعاون الخليجي ثروات كبيرة خلال العقد الماضي، من خلال بنائها احتياطيات نقدية وفيرة وصناديق للثروة السيادية، ولكن حتى هذه الدول قد تتعرض للضغوط إذا ما استمرت في السير بالنهج الحالي المعتمد بشكل أساسي على عوائد النفط.
(خبير اقتصادي أردني)