استخدام الجيش الأميركي للفوسفور الأبيض... من الفلوجة إلى الموصل

05 نوفمبر 2016
شهادات حول استخدام الفوسفور الأبيض في كرمليس (العربي الجديد)
+ الخط -


تزداد معركة استعادة مدينة الموصل العراقية من قبضة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، ضراوة، بعد دخولها أسبوعها الثالث في أكبر حملة عسكرية يشهدها العراق منذ سنوات طويلة، بدعم مباشر من الولايات المتحدة. وعلى وقع "النية" الأميركية بتحرير المدينة "سريعاً"، حصلت "العربي الجديد" على إفادات وشهادات ميدانية من ضباط بالجيش العراقي و"البشمركة"، فضلاً عن مختصين بمجال الأسلحة المحرمة الخبيثة وخبراء بيئة وإفادات شهود عيان من السكان المحليين، تؤكد استخدام الطائرات الأميركية لأسلحة محرّمة دولياً، أبرزها الفوسفور الأبيض، بهدف تحقيق نصر سريع على "داعش".

في هذا السياق، برزت أولى الشكوك حول استخدام قنابل الفوسفور الأبيض من قبل الجيش الأميركي في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عندما دخلت القوات العراقية محيط الموصل من المحورين الشمالي والشرقي من دون قتال، وعُثر على جثث متفحمة لعناصر "داعش"، فضلاً عن احتراق بساتين ومواشي وجدت هامدة في مكانها.

ولا يعتبر استخدام الجيش الأميركي لأسلحة محرّمة دولياً في العراق "حدثاً جديداً"، إذ سبق له استخدامها في معركة الفلوجة الثانية عام 2004. ولا تزال آثار الفوسفور الأبيض حتى الآن على سكان المدينة، بفعل ارتفاع معدّل سرطانات الجلد والقصبة الهوائية والمثانة والثدي والتشوهات الخلقية والعقم فيها، كما أن مدينة النجف تعاني أيضاً من آثار الأسلحة المحرّمة، بفعل الاشتباكات بين الأميركيين ومقاتلي "جيش المهدي". واستخدم الأميركيون في حينه، القنابل العنقودية والانشطارية، كما برزت تقارير موثقة عن استخدام قنابل "النابالم" في معركة مطار بغداد خلال الغزو الأميركي للبلاد عام 2003 ضد الحرس الجمهوري العراقي، بعد استعصاء السيطرة عليه.

إحدى القرى التي تعرّضت للفوسفور الأبيض، هي كرمليس، ذات الغالبية المسيحية، الواقعة على بعد 30 كيلومتراً، شرق الموصل، أسفل جبل زردك. وكانت مسرحاً لاشتباكات عنيفة بين عناصر "داعش" وقوات "البشمركة" الكردية، انتهت بسيطرة الأخيرة ومقتل العشرات من عناصر التنظيم. تحوّلت القرية إلى مسرح لقنابل أميركية حديثة، مكّنت "البشمركة" من دخولها من دون قتال، بل حتى أن الدبابات كانت تسير في شوارعها بسرعة كبيرة، من دون إطلاق رصاصة واحدة.

في هذا الإطار، أفاد ضابط رفيع في "البشمركة" لـ"العربي الجديد"، بأن "الأميركيين استخدموا قنابل جلكن (تعني باللغة الكردية قذرة)". وأضاف بلهجة عربية رديئة "لقد كنت أراقب قصف الطائرات الأميركية لقرية كرمليس وقريتي بدنة الصغرى والكبرى المجاورتين، من فوق جبل زردك، عندما ألقت قنابل أحدثت صوتاً مدوياً ولهيباً، استمر دقائق عدة في القرية، حوّل الليل إلى نهار من شدة الحرائق". وأشار إلى أن "إلقاء القنابل أعقبه تصاعد عمود مائل من الدخان الأبيض ذي رائحة كريهة جداً".

وكشف أنه "تم إبلاغهم قبل ساعات بارتداء الأقنعة ضد الغازات، لكن المسؤول قال لنا إن ذلك بسبب مخاوف من قصف داعش للمنطقة بغاز الكلور". وأردف: "عندما دخلنا المدينة بعد نهاية المعارك والقضاء على عناصر داعش، شاهدت جثثهم متفحمة".

تكاد تلك التفاصيل والمشاهدات أن تتكرر في بلدات أخرى مجاورة، يسيطر عليها الجيش العراقي أو بالأحرى تقع ضمن قاطع عملياته العسكرية، بفعل تأكيد عقيد بالجيش العراقي أن "الحي الجنوبي لمدينة الحمدانية تم قصفه بقنابل عنقودية بعد استعصاء دخوله لأكثر من 46 ساعة".



وأشار العقيد أحمد عبد السلام، لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "بصراحة لا أعرف نوع تلك القنابل، لكنها بعد أن تسقط على مواقع داعش تستمر الانفجارات لنحو سبع دقائق، وعلى رقعة بطول كيلومتر مربع واحد. وبعد خمس أو ست قنابل، انتهت مقاومة داعش ودخلنا من دون قتال". وذكر أن "مناطق أخرى صُهر بها كل شيء، حتى أن السيارات ونوافذ المنازل كانت منصهرة". لكنه شدّد على أن "هذا القصف لا يتم إلا بعد التأكد من خلو المنطقة من المدنيين".

وكشفت مصادر في قيادة العمليات المشتركة، لـ"العربي الجديد"، أنه "يتمّ دفن الجثث المحترقة في حفر عميقة، وبشكل جماعي". وأضافت أن "موقع دفن الجثث التي يُقدّر عددها بنحو 40 جثة، يقع قرب مشروع ماء بلدة كرمليس، وبإمكان المنظمات الدولية التوجه إلى المنطقة والتأكد من ذلك".

بدوره، أوضح المختص بشؤون البيئة فاضل عبد الحميد الكاكي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "المشاهدات الأولية لبعض القرى المحررة تؤكد أن هناك شيئاً غير طبيعي تعرضت له". وأضاف أن "بعض القرى لا حياة فيها، حتى القطط والكلاب السائبة نفقت من دون أي آثار على وجود رصاص أو شظايا معارك وانفجارات، حتى أن هناك أشجاراً متفحمة وحقول الذرة كانت عبارة عن لوحة سوداء قاتمة. وهذا لا يحصل إلا من خلال قنابل أو أسلحة خبيثة غير تقليدية". ووصف ما حدث هناك بأنه "مهم لفتح تحقيق عاجل، فأغلب المدن التي تعرّضت لهذا النوع من الخراب والحرق، كانت مستعصية على القوات المهاجمة وتمت معالجتها جواً بهذه الطريقة".

من جهته، كشف صحافي كردي يعمل مراسلاً ميدانياً لإحدى محطات التلفزيون الغربية، لـ"العربي الجديد"، أنه "تمكن من دخول إحدى القرى الصغيرة في أطراف منطقة الخازر (24 كيلومتراً شرق الموصل)، للاطلاع على آثار المعارك والقصف الذي شهدته القرية خلال سيطرة عناصر داعش على القرية". وأضاف أن "منازل القرية تحولت إلى قطع صغيرة من شدة القصف، وأن القنابل المستخدمة في القصف أحدثت حفراً عميقة تصل إلى أمتار عدة في القرية". وعبّر عن خشيته من أن "تتحوّل هذه المناطق إلى بؤرة لانتشار الأمراض السرطانية والتشوهات الخلقية، التي قد تصيب أبناء هذه القرى في السنوات المقبلة، لأننا واثقون بأن آثار هذه القنابل خبيثة، وستبقى ملتصقة في جدران المنازل والتربة، خصوصاً أنها مناطق زراعية".

بدورها، أكدت منظمة العفو الدولية، في تقرير لها حول استخدام الفوسفور الأبيض في معارك الموصل، أن "قوات التحالف الدولي استخدمت الفوسفور الأبيض"، مضيفة في بيان صحافي، أن "استخدام الفوسفور الأبيض يمكن أن يشكل خطراً مميتاً على المدنيين الفارين من مناطق القتال في الأيام أو الأسابيع المقبلة". وكشفت المنظمة عن امتلاكها أدلة مصورة، تؤكد استخدام الطائرات الأميركية لقذائف الفوسفور الأبيض المتفجرة في الهواء فوق قرى كرمليس وقرقوش وبرطلة، قرب مدينة الموصل.



في هذا السياق، اعتبرت المستشارة في منظمة العفو الدولية دوناتيلا روفيرا، أن "الفوسفور الأبيض يمكن أن يتسبب بإصابات مروّعة وحروق في العضلات والعظام، ومن الممكن أن يتسبب بعضه بحروق، كما أن تأثيره يمكن أن يستمر لأسابيع عدة". ولفتت إلى أن "ذلك يعني أن المدنيين الذين يفرون من مناطق القتال حول الموصل، سيكونون عرضة لخطر جسيم وللإصابة بالأمراض". ووجّهت روفيرا دعوتها إلى قوات التحالف الدولي بـ"عدم استخدام الفوسفور الأبيض في المناطق القريبة من المدنيين، بسبب المخاطر الكبيرة التي تبقى في المكان بعد استخدام هذا النوع من الأسلحة". كما تداول ناشطون عراقيون على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً ومقاطع فيديو تظهر قيام طائرات أميركية باستخدام قنابل الفوسفور الأبيض في المعارك.

من جهته، رفض المتحدث باسم قيادة القوات المشتركة العراقية، العميد يحيى رسول، في حديثه لـ"العربي الجديد"، تلك الاتهامات، معتبراً أن "غرض تلك المعلومات هو إفشال جهود تحرير العراق من داعش". وأشار إلى أنه "لا يتم استخدام أسلحة أو قنابل محرمة".

وحول ماهية مادة الفوسفور الأبيض وآثارها على الجسم البشري، قال المتخصص في بحوث نزع أسلحة الدمار الشامل والأسلحة المحرمة دولياً، عبد السلام القيسي، لـ"العربي الجديد"، إن "الفوسفور الأبيض عبارة عن مادة شمعية شفافة وبيضاء ومائلة للاصفرار، وله رائحة تشبه رائحة الثوم، ويصنع من مادة الفوسفات، وعند احتراقه يتفاعل مع الأوكسجين بسرعة كبيرة محدثا ناراً ذات لهب شديد ودخاناً أبيض كثيفاً".

وحول آثاره المباشرة على الجسم البشري والبيئة، اعتبر القيسي أنه "في حال تعرض منطقة ما للتلوث بالفوسفور الأبيض، فإنه يترسّب في التربة أو قاع الأنهار والبحار. وعندما يلامس جسم الإنسان يحترق الجلد واللحم وصولاً إلى العظام، كما أن استنشاق الغازات الناتجة عن احتراق الفوسفور الأبيض، تؤدي إلى تدمير الجهاز التنفسي وذوبان القصبة الهوائية، ما يؤدي إلى وفاة الضحية اختناقاً".

وأشار إلى أن "ما شاهدناه يؤكد وجود قنابل محرّمة، وأنا أرجح استخدام فوسفور أبيض وقنابل أخرى من طراز آخر محرّمة دولياً بالتأكيد، تحديداً في مسألة تفحم الجثث وسلخ الجلد واللحم عن العظم للإنسان والحيوانات وتيبّس الأشجار والنباتات وانصهار الحديد".

ميدانياً، أعلنت مصادر عسكرية عراقية لـ"العربي الجديد"، عن "تمكّن القوات العراقية من السيطرة على مناطق جديدة شمال وشرقي الموصل". وذكر قائد الموصل، الفريق الركن عبد الأمير رشيد، في بيان مقتضب، أمس الجمعة، أن "قطعات جهاز مكافحة الإرهاب تمكنت من تحرير أحياء الملايين والسماح والخضراء وكركوكلي والقدس والكرامة، في الساحل الأيسر لمدينة الموصل". وأضاف أن "القطعات رفعت العلم العراقي فوق المباني بعد تكبيد العدو خسائر بالأرواح والمعدات".

كما أكدت مصادر عسكرية عراقية خاصة لـ"العربي الجديد"، أن "الإعلان غير دقيق بسبب استمرار المعارك في تلك المناطق"، مضيفة أن "النجاح الذي تحقق أمس، هو اقتحام تلك المناطق وخوض اشتباكات داخلها، لكن ليس السيطرة عليها".

في المحور الجنوبي، أفاد قائد جهاز مكافحة الإرهاب لـ"العربي الجديد"، بأن "القوات العراقية باتت على مشارف مطار الموصل الدولي، ونأمل أن نتمكن، اليوم السبت أو غداً الأحد، من السيطرة عليه". وتركزت أغلب المعارك في منطقة الشلالات السياحية، شمال الموصل، ومنطقة الفلاح السكنية، شرق الموصل، في الوقت الذي تمكنت قوات جهاز مكافحة الإرهاب من السيطرة على مجمع ومول دجلة السياحي، شمال الموصل.

في هذا الإطار، كشفت مصادر متابعة لـ"العربي الجديد"، أن "القوات العراقية دخلت مرحلة جديدة من العملية العسكرية، تقوم على أسلوب قضم الأرض والتقدم بشكل مستمر، ولو كان بطيئاً، لحين الوصول إلى قلب المدينة".

كما ذكرت مصادر أخرى أن "داعش أقدم على تنفيذ سلسلة عمليات إعدام بحق سجناء كانوا معتقلين لديه في الموصل"، فيما تحاول مليشيات الحشد الشعبي التقدم أكثر باتجاه مدينة تلعفر، عبر طريق ملتوٍ يمر بوديان ضيقة محاذية لمحور جنوب غربي الموصل، وسط صعوبات كبيرة بسبب انعدام الغطاء الجوي من طيران التحالف لها وتواضع إمكانيات سلاح الجو العراقي.