سلّط إعلان نائب رئيس الوزراء الروسي، يوري بوريسوف، عن احتمال تأجير حكومة النظام السوري، خلال الأسبوع المقبل، ميناء طرطوس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، لروسيا لمدة 49 عاماً، الضوء مجدداً على حجم الهيمنة الروسية في سورية، في إشارة إلى إصرار روسيا على الإمساك بكل مفاصل البلاد الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وحتى الاجتماعية، على الرغم من وجود الإيرانيين الذين يحاولون مجاراة الروس. في ختام محادثات أجراها في دمشق مع رئيس النظام السوري، بشار الأسد، السبت الماضي، قال بوريسوف إن "المسألة المحورية التي تعطي زخماً إيجابياً هي موضوع استخدام ميناء طرطوس". وأضاف أن "الجانبين حققا تقدماً ملحوظاً في هذه المسألة"، معرباً عن أمله في "توقيع عقد بين البلدين خلال الأسبوع المقبل تستأجر روسيا بموجبه ميناء طرطوس لمدة 49 عاماً، من أجل استخدامه من قبل قطاع الأعمال الروسي".
وأوضح أن "القرار بشأن إيجار الميناء لروسيا تم اتخاذه أثناء جلسة للجنة الحكومية المشتركة بين الجانبين". ورأى بوريسوف أن "هذا القرار سينعكس إيجاباً على التبادل التجاري بين البلدين". وإلى جانب شغله منصب نائب رئيس الحكومة في روسيا، يرأس بوريسوف في الوقت نفسه الجانب الروسي في اللجنة الروسية السورية المشتركة للتعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والفني بين البلدين.
ويتوج هذا الاتفاق سلسلة من الخطوات التي أقدمت عليها روسيا لتكريس وجودها في سورية منذ تدخلها العسكري في البلاد في سبتمبر/ أيلول 2015، بهدف إنقاذ النظام الذي كان على وشك السقوط تحت ضربات المعارضة المسلحة. وكشفت المعطيات عن مدى الاهتمام الروسي بمنطقة الساحل السوري، في ظلّ عمل موسكو على تثبيت مصالحها عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. وكان مطار حميميم في ريف اللاذقية، الذي اتخذته القوات الروسية قاعدة لقواتها الجوية، منطلقاً لتكريس وجودها في عموم الساحل، بعد أن قررت عام 2016 توسيع المطار الذي كان معداً لاستقبال الطائرات المروحية فقط، بناء على اتفاق وقّعته مع النظام السوري في أغسطس/ آب 2015، حصلت فيه على حق استخدام هذه القاعدة من دون مقابل، ولأجل غير مسمّى.
يذكر أن القاعدة البحرية الروسية في طرطوس هي منطقة الوجود الروسي الوحيدة في البحر المتوسط، إذ كان الوصول إلى "المياه الدافئة" وإقامة قواعد عسكرية فيها حلماً تاريخياً للروس، يمكنهم من إيجاد نقطة ربط بين قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا، ما يعني وجوداً لروسيا في قلب العالم.
ولا شك في أن الحاضنة الاجتماعية في الساحل شجّعت روسيا على اختيار المنطقة كنقطة ارتكاز للوجود الروسي في سورية، بسبب الترحيب الشعبي من الأهالي، بصورة ربما أكثر ترحيباً من الوجود الإيراني، فضلاً عن وجود عدد كبير من الضباط السوريين من أبناء الساحل الذين تلقوا العلوم العسكرية في الأكاديميات الروسية.
وكان مصدر رفيع المستوى في مكتب الرئيس الإيراني حسن روحاني قد أكد، في تصريحات صحافية، الأنباء التي ترددت عن وجود مباحثات مع الجانب السوري حول تسليم إدارة ميناء اللاذقية المطل على البحر المتوسط لطهران، على هيئة استثمار طويل الأمد مقابل إسقاط ديون دمشق المستحقة لها. وتوقع المصدر أن يتم توقيع الاتفاقية خلال زيارة مرتقبة لروحاني إلى دمشق، رداً على زيارة بشار الأسد إلى طهران في فبراير/ شباط الماضي.
في المقابل، استبعد مراقبون أن تسمح روسيا لإيران بالسيطرة على ميناء اللاذقية، خصوصاً مع وجود القاعدة الأهم لروسيا في سورية، وهي قاعدة حميميم في ريف اللاذقية. تعتبر روسيا أن الساحل السوري برمته هو من حصتها مقابل تدخلها العسكري لصالح نظام الأسد.
إلى جانب ذلك، كشفت وسائل إعلام روسية عن اعتزام شركات روسية تأهيل قرية المنارة السياحية بمحافظة طرطوس، مشيرة إلى أن "كلفة المشروع تبلغ حوالي 90 مليون دولار". وأوضحت أن "المشروع عبارة عن مشروع لفندق 5 نجوم يقع على شاطئ مدينة طرطوس، يتضمن أسواقاً تجارية ومول تجارياً ومسابح وملاعب أطفال وفيلات وصالة مؤتمرات".
وبحسب وسائل إعلام روسية، فإن "المشروع مقدمة لمشاريع سياحية أخرى ستقام بالتعاون بين البلدين، مع دخول 80 شركة استثمار روسية إلى سورية في عام 2018 للتعرف إلى واقع الاستثمار على الأرض". كما سبق للنظام إعطاء عقود استثمارية لشركات نفط روسية، تقضي بمنح الأخيرة حقوق التنقيب عن النفط والغاز في الساحل السوري، لمدة 25 عاماً، بمساحة تُقدّر بنحو 2200 كيلومتر مربّع.
كذلك تسعى روسيا إلى تكريس حضورها في منطقة الساحل السوري ثقافياً وتعليمياً، من خلال دعم افتتاح المعاهد التي تعلم اللغة الروسية التي تزايد عددها بشكل كبير، فضلاً عن زيادة الطلب على "الثقافة الروسية" بين الشباب واليافعين، مثل الاستماع إلى الموسيقى الروسية، وكذلك تقديم الوجبات الروسية في العديد من المطاعم التي سميت بأسماء روسية، فيما باتت مشاهد تجول الجنود الروس في مدن الساحل السوري أمراً اعتيادياً.
وتحت ضغط من روسيا، أغلقت وزارة الأوقاف التابعة للنظام مدارس تنتمي للطائفة الشيعية في الساحل السوري، بحجة أنها لا تلتزم بالمناهج الرسمية، مع اعتبار روسيا الساحل السوري منطقة نفوذ لها، ومنفذاً للوصول الروسي البحري إلى سورية، في حين تعتبرها إيران أيضاً منطقة نفوذ لها. وفي الوقت الذي اتجهت فيه إيران إلى دعم انتشار اللغة الفارسية في الساحل، بدأت روسيا بتقديم منح دراسية لتعلم اللغة الروسية.
وبطبيعة الحال، فإن الوجود الأقوى أو الأوضح لروسيا يتمثل في الجانب العسكري، مع عملها على استراتيجية ثابتة تقضي بتقليص نفوذ قوى الصراع المحلية والإقليمية، وإيجاد وسائل للضغط على نظام الأسد عند الحاجة، من خلال قوى عسكرية وأمنية، مسيطرة على مناطق واسعة من سورية، إما تديرها روسيا مباشرة وإما تكون تابعة لها، وتأتمر بأمرها.
أبرز هذه القواعد والتشكيلات التابعة لروسيا في منطقة الساحل السوري، هي قاعدة مطار حميميم الجوية في اللاذقية، وقاعدة طرطوس البحرية، ومرفأ غورين قرب جبلة، وقاعدة إسطامو الجويّة شمال حميميم. أما أبرز القواعد البرية التابعة لروسيا في الساحل فهي مركز البحوث في طرطوس، بجانب المرفأ، وقاعدة النسر في قلب وادي جهنّم الشهير شرق مدينة بانياس بحوالي 20 كيلومتراً، ومعسكر الطلائع في اللاذقية، وهو مركز قيادة وتجمّع الفيلق الخامس، فضلاً عن نحو 20 نقطة عسكريّة كانت في الأصل ألوية وكتائب تابعة للدفاع الجوي وخفر السواحل لجيش النظام، سيطر الروس عليها بالكامل مع الإبقاء على العنصر السوري بوصفهم كتائب خدمة وحراسة بينما جميع العمال من الروس.