ازدواجية المثقف المصري

26 فبراير 2016
+ الخط -
انتفض جمهور المثقفين في مصر، خصوصاً المنتمين لليسار أو المحسوبين عليه، بعد خبر القبض على الروائي الشاب، أحمد ناجي، وذلك عطفاً على الاتهام الموجه له بخدش "الحياء العام"، بعد نشره فصلا من روايته "استخدام الحياة" في صحيفة "أخبار الأدب" الأسبوعية قبل شهور. وتراوحت ردود أفعال هؤلاء المثقفين بين إصدار بيانات للتضامن مع ناجي، واتهام الدولة بمحاربة "الفكر والإبداع"، وبين تفريغ بعض الكتاب مقالاتهم وأعمدتهم، فضلاً عن خروج جريدة "القاهرة" الأسبوعية بغلاف أبيض، كُتبت أسفله عبارة "لا_لمحاكمة_الخيال"، ناهيك عن تعاطف بعض المثقفين العرب مع القضية، باعتبارها جريمة ضد حرية التعبير.
دعك من ركاكة الرواية (هل هي رواية أصلاً؟)، والانحطاط اللغوي والشعوري في محتوى الفصل الخامس الذي تم نشره قبل شهور، والذي لا يختلف، في لغته ومفرداته عن روايات "أفلام المقاولات" الهابطة التي انتشرت في السبعينيات، ولكن، ما يثير التأمل حقاً هو الازدواجية الأخلاقية الفجة التي يتعاطى بها جمهور المثقفين المصريين والعرب مع مسألة حرية الفكر والتعبير، ناهيك عن ازدواجيتهم السياسية في مسائل تبدو بديهية، كالموقف من الاستبداد ودعم الأنظمة السلطوية. فكثيرون من الموقعين على بيان التضامن مع ناجي كانوا، وربما لا يزالون، من أهم داعمي السلطة العسكرية في مصر. وبمراجعة عريضة البيان سوف نكتشف أن بعض الأسماء الموقعة عليه كانت من أشد المدافعين عن قمع السلطة معارضيها، خصوصاً من الإسلاميين أو شباب الثورة، ولا سيما في أثناء الشهور الأولى بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013. لم يعرف هؤلاء أنه لا حرية تحت حكم العسكر، إلا عندما اقترب القمع من أحدهم، ولم يدركوا مخاطر الدفاع عن الفاشية العسكرية والإعلامية إلا عندما استدارت لهم.
لا مشكلة في أن يتبنى هؤلاء المثقفون موقفاً سياسياً أو أيديولوجيا معيناً، فالأصل هو الاختلاف والتنوع في التفكير، لكن المعضلة تكمن في تجزئة المواقف الأخلاقية والمبدئية كي تكون حسب الطلب، وحسب لون "الضحية"، وهل تنتمي للمعسكر الفكري والثقافي نفسه أم لا. فعلى سبيل المثال، لم نسمع لهؤلاء صوتا، عندما تم الزج بعشرات آلاف المواطنين المصريين في السجون، لامتلاكهم رأيا أو موقفاً مغايراً من السلطة الحالية. ولم ينتفض لهم جفن مع استمرار مسلسل التصفية والاعتقالات التي تجري بحق أطفال وشباب كُثر، كان آخرهم الشاب الإيطالي، جوليو ريجيني، الذي تمت تصفيته بطريقة وحشية، على الرغم من أنه جاء إلى مصر في مهمة أكاديمية. ولم نسمع عن بيان للتضامن مع صحافيين وكتاب وباحثين، مثلما هي الحال مع هشام جعفر وإسماعيل الإسكندراني، وغيرهما.
المواقف المزدوجة للمثقفين المصريين والعرب كثيرة، وقد اتضحت، بشكل كبير، بعد انقلاب يوليو، وذلك حين خرست أسماء كبيرة، لها وزن في فضاء الفن والأدب والثقافة والفكر، لم تدعم الانقلاب فقط، وإنما أيضاً برّرت وحشيته وقمعه المخالفين. أما الأنكى فهو أنه، بعد مرور أكثر من عامين ونصف العام على تلك الخطيئة، لم يندم هؤلاء أو يتراجعوا، أو يراجعوا مواقفهم. فمنهم من تأخذه العزة بالإثم، ومنهم من تطغى كراهيته الإسلاميين على كل موقف أخلاقي أو واجب إنساني قد يتجاوز الحسابات السياسية والإيديولوجية الضيقة.
لن يذكر التاريخ هؤلاء المثقفين بإنجازاتهم (إن وجدت!) الفكرية والأدبية أو الثقافية، وإنما بمواقفهم الأخلاقية. ولدينا أمثلة كثيرة في التاريخ الغربي التي كانت لها إسهامات فكرية كبيرة، ولكن شوهتها مواقفهم الأخلاقية، مثلما الحال مع الفيلسوف الألماني الوجودي، مارتن هايدغر، الذي انضم للحزب النازي، ودعم زعيمه أدولف هتلر، أو ما فعله عالم السياسة المعروف، كارل شميت، الذي احتفى بصعود هتلر إلى سدة الحكم عام 1933، ودافع عن موقفه تجاه اليهود وغيرهم.
دلالات
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".