اختراق صيني في جنوب السودان... سياسة من بوابة المصالح

15 يناير 2015
تغيير كبير في سياسية الصين الخارجية (فرانس برس)
+ الخط -
"اللعب في الزمن بدل الضائع"، هو ما تحاول الصين أن تفعله في ما يتصل بتحرّكها الأخير لحثّ الفرقاء في دولة جنوب السودان، على التوصّل إلى تسوية سياسيّة شاملة تنهي الحرب الأهليّة الدائرة في الدولة الفتية منذ ما يتجاوز العام، وخصوصاً أنّ الخيارات المطروحة في ما يتصل بالأزمة الجنوبيّة تهدّد مصالح الصين في جوبا. لم تتردّد الصين، عبر وزير خارجيتها وانغ يي، في رعاية مؤتمر تشاوري، يوم الإثنين الماضي، في الخرطوم، للتوصّل إلى السلام في الجنوب، بمشاركة وزراء خارجية السودان وإثيوبيا وجنوب السودان، فضلاً عن ممثلين للمعارضة الجنوبيّة، بقيادة رياك مشار، والهيئة الحكومية للتنمية في دول شرق أفريقيا "إيغاد".

وسبقت الجلسة الرسمية للمؤتمر، مباحثات ثنائيّة منفصلة، عقدها وزير الخارجية الصيني وانغ يي مع وفدي الحكومة في جوبا والمعارضة. وتؤكّد مصادر متطابقة لـ "العربي الجديد"، أنّ الصين حذرت الجنوبيين من مغبّة التعنّت في ما يتعلّق بالتوصّل إلى اتفاق سلام عبر مظلة الـ"إيغاد". كما وضعت الطرفين في الصورة حول التحرّكات داخل أروقة مجلس الأمن بشأن مشاريع وضع الدولة الفتيّة تحت الوصاية الدوليّة وإدارة إيرادات النفط والموارد دولياً، فضلاً عن حظر الطيران وجملة من العقوبات التي قد لا تجلب أي فائدة للطرفين، كما نقلت خشيتها بشأن النفط.

ويوضح الناطق الرسمي باسم وفد المعارضة المسلحة ماو بيتر لـ "العربي الجديد"، أنّ "للصين استثمارات كبيرة في جنوب السودان، وتريد تطمينات من الحكومة والمعارضة بعدم المساس بها"، لافتاً إلى أنّها "تريد أن تتأكد إن كان لدينا أي رغبة في إغلاق آبار النفط وإيقاف تصديره، الأمر الذي قد تتضرّر منه". ويعتبر أنّ "للصين دوراً كبيراً في دعم عملية الحرب والسلام، بالنظر إلى إيرادات البترول، والتي تنفقها الحكومة في شراء الأسلحة وإشعال فتيل الحرب، ولذا اقترحنا عليها وضع إيرادات النفط في حساب مغلق تحت رعايتها، بحيث يتمّ توظيفها لصالح المتضررين من الكوارث، باعتبار استمرار تدفّق النفط على معظم مناطق إنتاجه في الوحدة وشمال أعالي النيل وهجليج". ويشير إلى أنّ "بكين وعدت بدراسة الاقتراح، لكن إذا لم تبدِ موقفاً عاجلاً، فسنضطر إلى وقف تصديره".

وبدت الجلسة الرسميّة للمؤتمر أشبه بجلسة علاقات عامة، تخللها التصفيق داخل قاعة المؤتمر المغلقة، بعد كل متحدث، فيما حاول الطرف الجنوبي، ممثلاً بوزير الخارجيّة برنابا بنيامين، مع بدء المؤتمر الصحافي، إظهار التوافق بإقدامه على الإمساك بيد رئيس وفد المعارضة المسلحة تعبان دينق، وجلس الرجلان بالقرب من بعضهما، من دون أن يصدر عن الأخير أي إشارات حول تحقيق توافق ما.

وخرج المؤتمر برؤية مشتركة، جاءت في خمس نقاط، تتصل بالتزام الفرقاء الجنوبيين بوقف فوري وغير مشروط للاعتداءات وإطلاق النار، فضلاً عن تشكيل حكومة انتقالية وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية للمتضررين. وتبدو هذه النقاط أشبه بتكرار لما ورد في الاتفاقات الثلاثة التي وقعها الطرفان في أديس آبابا، عبر وساطة الـ"إيغاد"، من دون أن تجد حيزاً للتنفيذ، وهو ما أقرّ به وزير الخارجيّة السوداني علي كرتي، لكنه اعتبر أنّ "المؤتمر في حدّ ذاته، قد أعاد الأمل لوساطة الإيغاد، وهو بمثابة نقطة انطلاق جديدة لأجل السلام ووضع حد للحرب في الجنوب".

الجديد في الاتفاق بروز الصين بقوّة في المشهد الجنوبي، لحماية مصالحها، وخصوصاً أنّ الأخيرة دفقت استثمارات تصل قيمتها إلى 12 مليار دولار داخل الجنوب، فضلاً عن أنّها المستثمر الأكبر في البترول الجنوبي، وتعتمد عليه بنسبة 8 في المائة. وتحاول الصين جاهدة أن تُظهر نفسها كبديل جيد للأفارقة، وأن يكون لها تأثير قوي وسطهم، خصوصاً مع انشغال واشنطن والغرب عموماً، بالحرب على الإرهاب في سورية والعراق، فضلاً عن انشغالهم بالأزمة الأوكرانية.

وتسعى بكين في الوقت الراهن إلى قطع الطريق أمام التدخّل الدولي في جنوب السودان، وخصوصاً أنّ ذلك يهدّد مصالحها ويحدّ من حركتها الاستثماريّة، على الرغم من أنّ وزير الخارجية الصيني حاول جاهداً خلال المؤتمرات الصحافية التي عقدها في الخرطوم في اليومين الماضيين، عدم ربط التحرّك الصيني في الملفّ الجنوبي بالمصالح الذاتيّة، قاطعاً بأنّ التحرك يأتي بناء على رغبة الأفارقة أنفسهم، قبل أن يؤكد رغبة الصين في حلّ القضايا والأزمات في أفريقيا. ونفى تماماً أن يكون مؤتمر الخرطوم بمثابة آلية جديدة لحلّ الأزمة الجنوبيّة، مؤكّداً أن تحرّك بلاده يأتي في إطار دعم وساطة الـ"إيغاد".

وبالفعل، أعلنت الـ"إيغاد" تأجيل قمتها المزمعة في 18 من الشهر الحالي إلى أواخر الشهر نفسه لتعقد على هامش اجتماعات قمة الاتحاد الأفريقي، من دون أن تذكر أسبابا محدّدة للتأجيل، وخصوصاً أنّ القمة كان من المفترض أن تنظر في ملف سلام جنوب السودان. كما أن التأجيل جاء بعد يوم من انعقاد المؤتمر التشاوري لسلام الجنوب الذي عقدته الصين في الخرطوم.

من الواضح أنّ بكين لا تريد من الأفارقة أن يجنحوا نحو رفع الملف الجنوبي إلى مجلس الأمن، أو أن تخرج القمّة بقرارات مستعجلة متصلة بذلك، وهو ما أكده الوزير الصيني نفسه بإشارته إلى أنّ مؤتمر الخرطوم هو بمثابة رسالة محددة إلى العالم، وهي "أننا ندعم الإيغاد في حلّ قضيّة الجنوب، كما ندعو ونشجع الطرفين على إجراء مشاورات جدية لحلّ الخلافات البسيطة التي تعيق الوصول إلى السلام"، معتبراً أنّ "السلام في الجنوب لن يأتي بسهولة، كما أننا لا نسمح بأي تأخير فيه، لأن السلام إذا تعثر وتوقف، فالمتضرّر الأكبر شعب الجنوب، وكذلك ستتأثر المنطقة". وقال إنّ "هذا ما لا يريده المجتمع الدولي، ونحن كأصدقاء لأفريقيا لا نريد أن نرى ذلك، ولهذا جلسنا تحت سقف واحد لإمساك الطرفين بالفرصة السانحة والإسراع في إيجاد الحل للقضايا الخلافية عبر التفاوض".

ويؤكد إعلان وزير الخارجية الصيني، عزم بلاده إرسال كتيبة قتالية من 700 عنصر إلى جنوب السودان، بطلب من الحكومة، أنّ جوبا تُعتبر استراتيجية بالنسبة لبكين التي تقدم على تلك الخطوة للمرّة الأولى في تاريخها. ويقول كرتي إنّ "دخول الصين في المشهد الجنوبي بقوة أمر طبيعي ومقبول من الجميع، لأنه يأتي لتحقيق السلام والمنفعة المشتركة"، لافتاً إلى أنّ بكين لا تعمد إلى فرض حلول أو شروط بعينها، كما تحرص على الحلول الأفريقية".

وفي سياق متّصل، يقول المحاضر في جامعة هارفرد الأميركية لوكا بيونق لـ "العربي الجديد"، إنّه "من الواضح أنّ هناك تغييراً كبيراً في سياسية الصين الخارجية، بدأت تختبرها في دولة جنوب السودان"، لافتاً إلى أنّ "الصين وللمرة الأولى في تاريخها، ترسل قوات حفظ سلام مقاتلة إلى دولة ما، وتكون لديها مبادرات لحلّ المشاكل وتلعب دوراً فعالاً بدلاً من الوقوف في صف المتفرج".

ويستبعد بيونق أن "تكون القضايا الاقتصادية فقط ما يحرّكها للتدخّل في المشهد الجنوبي، على الرغم من أن 77.5 في المائة، من صادرات الجنوب تذهب إلى الصين، و30 في المائة من واردات جوبا من الصين"، مشيراً إلى أنه "من الواضح أنّ هناك انفراجاً وتغييراً في السياسة الخارجية الصينية، كان مدخله الجنوب، ولا سيّما في ظلّ تعثّر علاقات جوبا مع الغرب والولايات المتحدة أخيراً. ويعرب عن اعتقاده بأن الصين "قادرة على تحقيق خرق في المشهد الجنوبي، لا سيّما في حال ضغطت على الخرطوم لتضغط الأخيرة بدورها على المعارضة المسلحة"، لافتاً إلى أنّ "نظرة بكين تكمن في استقرار الدولتين، وبعلاقاتها الخاصة مع الخرطوم يمكن أن تؤثر في المعارضة".

المساهمون