ولدت الموسيقى الأميركية من عبقرية سوداء؛ ذلك الاندماج لإيقاعات وألحان أفريقية مع هارمونية أوروبية، لتنتهي في مستعمرة استرقاق بيضاء. ليست فكرة الرق القديمة نفسها، إنما أحد أساليب الاستغلال المديني الذي تطور من مرحلة الإقطاع إلى إمبريالية ما بعد حداثية.
قبل ظهور موسيقى العرق 'Rase Record' عام 1920، لم تقدم شركات إنتاج الموسيقى في أميركا على تسجيل أغانٍ للفنانين السود، عدا استثناءات قليلة. وربما كانت أغراضها توثيقية وفي حدود ضيقة، فأول تسجيل لفنان أسود يعود إلى عام 1890. على خلاف المستوطنين السود، كان المهاجرون حديثاً من أوروبا يسجلون أسطوانات بلغات بلدانهم الأصلية، لنشرها وسط دوائرهم الصغيرة.
من أوائل العقود مع فنان أسود، هو الذي وقعته الفنانة الأميركية من أصل أفريقي، ميمي سميث، مع شركة Okeh. شجعت مبيعات سميث التي بلغت 75 ألف أسطوانة، المنتجين البيض على الاستمرار في الإنتاج لفنانين سود.
حرص المنتجون البيض على التقليل من عرق سميث عند تسويق أسطوانتها الأولى، وفي أسطوانتها الثانية وصلت مبيعاتها إلى مائة ألف نسخة. كانت الغاية من تعريف أغاني السود بوصفها موسيقى عرقية، نوعاً من الفصل العنصري بين موسيقى بيضاء، أوروبية بالكامل، وأخرى سوداء، وإن كانت أميركية بالكامل. فالازدراء يشمل كل ما له صلة بالمجتمعات السوداء، لكن هل ولدت في أميركا موسيقى ليست سوداء؟ بالتأكيد لا، حررت موسيقى الجاز أميركا من استعباد الموسيقى الأوروبية، لكن القسر العنصري أراد تقديم نفسه بكونه عنصراً أوروبياً أبيض، وليس أميركياً تشكله بهارات متنوعة، مثل النسيج الإنساني.
في سيرتها الذاتية بعنوان "حياتي"، تستعير الراقصة الأميركية إيزادورا دانكن (1877 - 1927)، جذور الاحتقار البيضاء ضد الثقافة السوداء؛ فوصفها الرقص الذي تقدمه بمصاحبة الموسيقى الكلاسيكية، الأوروبية، فناً رفيعاً، لم يكن دون الانتقاص من موسيقى الجاز السوداء وما يصاحبها من رقص.
استمرت ظاهرة "موسيقى العرق" بين 1920 و1940، لكنها كانت مرحلة من تاريخ عنصري شهدته الموسيقى السوداء، بدءاً من استبعادها كمحتوى ثقافي يستحق الانتشار، وبالتالي نزع السود عن الثقافة الأميركية، إلى التمييز العرقي الذي يخوّل للمنتج الأبيض استغلال الفنانين السود ومصادرة حقوقهم.
ومع أن جيل العشرينيات وجد نفسه يحصل على فرص أفضل تتعلق بالوقوف خلف الميكروفون، لكن الهيمنة البيضاء على صناعة الموسيقى، رأت أنها تهب هذا العرق صدقة حين تقدم له تلك الفرصة وتكون أكثر كرماً حين تمنحه فتاتاً من حقوقه.
كان بيغ بيل برونزي، أحد الفنانين الذين أججوا حقبة "موسيقى العرق"، وسجل مئات الأغاني خلال فترة وجيزة، لكنه بالكاد تلقى مقابلاً مادياً. كان برونزي أحد الهاربين من جحيم المسيسبي المحكوم بقوانين جيم كرو في الجنوب الأميركي. وفي شيكاغو، وقف خلف الميكروفون أول مرة عام 1926. لاحقاً، في أحد لقاءاته، أشار إلى عدم حصوله على أي حقوق ملكية.
أصبحت أصوات الجاز والبلوز مصدر إغراء لمنتجي الموسيقى، فمن ناحية جماهيريتها تتوسع، إضافة إلى فائض الربح من استغلال الفنانين السود. أرسلت الشركات كشافيها إلى الجنوب الأميركي لتوقيع عقود مع مواهب سوداء، كانت عقوداً لمرة واحدة، إنها بمثابة سفن جديدة يرسلها المستعمر الأبيض جنوباً لاستقرار الموسيقيين السود.
لم تقتصر وسائل الاضطهاد البيضاء على الحقوق المالية، إنما عمدت إلى مصادرة فرص المئات من الفنانين السود، وتم اجتثاث إمكانية أن تصبح لهم مهنة في الغناء. بعضهم سجلوا أغانيهم من دون عقود، والبعض تم إجباره على استخدام أسماء مستعارة، وآخرون لم تعرف أغانيهم النور، كان ذلك إحدى وسائل مصادرة المنتجين البيض للموسيقى السوداء. كل ما في الأمر أنهم استعادوا ما اعتبروه حقاً يخولهم التصرف بهذا العرق واستغلاله وسرقته.
مع انتهاء حقبة "موسيقى العرق"، استمر التمييز في العقود الموسيقية التي تبرمها شركات الإنتاج، ضد الفنانين السود، ربما شهدت نوعاً من التحسن. لكن بعض الصور تغيرت، وإن ظلت النحاسيات مصدر الإغراء الصوتي في أوركسترا الجاز، وظهر فنانون مهمون، أبرزهم ديوك إلينغتون، وهذا رغم شهرته بين المواطنين ذوي الجذور الأفريقية، بالكاد كان يعرفه الجمهور الأبيض.
كان لويس آرمسترونغ أحد أهم فناني الجاز الأميركيين الذين أحدثوا تثويراً مهماً في موسيقى الجاز، سواء في مقاربة نسيجها الهارموني غير المُعقد مع الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، أو في تكريسها خارج الإطار الشعبوي، لتصبح تعبيراً عن الطبقة الوسطى الأميركية. مع هذا بالكاد وقع في 1956 عقداً يمنحه نصف حقوقه الطبيعية. ظل التمييز عُرفاً يُرتكب ضد السود، لكن موسيقى الجاز أصبحت رمزاً ثقافياً للهيمنة الأميركية، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ربما ولدت موسيقى الروك آند رول كموسيقى بيضاء في الخمسينيات حنقاً على الرمزية الطاغية للجاز، وهو أمر فشلت موسيقى الكاونتري في تحجيمه باعتبارها إطاراً موسيقياً تعريفياً أبيض، مع هذا كانت الكاونتري اشتقاقاً من البلوز السوداء. كذلك الروك عملية دمج بين الكاونتري المهجنة في تصرف أبيض، وموسيقى R&B السوداء. لم يقتصر سطو البيض على سرقة حقوق الفنانين السود واحتكار الموسيقى كاقتصاد ترفيه أبيض، إنما تم السطو على ألحان السود واقتبست موسيقى الروك كثيرا من ألحان الجاز.
لم تغير الخمسينيات من خارطة السطو على حقوق الفنانين السود، فأغنية مثل "في هدوء الليل" التي حققت مبيعات ما بين 10 إلى 15 مليون نسخة، بدلاً من أن يجني كاتبها 100 ألف دولار حقق 783 دولارا فقط، ربما لعب سواد بشرته عاملاً في ذلك.
في الخمسينيات أيضاً، قدم بات بون أغاني لفنانين أسودين، لكنه لم يدفع لهما أي حقوق، لافتاً في حديث لاحق إلى أن الفنانين السود كانوا يشعرون بالسعادة لأنه يساهم في نشر أغانيهم، وكانوا يكتفون بالأمر. لكن التمييز العنصري استمر في خلق فرص غير متكافئة بين البيض والسود؛ فكثير من المنصات الجماهيرية محرمة على الفنانين السود، هناك سلسلة طويلة من أول فنان أسود، وحتى الستينيات، كانت هوليوود لا ترحب بالموسيقيين السود، وفي آخر القائمة، مايكل جاكسون كان أول فنان أسود يظهر على قناة Mtv الموسيقية عام 1983.
يرى هارولد كروز، الكاتب الأميركي من جذور أفريقية في كتابه "أزمة العقل الزنجي"، الصادر في الستينيات، أن استغلال السود، يعود إلى التكوين الحقيقي للمجتمع الأميركي باعتباره طبقات اقتصادية وكتلاً عرقية، تؤكد الصورة المختلة للفردانية الأميركية. فالزنجي، كما يقول، يملك حقوقاً قليلة نسبياً لأن مجموعته العرقية ضعيفة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. إنه طرف بلا حماية ومستضعف من الفئات الوطنية الأخرى.
اصطلح جيرالد هورن "رأسمالية الصراصير" لوصف التاريخ العنصري في رأسمالية صناعة الموسيقى، ضمن كتابه "موسيقى الجاز والعدالة". سيرة الإجحاف الذي تعرض له الفنانون السود وعملية إضعافهم المستمرة من دون هوادة.
واجهت موسيقى السود جميع أشكال الافتراء الطبقي والعنصري، وتعرضت حتى للنفي. لكنها، مع الوقت، امتلكت قوة تأثير، فانعقدت حولها جماعات دعم ومناهضة للفصل العنصري. ففي 1965، رفض على سبيل المثال أعضاء فرقة البيتلز الغناء في مسرح محكوم بالفصل العنصري.
تضاءل التمييز في صناعة الموسيقى، أو أنه أصبح شكلاً لا تشرعه القوانين الأميركية التي عملت على المواطنة المتساوية، بصرف النظر عن العرق أو الدين. لكن الفنانين من أصول أفريقية يأتون من أحياء أفقر وخلفياتهم التعليمية متدنية (وثمة شك في هذا)، لذا يقعون في مصائد عقود تعسفية، في واحد من تلك العقود ربما يحصل مدير الأعمال على ثلاثة أضعاف ما يحصل عليه الفنان من عمله.
كان الفنانون السود يتعرضون للضرب المُبرح إذا لم يخاطبوا الشرطة بلفظ "سيدي"، في فترة الفصل العنصري جنوب أميركا. كانت الكتلة التي تعاملت معها صناعة الموسيقى، تمارس تمييزاً بحسب اللون أو العرق، وكان السود الأكثر عُرضة للاستغلال. وفي مشهد مقتل المواطن الأسود جورج فلويد على يد شرطي أميركي أبيض، تمكن مشاهدة المجزرة التي تعرضت لها موسيقى الجاز، كانت الزهرة الجميلة التي نمت وسط قمامة بشعة.