مقدمة قصيرة للغاية
غالباً ما نتنافس في ما بيننا عمّن كان أولَ المؤسّسين لـ عصر التنوير؟ ثم تواصلت محاولاتنا في مناقشة مَنْ منّا ابتكر وأنعش عصر النهضة الأوروبية. كنا نبذل قصارى جهدنا على أن نكون شركاءَ أولئك المبادرين في شؤون مثل معرفة الثقافة التي صبّت جلّ اهتمامها على حقوق الإنسان الأساسية، ودافعتْ عن اليهود وأبدتِ المزيدَ من الإنسانية في فترات النزعات القومية والتوتاليتارية والديكتاتورية والسّعار الجماعي واستشراء الرداءة، ولكن لم يتنافس أحد على الميدالية الذهبية في قضية البربرية.
من منّا البطل؟ نحن الأبطال يا صديقي. لا تخف! إذا كنا نؤمن بكلمات كافافي، فإن البرابرة ضروريون لحياتنا. إنهم أكثر ضرورة من الناس المتحضرين. ماذا سيحدث لنا لو كنّا بلا برابرة؟ لقد شكّلَ هؤلاء الناس نوعاً من الحل بالنسبة لنا. عارٌ علينا! حتى المركزان الثاني والثالث من منصات الشرف فارغان، بدون فائزين في حقل الفنون القتالية هذا. مَن "نحن" ومن "هم"، اللاطمون والمتضرعون دون كلل أمام البوابات، أولئك الذين لا يتحدثون اللغة القديمة للديمقراطية الأوروبية والذين هم الآن وسيبقون لأمد طويل في حالة المرشح؟ أولئك الذين يمكننا تمييزهم بسهولة.
ليس أبداً مِن نفاذ بصيرة الناس، بل من منظور قادتهم السياسيين. وميزتُهم أنهم يستخدمون دائماً في خطاباتهم زمنَ المستقبل. يتلفظون بـ "علينا أن"، "سوف نفعل"، "ينبغي أن" كما لو أن الحاضر وحياة المواطنين اليومية غير موجودة. ولكن ألا تشبه هذه الخطابة إلى حدّ كبير الدعاية الشيوعية، التي رسمتْ آمالاً كبيرة للمستقبل، لكنها لم تستطع حتى توفير حاضرٍ بسيط لمواطنيها؟
يتحدّث القادة السياسيون عن الآفاق لكنهم لا يعرفون أين يقفون
يتحدّث القادة السياسيون عن الآفاق، لكنهم لا يعرفون أين يقفون. فللجماعات التي لا تزال تستمد السلطة من القومية والدعاية جانبان فقط: الماضي (الذي يحتاجونه لمهاجمة "العدو") والمستقبل (الذي من خلاله يصممون ديستوبيا جديدة- لم يعد مجتمعاً شيوعياً لاطبقياً، بل ديستوبيا نيوليبرالية، ديستوبيا ديمقراطية، ديستوبيا أوروبية). لقد سمعناهم بالفعل (يلفّون ويدورون) قائلين إن الديمقراطية شيء جيد، لكنها لا تلائم ثقافاتنا ومجتمعاتنا على أكمل وجه.
اللعنة! يبدو كل شيء مثل الزواج، الذي، على الرغم من أنه لم يتحول بعدُ إلى طلاق، يذوب تدريجياً، ككتلة جليد. فأولئك الذين في الداخل يريدون الخروج والجهر بالروح الخبيئة المعادية لأوروبا. والذين في الخارج، على الرغم من أنهم لم "ينضجوا بما يكفي" بعد، يلتمسون الدخول، وغالباً ما يدّعون الدعم غير المشروط للنزعة الأوروبية. إنه زمن غريب وعصيب للنظام الأوروبي بـ"سرعتين" و"رئتين" وبأعضاء يفوق عددُهم المرشحين.
الأحلام الأوروبية عن البلقان
هل ما زالت أوروبا بيتنا المشترك؟ جالَ هذا السؤال في ذهني عندما كنت أتأمل في عمل الفنانة الهولندية غودا كوستر، الذي اختارته كصورة غلاف أمامي لمجلة Poeteka Journal رقم 36، إصدار الخريف، 2015.
على ذلك الغلاف، كان هناك رجل يرتدي فستاناً أحمر منقطاً، ويضع منزلاً مكان الرأس. يمسك بيديه منزلاً مشابهاً، ولكنه أصغر من ذلك الذي حلَّ محلّ رأسه.
عنوان الغلاف الأمامي "أحياناً نحلم بأوروبا" لا يتناسب مع تصميمها وحسب، ولكن أيضاً مع محتوى هذه المسألة بالتحديد.
وعلى صفحات المجلة، كانت هناك قصيدة، "صورة السائحة" لـ آلان بوسكيه، حيث يصف أميركية تبلغ من العمر 16 عاماً "بثديين يغنّيان، وبكرسيها، مثل شراب مشمش مثلَّج، البنت التي أتتْ من حقول الذرة كي تنظر بعجب إلى الموناليزا، وفينوس دي ميلو، وإلهة النصر المجنَّحة في ساموثراكي، والتي تعي أن أوروبا تستحق الاحترام، وأن الإنسان العادي يحتاج إلى الثقافة، مثلما يحتاج الإنسان في بلدها إلى الدولار والحليب لوجبة إفطاره. وعندما تخرج من متحف اللوفر، يتكفّلَ أربعة من السادة - بشوارب إنكليزية وحسِّ فروسية - بتعليمها الحب الإلهي". لتعود بكامل تحضّرها إلى الوطن الأميركي. الحب والثقافة. هذه هي ردود الفعل التي يمكن أن يحظى بها السائح من أوروبا، بحسب بوسكيه.
ما هو نوع الغزو الأوروبي الذي توقّعه البلقان؟
ويا لها من مفارقة أن تَصَوُّر الغلاف الأمامي لهذا العدد جاء من شخص يعيش منذ قرون في أوروبا وليس له وطن آخر غير تلك القارة. لقد كان هناك منذ أن "ابتُكِرَ" الحبّ كـ ربٍّ وكـ طاقةٍ نفيسة وجليلة في مواجهة المشرعَن والمحظور.
لكن الأخير، على الرغم من أنه كان يمكن أن يكون مبتكر العمل الفني، الذي ذُهلت به الفتاة الأميركية، يشتري تذكرة باهظة الثمن لدخول قاعات ومعارض متحف اللوفر، حيث التماثيل، التي تم شراؤها أو نهْبها من بلاده. هذا هو الرجل الذي يرى العالم بعينيّ مبتدئ، المرشح الذي قرع الباب دون أن يُفتح. من كان هذا الرجل؟ من سوى رجل البلقان- الآخر الذي ما زال جائعاً لحالة روحية وجمالية مستقرة؟
كان لإحباطه وانتظاره الطويل وزنهما الخاص، ولكن إلى حدٍّ ما أقلّ من أحلامه بأوروبا.
بعد إقامة دويلات جديدة خلال فترة 1990-2000، كان البلقان، المشهورون بمصائرهم المأساوية، يتطلعون بابتهاج إلى شيء واحد فقط: الاحتلال الأوروبي، الذي حدث في مكان ما بغض النظر عن الوسائل والصيَغ، بينما من المتوقع حدوثه في مكان آخر. فما هو نوع الغزو الأوروبي الذي توقّعه البلقان- أهو غزو أوروبا أحلامِهم، أوروبا التي اكتشفتها الفتاة الأميركية الشابة، أو أوروبا المزدهرة المتجهة إلى الأمركة بشكل حثيث؟
ولكن، بما أننا نتشاطر الحيّز نفسه، يمكننا حتى التفكير بالسؤال بشكل معاكس: ما الذي يحلم به الأوروبيون؟ هل يحلمون أيضا بالبلقان؟ بمعنى آخر، هل يتشارك الأوروبيون والبلقان الأحلامَ ذاتها؟
لا أستطيع تصديق ذلك. لكن الأمر لا يعني أن البلقان سيتركون مصائرهم رهن المصادفة. رأى الأوروبيون البلقانَ في أحلامهم، ثم أمستْ هذه الأحلام كوابيس أو هلوسات لهم.
لذلك فإن رؤية الأوروبيين للجار القادم من جنوب شرق أوروبا (تُستحضَر هذه العبارة الملطَّفة لتجنّب ازدراء البلقان) ترتبط برجل يُخرج من الدرْج مجموعة أدوات مطبخ قديمة ملفوفة بالمخمل ومحفوظة بالحرير الناعم.
من هو هذا الشخص؟ لا حاجة للبحث عنه بعيداً! إنه قريب منك. أمام ناظريك مباشرة. إنه البلقانيّ، الذي يصقل أدوات المائدة بشكل جيد وبكل أناة، وكأنه يلاطفها، ولا يتركها قبل أن تبرق وتلتمع. حتى تصبح أكثر إشراقاً من الألماس. حتى أكثر من التّيه الطفولي بالبلقان الأسطوري.
سيّد الحفاظ على الكراهية
ماذا يفعل البلقانيّ في هذه الأثناء؟ لديه عمل مهم يُنجزه بما يتفق ووجهة نظره. فالبلقانيّ يحرص على ألا يصدأ نصْلُ الكراهية. أي على أن يحافظ على عدائيته.
وعلى الرغم من نداءات السلام والأموال التي تنفقها المؤسّسات الدولية، فإن ترميم الكراهية لا يزال طقساً بلقانياً بدئياً ومقدساً. إن خصيصة "الاندفاع المتهور"، المتأصلة فيهم، قد تبدو قاسية لأي شخص آخر، إلا عندما يتم استخدامها من قبَل سيد الكراهية.
ألن يكون من الأفضل وصف رجلٍ ما بأنه عاطفيّ بدلاً من مندفع وثنائيّ القطب عندما يحافظ على عدائه في الحرير والمخمل؟
هل تعرف شيئاً عن اضطراب ثنائية القطب؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فاستمع: غالباً ما يكون أولئك الذين يعانون منه عباقرة، مثل فنسنت فان غوخ، وإدفارت مونك، ولودفيغ فان بيتهوفن. هل تفهم؟ بالطبع، لا تريد الكشف عن دماثة الرجل الذي يحافظ على الكراهية. ماذا، هل نسيتها؟! الدماثة سمة أوروبية حصرية!
ماذا يمثل البلقان اليوم؟ بالنسبة إلى الأوروبي العادي، تصبح المسألة أكثر وضوحاً إذا طرحنا السؤال: إلى أي منطقة جغرافية ثقافية ينتمي هذا البلد أو البلد البلقاني الآخر؟ هل هناك ما هو أسهل من ذلك؟ هل أنت فرانكوفوني؟ أو لعلك ناطق بالإنكليزية؟ هل تتكلم التركية أيضا؟!
وبالنسبة للأوروبيين، فيما يتعلق بالسياسة، فإن السؤال يُطرح بطريقة مختلفة: هل أنتم مع الروس؟ مع الأوروبيين؟ مع العرب أو الأمريكيين؟
يشكّل البلقان بالنسبة إلى الأوروبيين، في أفضل حالاتهم، مشهداً ملتبساً في الركن الجنوبي الشرقي من القارة، حيث توجد على امتداد مياه البحر الأدرياتيكي والأيوني الدافئة شواطئ رملية أو صخرية يمكن أن تتناول في مطاعمها المأكولات البحرية الطازجة مقابل القليل من المال وتتمتع بالمشروبات المحلية الطيبة؛ حيث لم تحلّ العجرفة محل الترحاب الأصيل.
لكن رجل البلقان متسامح. يسمح لك بمديح النبيذ الجديد للمدينة الصغيرة أكثر من مديح القناة القديمة، والمسارح ذات الأعمدة الكورنثية، والطريق القديم المؤدي إلى القارة الأوروبية، أو المدرج، أو الكاتدرائية قديمة العهد.
يبدو أنك رهين الصورة النمطية يا صديقي. هل السبب في أن لاوَعْيَك يتهمك بأنك لستَ عادلاً تجاه مضيفك الكريم؟ وأنتَ لا تشعر أنك على ما يرام، وكأنك تغالي في التعامل مع سيّد الكراهية، بما هو حامل العداء في قارتنا المنقسمة؟
هدّئ من روعك! أنت تعرف الأمر جيداً. إن الحفاظ على الكراهية تجاه "الآخرين" (خاصة عندما يكون "الآخر" هو جارك) يستمر في أن يكون نشاطاً ممتعاً وشعبياً في التجربة المشتركة للأمم- سواء كانوا من البلقان أو الأوروبيين.
لا أظن أن هناك ضرورة لإضافة كلمة "بربرية" بعد جنوب شرق أوروبا- البلقان، إذ ليس من المعقول إضافة "متحضر" بعد كلمة "أوروبي"، في سياق أي تراث غربي.
وبالتأكيد، فإن الرجل البلقاني الجنوبي الشرقي الأوروبي هو نفسه المسؤول عن هذا المثال. لقد ظل مبتهجاً وخاملاً وبعيداً عن الإصلاح.
ترميم الكراهية لا يزال طقساً بلقانياً مقدّساً
وفيما يتعلق بالوجهة، فإن البلقان وجنوب شرق أوروبا ليسا على علاقة طيبة بها. فكلما أراد بلقانيٌّ السفر إلى باريس أو برلين أو فيينا أو بروكسل أو أمستردام أو البندقية، يضجرك لكثرة ما يقول إنه في طريقه إلى أوروبا!
وهو ثابت جداً في القارة- الوطن- الذي رسّخه بنفسه، لدرجة لا ينسى فقط أنه جزء منه (لا أريد أن أبالغ في الأمر بذكر أثَرةِ البلقانيين المغثية التي تدّعي أن أوروبا بدأت في البلقان)، بل اقتنعَ أيضاً بأنها تحت تصرفه، لدرجة أنه لا يقول اليوم عرفتُ التأليه، تاريخ أوروبا.
لذلك حتى لو أيقظته من نوم عميق، سيكون البلقاني الوثني قادراً على قراءة أسماء العواصم الأوروبية عن ظهر قلب. بالطبع، يعرف الأسماء التي تمثّل جميع ثقافاتها. تريد اختبار البلقان؟ جربها! فرنسا = هوغو! ألمانيا = غوته! النمسا = موتسارت! إيطاليا = دافنشي! إنكلترا = ديكنز! يمكن للبلقاني أيضاً تمييز علم لوكسمبورغ عن علم هولندا، والذي لا يستطيع حتى مواطنو الدولتين فعله. كيف تصف هذه الحالة؟ أهي مُداهنة؟ لا، بل تمجيد. لماذا كلّ هذه الحماسة لكي تعيش الحلم الأوروبي، حتى لو لم يكن مزدهراً كما يجب؟
يعرف البلقان اسم كل فرق بطولات كرة قدم في كل دولة أوروبية- وكذلك لاعب كرة القدم الشهير لكل بطولة. أين يكمن الفرق في هذه الحالة؟ يسميها الأوروبيون دونيّةً في حين يسميها البلقانيون الحبّ.
وفي الوقت نفسه، لا يهتم الفرنسيون أو الألمان أو البلجيكيون أو النمساويون أو الهولنديون أو الإيطاليون لمعرفة أيّ دولة بلقانية سوف يذهبون إليها. لذلك فإنّهم يأخذون الأمر ببساطة.
أيضاً، سيصيب الجنونُ البوصلةَ الأكثر دقة، إذا سمعتْهم يقولون- نحن متجهون إلى الشرق! فظيع! إنها نهاية عالمنا. إلا أن البلقاني يمكن أن يغفر لهم. وفي واقع الأمر، هم ليسوا متسامحين على الإطلاق، لأن الإرث البيزنطي يسري في دمائهم. يغفرون، إذ أعيتهم الحيلة. وهذا كل ما في الأمر.
بالطبع، لا مبرر للذعر. بغض النظر عن القيود، وعلى الرغم من الصعوبة التي يلاقونها لدى التلفّظ بكلمة محببة، فإن الأوروبيين يريدون أن ينضم العثمانيون البيزنطيون والشيوعيون إلى الاتحاد.
علينا أن نعيَ أمراً واحداً يتعلق بهذه المسألة الحساسة. إنّ ما لا يريد الأوروبيون مشاركته، تحت أي ظرف من الظروف، ليس كلمة أوروبا. بل في الواقع، العكس صحيح. إذ تُصوَّر أوروبا على أنها مقسمة. القِ نظرة إلى الخريطة! ابحث عن الفروق بين الأنماط المعمارية للكنائس الأوروبية. ألا تفهمني؟! ما اللغة التي تتحدث بها؟
ما لا يريد الأوروبي مشاركته مع البلقان ليس كلمة أوروبا. ما لا يمكن مشاركته هي كلمات "الغربية"، "الثقافة الغربية"، "العالم الغربي"، وعلى وجه الخصوص "الحضارة الغربية". ألن يكون ذلك فضفاضاً على البلقان؟ إن كلمة أوروبية نفسها و"الثقافة الغربية" هي بروتون، مثل الجزيئات غير القابلة للانقسام.
ليس الأمر أنه يكره الشعب البلقاني، لكن ليس بوسع الأوروبي النمطيّ أن يدرك متى وكيف حدث أن تحوّلتْ تسمية جغرافية سخيفة وساذجة مثل "البلقان" إلى واحدة من أكثر التصنيفات ازدراءً في تاريخ أوروبا الحديث.
في زمن الانشقاق الكبير؟ في عصر النهضة الأوروبية؟ في فترة كومونة باريس، أو خلال سنوات الثورة الصناعية البريطانية؟
فلنخترع البلقان، بالضبط كما يُخترَع سلاح
هنا، على مضض، رسمتُ خطَّ ترسيم الحدود بين الأوروبي الإنساني والبلقاني الدموي. نحن عالقون، وقرْص روليت المقامرة توقف عن الدوران.
مَن هو الأكثر غضباً حيال هذا التقسيم- الأوروبي المتشكك أو البلقاني الحالم ببيتٍ مشترك، على أن يكون لكلٍّ غرفته الخاصة؟ البلقانيون في الشرق والأوروبيون في الغرب. البلقانيون الشيوعيون. الأوروبيون الرأسماليون. البلقانيون في خليط معتقداتهم الدينية، الذين يصلّون يوم الجمعة في المسجد ويذهبون الأحدَ إلى القداس، ولأنهم بروتستانت، أو أرثوذكس، فهم مشوّشون بلغاتهم المختلفة وقناعاتهم السياسية. البلقانيون مختبئون وراء الستار الحديدي. الأوروبيون محاطون بالتيجان البلاستيكية التي تمثّل التنوع والمركزية الأوروبية وتوحيد الفضاء والحدود والعملة المشتركة، ولكن بغياب شعار الدولة.
وبطبيعة الحال، تصدعت أساسات البيت الأوروبي، حيث نعيش معاً القليلَ فقط، تحت ضغط جذور التنوع بين الشرق والغرب. منذ فترة طويلة، على الأقل منذ أن انقسمت الإمبراطورية الرومانية بين روما (الجناح العقلاني والمنفتح) والقسطنطينية (الجناح العقائدي والمتعصب) بدأت علامات الانقسام إلى شطرين في كيان هذا البيت.
نحن عالقون وقُرص روليت المقامرة توقف عن الدوران
لقد اهتمَّ مبتكر هذا الشكل الجديد بإضافة رأس ثانٍ للنسر البيزنطي، لكنه لم يستطع فهمَ أنه من أجل البقاء، يحتاج هذا الجسم أيضاً إلى قلب ثانٍ. وهذه الخلافات ستبقى معنا حتى آخر أوروبي يبقى على قيد الحياة، من أولئك الذين خبروا الانفصال والتنوع من كتب التاريخ في المدرسة.
لـ ماريا تودوروفا إجابة على ذلك. ولكن لو سألنا الأوروبي العادي ممن ترتبط به صورة الرجل الذي يصون الكراهية، كما يصون المجوهرات، فلن يتردد. ودون أن يفكّر مرتين، سيوجه سبابته إليَّ ويسأل شعبه:
- أأنتم عميان؟ العدو أمامكم. أمام أعينكم!
ليس لديك تحامل مسبق تجاه الأوروبي العادي، بغضّ النظر عن أن السبابة، التي وُجّهت إلى الرجل البلقاني، قد فقدت القدرة على الارتفاع إلى الأعلى مثل إصبع أفلاطون في لوحة مدرسة أثينا لـ رافائيل.
الإصبع التي يُكثِر من استعمالها في هذه الأيام هي السبابة. الإصبع الثانية Digitus secundus، التي نضغط بها برفق على أزرار جهاز التحكم الخاص بالتلفزيون (من حيث تصلنا أخبار البلقانيين البرابرة)، والتي تضغط أيضاً على أزرار الهاتف الذكي (لمشاركة الأخبار في أسرع وقت ممكن)، كما تضغط على جهاز التحكم عن بعد المخصص لتفجير الـ TNT.
نعم. إنه على حق. لقد بلغتَ مجد الماضي مرةً أخرى، يا لها من جرأة أوروبية مكلفة! نعم! فسيّد الحفاظ على العداوة محميّ هناك. في البلقان. فلطالما جهرَ بعداوته حين استدعى الأمر. في أي حرب في البلقان، ولكن بشكل خاص في سراييفو، إذا كنت أتذكر جيداً أشعار عزت سارايليتش، كان جميع اليوغوسلافيين السابقين يصطفون أمام الجيش اليوغوسلافي ليُطلَق الرصاص عليهم.
وهكذا لم يعد ثمة شك في أن هناك رجلاً بلقانياً يتمتع بالحق الحصري بخدمات الجنائز. بل النقيضين: الزفاف والجنائز. وبالطبع، هم محترفون. كيف تفضل القتل؟ سيدي، ألقِ نظرة على كتالوغ الحروب بين الأعراق! لا، مهلاً، لا تذهب بسرعة! بالطبع لدينا أيضا كتالوغ للمذابح الدينية! ها هي ذي، فاخترْ! ضع إصبعك على الخريطة! هل تريد مذبحة للضحايا ثم تقطيعهم بطريقة تشريحية، أم...؟ فهمتُ ما تقصده. تريدهم مكدسين في معلّبات، على طريقة تعليب الأسماك. أو...؟
على الرغم من أن خبراتي لم تخذلني أبداً في إيجاد ردّ على أي سؤال، إلا أنني سأشعر بالارتباك إذا سألوني عن كيفية تطبيق الشعار الأوروبي "في تشكيلة منسجمة" ضمن البلقان؟ ماذا يسعني أن أقول؟ هل يمكن أن يصدقوني إذا قلت وأنا أتلعثم إن الشعار الأوروبي في البلقان قد تحقّقَ بكل نقاطه واحدةً إثر أخرى وبموجب جميع الاتفاقيات؟
نعم. بالطبع! في المقابر الجماعية في راتشاك، فوكوفار، سريبنيتسا، ودرينتسا، على وجه الخصوص، حيث يسقط البلقان القتلى متّحدين بعضهم لصْقَ الآخر، دون تساؤل عما إذا كانوا مسلمين أو مسيحيين. لقد تحقّق الشعار. نحن من هذا التنوع."في تشكيلة منسجمة".
البلقانيون ليسوا (نيّقين finicky) بما يتعلق بأفضلياتٍ مطبخية أو ثقافية أو عرقية أو جندرية أو دينية خاصة، ولا حتى خلال مكوثهم في مخيمات اللاجئين. كما أنهم يصادقون أولئك الذين لا يحبونهم.
متّحدون في التنوع. إنها الآن (كليشيه) عن شجار البلقان على دفع ثمن القهوة التي استمتعتم بها معاً منذ قليل.
البلقان المسكين- جنوب شرق أوروبا! لوهلةٍ، لو تأملْنا خريطة القارة الأوروبية كجسم بشري، فسيكون البلقان- جنوب شرق أوروبا، عضواً زائداً فيها. ألهذا السبب يشعر أنه غير ضروري وفائض عن الحاجة وشيء مهدور ولم يزل بربرياً!؟ على الرغم من أن البلقانيَّ يدرك أن الله قد تعجّلَ في حساباته، فلم يستوعب بعدُ أن الجميع في هذا العالم يسلكون مسلَكَ الأوروبي: الجميع يدفع فاتورته الخاصة.
غيرَ أن البلقانيين الذين لا سبيل إلى تقويمهم، يبالغون في تنوعهم عندما يدعون الشخص المجهول ليشاركهم المشروب أو ببساطة لأداء أغنياتٍ حزينة ومجنونة معهم على كأس من العرَق.
وبدلاً من إرسال أطعمة ملفوفة بأغلفة بلاستيكية إلى المهاجرين عابريّ البلقان الذاهبين إلى ألمانيا في المخيمات التي تؤويهم، بدلاً من ارتداء قفازات بلاستيكية لإلقاء الطعام إليهم، يأخذ البربريّ البلقانيّ الأشخاصَ المجهولين إلى المنزل. وهذا ما لا يمكن تحمّل مشقّته. أين ذهبت الإجراءات الوقائية؟ ماذا عن الاحتراز؟ على مَن يقع الخطأ إذا كان البلقاني عاجزاً عن أن يصبح أوروبياً نموذجياً؟!
هل أنت ساذج لدرجة الاعتقاد بأن الرفاهية والإهمال هما السببان اللذان يدفعان الأوروبيين الساخرين إلى القول إن الكراهية اختصاص بلقاني حصري وإن البلقان يحتكر البربرية؟
حتى لو لم يكن البلقان موجوداً، فالأوروبيون سيخترعونه
لا أريد أن أصدق أن الأوروبيين يجدون البلقان جذابة، لمجرد أنهم اكتشفوا هناك سياحة الحنين. ماذا تراهم يتذكرون؟ أيّ يوم كالح من التاريخ؟
ولكن بالطبع، يجب أن أتفق مع رأي هيرمان فون كيزرلينج عندما يقول إنه حتى لو لم يكن البلقان موجوداً، فإن الأوروبيين سيخترعونه. بنفس سهولة اختراع سلاح حقيقي أو بلاستيكي.
وإلى جانب استخفافهم بالبلقان، فإنهم ينبذونهم ويتلاعبون بهم، ناهيك عن حقيقة أنهم يعيقون تقدمهم، ويستثيرونهم، ويهزأون منهم كما يفعلون في حالة الآنسة الصغيرة التي اكتشفت الشمبانيا في وقت متأخر فأتتْ على كلّ المحار من قشرته، لأن تخليص البلقان من ربقة الأوروبيين يشبه اختطاف لعبة محبوبة من طفل وهو نائم.
لذلك يا رجل البلقان حاولْ أن تحظى بالقوة وتضحك بصوت عالٍ.
لا تكذِّب أبداً الأوروبي العادي عند قراءة عناوين مماثلة لـ MasterChef عن الصراعات في البلقان! اضحك، كما ضحكت أثناء قراءة الفصل 38 من رابِليه، حيث يلقم غارغانتوا السلطة ستة وافدين أو عندما تلتهم بعينيك الفصل السادس من Don Quixote، حيث تقترح ابنة أخت (الوجه الحزين) حرق كتب الشعر، إذ يمكن للفارس أن يصبح شاعراً- وهي الموهبة التي يمكن أن تكون أكثر خطورة من كونه الفارس الطريد.
اضحك حقاً، ولكن لا تبالغ بالادعاء أنك متعلّم جيد. الكلّ يعلم الأمر. أنت مقلد رديء من كافة الجوانب المشرقة والمظلمة في التاريخ الأوروبي، ومن بين كل الحروب التي حدثت باسم السلام. أنت متخلف بعض الشيء. كما تعاني من بعض المشكلات في ذاكرتك.
أن تكون مشغولاً للغاية بالإتجار بالبشر، وعمليات القتل، وبث الكراهية بين الإثنيات، فأنت لست في نهاية المطاف لست خاملاً وأجوفَ لتحصّل المعرفة من الكتب، بقدر ما يمكنك الحصول عليها من تجارب الحياة. حتى إنك لم تتعلم الفيزياء، أو المبادئ الدينية في المدرسة، أليس كذلك؟
كيف تعرف، يا رجل البلقان المسكين، أن مقاومة العنف بالقوة نفسها التي مارسها العدو عليك، ليست سوى ادّعاء قانون نيوتن الثالث!؟ ماذا؟ هل تريد أن تقول إن العهد القديم كان الشيء الذي كدّر روحك عندما علّمك بأن تُحِلَّ العدل مهما يكن الثمن؟ ليس الأمر كذلك! لا يمكن لهذا أن يكون عذراً. الحرب هي قضيتك القوية، إنها في دمك...
البلقاني ينافِس على أفضل فيلم جريمة لـ... ويقرأ كُتُبَ التاريخ
كيف يمكن أن يجد الشجاعة اليوم، هذا الرجل البلقاني البطل الذي ترك وراءه منزله للهجرة إلى أوروبا؟ أن يصبح جاحداً؟ لكي يفتح سراً في الليل، والكلُّ نائم، كتبَ التاريخ التي يدرسها ابنُه أو ابنته في مدارس أوروبا الابتدائية؟
سيكون تصرفاً جاحداً، لا يليق حتى بمبارزة أوروبية.
فماذا يفعل البلقاني في هذه الحالة؟ أن يقلّب صفحات الكتاب كالمحتال كي يعرف إذا خُصصتْ ساعة واحدة أو فصل دراسي كامل للدرس الذي يدور حول "حرب المائة عام" (حيث اختنقت خمسة أجيال أوروبية وهي تخمد الحلم الإنجليزي بالحكم المشترك، والتخلص بازدراء وعصبية من كل ما هو فرنسي في إنكلترا، بما في ذلك اللغة الفرنسية)؟
أمام هذه الحقائق، فإن رجل البلقان، وقد عانى بشدة من حروب الإثنيات التي استهلّ بها بداية القرنين العشرين والحادي والعشرين، قد وقعَ في حزن عميق (لكنه لم يكن مكتئباً). إنه يفهم الحظ العاثر الذي استهدف فقط شخصَه وعمله الذي لا سبيل إلى إصلاحه. ليس هناك من أمل يُرتجى، فهو ليس وأبداً لن يكون الأوروبيَ اللائق والمقبول والجريء.
يجب عليه أيضاً أن ينسى جوائز فيليكس الأوروبية، التي لن يمنح مديروها أبداً مثل هذا العتاد المتفوق لصانعي الأفلام، كما حين إعداد مشهد يشبه ما كان الحال عليه عام 1918، عندما ابتكر الجنود الأوروبيون الناجون تمثالاً لحصان في حقل مهجور تخليداً لذكرى ثمانية ملايين من الجياد التي نفقتْ خلال الحرب العالمية الأولى.
فاز البلقان بالسعفة الذهبية لمهرجان كانْ السينمائي للدراما الكوميدية التي استحقها بجدارة، عن دراما الخفايا أو الجريمة الخيالية بفيلم ’زمن الغجر‘، لكن البلقان يفتقرون إلى المهارة لدرجة أنهم لن يتمكنوا من إنجاز أي سياق مشابه للصبي الصغير روجر جودفرين، الناجي الوحيد من مذبحة 10 حزيران/ يونيو 1944، عندما أحرق النازيون 643 مواطناً وهم أحياء داخل كنيسة Oradour – sur – Glane في فرنسا.
وضع الله نهراً بين البلقان والأوروبيين، نهر الدانوب
لا يستطيع البلقاني تدبّر الأمر، حتى لو أتيحت له الفرصة لتصوير فيلم عن المهاجرين الغارقين في البحر الأبيض المتوسط أو القيام بالتغطية الواقعية، عندما يتبرع رؤساء وزراء الدول الأوروبية لنظرائهم في البلقان بالأسلاك الشائكة لإغلاق الحدود مع جيرانهم في البلقان.
لا يستطيع البلقانيون المشاركة ضمن فئة أفضل فيلم جريمة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. لا يستطيع البلقانيون امتلاك الجرأة لا يستطيع البلقانيون التحلي بالصبر. لا يستطيعون القتال لمدة 100 عام. البلقانيون يغسلون أيديهم بسرعة. تُستهلَك مقدرات البلقانيين بسرعة. كلّ ما كان عليهم ابتكاره، فعلوه في العصور الأقدم وهذا كل شيء.
وماذا بعد ذلك؟ هل علينا أن نكون ممتنين لهم أبداً لمجرد بعض المفردات القديمة، ولنموذج المسرح والديمقراطية؟ فمنذ ذلك الحين، بالكاد يمكن للمرء التفكير في أنه سيُخرج من رؤوسهم أبداً أيّ شكل آخر سوى القرون والعضو الذكريّ والأسلحة.
وبازدواجية الرجل البلقاني، لا يمكنه المشاركة إذا تضمن الفيلم مشاهد تتعلق بمذبحة البروتستانت الكالفينيين الفرنسيين عشية عيد القديس بارثولوميو عام 1572.
بالطبع، يتذكر البلقان أن هذا كان الأكثر فظاعة بين المذابح الدينية في القرن السادس عشر. لقد ولّدَ الافتقار إلى العقل والتراحم بين أفراد الأخوية المسيحية وعمليات القتل التي لا تنتهي انطباعاً بأن الإسلام، الذي كان قادماً إلى أوروبا، لم يكن هو دينَ الدم والغدر بل الكاثوليكية.
سيكون البلقان العنيف والبربري الخلَفَ الطبيعي للأوروبيين المثقفين، لدرجة أن مشاهد المذابح والجرائم البلقانية في نهاية القرن العشرين بدتْ شبيهة بالأعمال الوحشية التي خلفها التاريخ الأوروبي دون أن تصل درجةَ قسوة هؤلاء الأوروبيين، كما تصف ماريا تودوروفا في مقدمة كتابها ’تصوُّر البلقان‘.
هل لديكم إجابة ما عن سبب تكرار البلقان الأخطاء القديمة في الآونة الأخيرة أيضاً؟ هل سيُعتبَر البلقان دائماً "مخزناً للخصائص السلبية" في الفضاء الأوروبي؟ هل يجب على البلقان فعلاً أن يُجروا عملية "طرد أرواح ثقافية" و "تجميل ذات" ثم "حبِّ ذاتهم؟"
البلقانيون ليسوا أوروبا. لا يمكن أن يكونوا طالما أنهم يدخلون دائرة الكلمة المستنيرة ليس من خلال صفوة أناسهم والأشخاص الأكثر موهبة، كما يقول إيفو أندريتش، بل من خلال المافيا والمجرمين الصغار من ذوي الخيال الخصب.
لا يمكن أن يكون البلقانيون أوروبيين. فهم لا يعرفون كيف يبدؤون الحرب لأسباب بالغة الأهمية، مثل الاقتصاد، أو تغيير النظام الاجتماعي، أو بناء مستقبل أفضل.
قد يتشاجرون لأتفه الأسباب. وقد يقتتلون لأتفه الأسباب. يمكن أن تبدأ حرب بين شعب البلقان، على سبيل المثال، لأن اليونان تسبق ألبانيا والجبل الأسود ومقدونيا وصربيا بساعة واحدة في المنطقة الزمنية. ما مدى أهمية أن تكون متقدماً بساعة واحدة في المنطقة الزمنية؟ فقط البلقان قد يعرفون. [- يبدو أن اليونانيين رأوا الشمس قبل الألبان (؟!). - اليونانيون أكثر ذكاءً وإشراقاً وتقدُّماً منّا، نحن سكان صربيا ومقدونيا والبوسنة والجبل الأسود وكرواتيا وسلوفينيا (؟!)].
ولو حاول شخص ما تحدي منطق البلقان، قائلاً إن الرومانيين والبلغاريين يسبقوننا بساعة واحدة، فسيُفاجأ بإجابتهم الفورية:
- فليكن، ولكن لا نريد ذلك لليونانيين. فهذا يمكن أن يكون سبباً كافياً لأن يمسك البطلُ الملحمي بمسدس ويضع إصبعه الثانية (السبابة) digitus secundus على الزناد.
ولكن الآن ثمة الأوروبي أيضاً (الذي كان في البلقان، حيث حدثت المذابح بين الإثنيات) والبلقاني، (الذي كان عليه أن ينجو من الديكتاتورية الشيوعية فيخون ويقتل أقرب جار له، أقرباء الدم والأقارب البعيدين)، كلاهما يفهم معنى "خطأ ميتافيزيقي" عندما كتب كارل جاسبرز أنه إذا كانت حياة الآخر في خطر، وأنا هناك، إذا نجوت بينما قتل الآخر، يمكنني سماع صوتي الداخلي وهو يصرخ:
- أنا مذنب، لأنني ما زلت على قيد الحياة!
وأنا راضٍ وسعيد بما لديّ من خير، ولا أشعر بالقلق على الإطلاق من أن الفاشيين يحتفلون بيوم النصر ضد الفاشية، كما كتبَ ميودراغ ميشا ستانيسافليتش!
الحكاية الخرافية البلقانية للشباب الأوروبيين
على الرغم من معرفتنا بأن الطقس والمناخ في منطقة البلقان ليسا أوروبيين، دعونا نحلم وكأن ذلك سيحدث في زمن ما كما في الحكاية الخرافية، حيث وضع الله نهراً بين البلقان والأوروبيين، نهر الدانوب على سبيل المثال، الذي يفصل بينهم ويوحدهم.
ألم تسمع بها من قبل؟ تأتي هذه الحكاية من الأزمنة البدوية لموجات السكان المهاجرين، عندما لم يكن هناك سوى أرض ولكن دون خريطة. تقول الحكاية إن الله جعل من النهر خطاً حدودياً بين الشعب المتطور وبين الشعب البربري، على الرغم من أن الكلَّ جاؤوا من المشيمة ذاتها وكان يُطلق عليهم جميعاً تسمية الأوروبيين- الهنود- الأوائل.
وذات يوم اشتكى البرابرة من الله. قالوا له: "لم تفعل ما هو خيّرٌ لنا". نسيتنا على ضفة النهر، بل إنك لم تكتفِ بذلك، فسمحتَ للشمس أن تُحيل بشرتنا سمراء. ألا ترى أن لبشرتنا لوناً مختلفاً عن أولئك الذين عبروا النهر وأصبحوا أوروبيين". قرر الرب مساعدة شعبه البربري. قال لهم الله: "فليأخذ كلٌّ مكانَه في الرتل". اعبروا هذا النهر دون التحدث أكثر مما يجب. وعلى كلٍّ منكم أن يعبره وحيداً. ولا يساعدنّ بعضُكم الآخرَ ما دمتُ أنا المعينَ لكم. وعند بلوغكم ضفة النهر الأخرى، ستصبحون أوروبيين". سأله البرابرة بنفاد صبر: "هل سنبقى من ذوي البشرة الداكنة أم سنصبح بيضاً مثلهم؟".
كيف يمكن عبور "النهرِ الذي يلفّه الغموض"؟ كان والدُ الجدِّ أول من عبر النهر ورأى مع البرابرة أن الله قد صدق وعده. خوّضَ والد الجد في النهر ببشرة داكنة، ومع وصوله إلى الجانب الآخر، أصبحَ أبيض. قد فعلت هذه المعجزة فعْلَها في الحالة الثانية، وكذلك الحالات التالية التي دخل فيها الجد والجدة والأب والأم والأخت الكبرى. أولئك الذين عبروا النهر من ذوي البشرة الداكنة، وصلوا إلى ضفة النهر المقابلة وهم بِيْض.
بدأت الاحتفالات. كانوا محقين: لم تكن بشرتهم بيضاء فحسب، بل تغيرت حياتهم. كانوا منشغلين للغاية بالاحتفال والغناء والرقص، لدرجة أنهم لم ينتبهوا إلى البربري الأصغر بينهم، وهو صبي صغير لم يعبر النهر بعد. تُرك في منتصف التيار، يصارع من أجل العبور، لكنه غير قادر على الوصول إلى الجانب الآخر. ذهبت الأم إلى والد الصبي وتوسلت إليه: "مُدَّ يدَك وأغثْ ابننا! إنه يكافح ويغرق في تيار النهر". أشاح الأب بعينيه عن الماء وأجابها دون أن يقطَع رقصته الاحتفالية: "تبّاً. إنه لا يعنيني! هو مجرد غجري. هل هو أوروبي؟!".
وحتى تكتمل هذه المعجزة، نُصح البلقان بعدم العمل بجد، وعدم فتح أعينهم وعدم غسلها، حتى لا ينهي حلم لوكس أوروبا، الذي يغري ضوؤه الناس ويبهرهم مع اقتراب موعد الانتخابات والأزمة السياسية.
ولكي يُتركَ انطباع بأن البلقانيين ذوي البشرة السمراء الذي ابيضّوا لتوّهم هم متشككون حيال مغادرة أوروبا، فإن المبدأ الإنساني يمكن أن يحلّ محلَّ المبدأ الجغرافي المبسط. لكن يبقى السؤال ذاته: ما هو وماذا يمثل الأوروبي؟
وبحساسية البوصلة بالغة الدقة، قسّم هذا المبدأ أوروبا بالفعل إلى شطر شرقي وغربي وشمالي وجنوبي.
مع أوفيد وجدت ثقافة أوروبا الشرقية جسرها إلى الغرب
هناك أوروبا واحدة فحسب. الأمر يشبه مقدرتنا على تمييز الأعضاء المختلفة من الجسم نفسه في درس التشريح. إذ يمكننا أن نرى، لأغراض الدراسة، أوروبا الغربية والشرقية والوسطى والجنوبية والغربية، كما يمكننا تقسيم أوروبا إلى أوروبا كاثوليكية وبروتستانتية وأرثوذكسية ومسلمة، متعددة الثقافات ومتنوعة الأديان، ولكن في الواقع هناك أوروبا واحدة فحسب.
إن أوروبا الحاضر هي استمرار المجهود العظيم، والثورات الاجتماعية والصناعية الأوروبية، ولأوروبا عصر النهضة، والقوانين، التي جذبت الاهتمام بالمواطن الأوروبي وبالمدن وتوسيعها ليس من حيث المساحة الجغرافية، بل من حيث الحقوق أيضاً.
ولكن كي تؤخر أوروبا اندماج أولئك الذين يشاركونهم الأرض منذ قرون، فإنها ترحب اليوم بعزم أكبر بهجرة أولئك الفارين من الحرب، مقتحمين أخطار الحدود وMare Nostrum (الذي سمي مؤخّراً بـ Mare Mortum).
من ناحية أخرى، تستعدّ أوروبا لإنفاق الملايين من اليوروهات، على القوانين والأسلاك الشائكة، كي تمنع الدخول غير القانوني لأوروبيين إضافيين يوسَمون بأنهم متطرفون إسلاميون ولاجئون في أراضي أوروبا المطهَّرة، لكن غير المقدَّسة على الإطلاق.
لا يمكن أن يكون هناك شكل واحد فقط للهوية الأوروبية المشتركة، من حيث أنه لا يمكن أن يكون هناك سوى شكل من أشكال الهوية الأوروبية المشتركة، والتي انبثقت من الخلافات والصراعات والتسويات.
تستند الصيغة متعددة الأوجه لجسم هذه (الأوروبّات) على إرث فنون وعلوم وسياسات ومعتقدات وفلسفات البحر الأبيض المتوسط القديمة، التي تم تبادلها، بالتواصل المباشر أو عن بُعد، مع بقية العالم في ذلك الزمن، للبحث وإرساء الأفضل.
وقد اعتمدت التنميةُ عواملَ الحكمةَ والذكاء والاستياء والذهول والوعي ذاتها التي يستخدمها مزارع الشجرة، على الرغم من إدراكه أنه بصرف النظر عن كل الجهود والفشل، فإن التطعيم يجلب الثراء والقوة، والنباتات المستولَدة الجديدة متعددة الأنواع.
يمكن تمثيل هذا الكم الهائل من (الأوروبّات) في أوروبا واحدة (ذات سرعات منخفضة وعالية، كما يطلقون عليها مؤخراً) بشكل رمزي على شكل عباد الشمس الذي يحتوي في داخله على مئات البذور الهجينة، والتي إذا زرعت، سوف تُزهر عباد الشمس مرة أخرى.
غير أن أوروبا الراهنة هي أيضاً تلك التي تعتقد سراً أن البلقانَ كتلةٌ غير طبيعية من الأنسجة في جسم أوروبا، وأن البلقان هي المنطقة التي حظيتْ بالفرص لأن تكون أوروبية، لكنها أساءت استخدامها.
ثمة جُوْرٌ في قول أوروبا إن البلقان جنود داخل حصان طروادة، يراقبون أوروبا بعين والشرقَ بالأخرى.
سيبقى الأوروبيون متشككين ليس حيال أنفسهم فحسب، بل حيال البلقان. ويتدارسون أيضاً على عجل الخطة المغرية التي تسمي دول البلقان جنوب شرق أوروبا. لكن البلقان هو البلقان ببساطة! ولدى هؤلاء الأوروبيين قناعة بأن البلقانيين يتطلعون إلى الاندماج مع روسيا، كما فعلوا مع الإمبراطورية العثمانية، وفي زمن سابق مع الإمبراطورية البيزنطية.
العرّاف بُول- الأخطبوط يتنبّأ بتوسيع الاتحاد الأوروبي
أعلم أن بعض الدول المرشحة لمنطقة البلقان التي كانت تطرق أبواب أوروبا منذ سنوات قد سئمت الانتظار. كما سئمتْ وجهات النظر المغلقة أو القرارات البيروقراطية الصادرة عن المسؤولين الأوروبيين، الذين يرون البلقان من شاشات التلفزيون والذين، بدلاً من الاعتراف باهتمام المواطنين بالعيش في البلقان، يعترفون بإرهاق أولئك الذين يحكمون البلقان. وفي بعض الأحيان تكون قرارات هؤلاء المسؤولين مشابهة لذكاء الأخطبوط الحبيس في أكواريوم بروكسل، والذي يتنبأ من تحت الماء بما إذا كان توسّع أوروبا عن طريق إضافة أعضاء جديدين سيحدث أم لا، كما توقع الأخطبوط الألماني، العراف بول، نتائج مباريات كرة القدم الأوروبية في سنة 2008.
أعلم أن بعضاً من "الآخرين" يرون أن مستقبل بلادهم ليس بعيداً عن النوع النموذجي لـ "الصين الغربية"، كما ذكر منذ 90 عاماً الشاعر أناتول ستيرن دون شعور بالألم. لكن البحث عن المتعة في العدمية، وخفض قيمة العملة، والضحك، والتحدث بسخرية عن أوروبا العجوز المنهَكة، لا يأتي بشيء جديد. إن موقفاً مثل هذا لَيشبه الانتقام الهزيل للدول التي يحطّ المسافرُ رحاله فيها، والتي ترفع أصواتها إلى الغيوم، قائلة إن أوروبا لا تزال على قيد الحياة بفضل انتقال الدم الجديد الذي يرِدُ مجاناً من "الأوروبيين المحيطيين" وإن الهوية الأوروبية السكونية تستفيد من الثقافات الأوروبية المهمشة.
هل تجازف المراكب التي نبحر على متونها بالغرق خوفاً من التوسّع مع انضمام الدول الأعضاء الجديدة، أو بسبب الخروج من الاتحاد أو بسبب نفاد الصبر؟ بسبب الحاجة إلى التفاعل- نعم.
أسهمت الحضارة الغربية أو أوروبا كمجتمع في عدم تحديد حدودها بشكل واضح المعالم. متى بدأ هذا؟ إن الانتقال التدريجي لحدود أوروبا الغربية باتجاه الشرق، للأسف، يعيد إلى أذهاننا قضية الاقتصاص من أحد الشعراء.
بدأ هذا التوسع منذ أكثر من ألفي عام. وقد يكون تاريخ البدء يومَ قرر الإمبراطور الروماني نفيَ أوفيد بلا محاكمة إلى حواف الحدود الشرقية لأوروبا، وأوفيد هو أحد أهم رموز الثقافة الغربية. لم يستطع الإمبراطور الروماني أن يتصور أنه بالإضافة إلى عقاب الشاعر، كانت حدود الغرب تتحرك باتجاه الشرق قبل أن يرسي ديوكلتيانوس الأساس للإمبراطورية البيزنطية في الشرق بوقت طويل، والتي استحدثتْ فيما بعد مركزاً أوروبياً آخر- القسطنطينية، والمعروفة بـ روما الثانية.
بقي الإمبراطور في روما، لكن أوفيد اصطحب معه روما. وروما ستكون حيث يكون أوفيد. ومن خلال "رسائل من البحر الأسود " Epistulae ex Ponto، أنشأ روما الثانية، في مكان ما بالقرب من كونستانس اليوم في رومانيا.
كان الغرب يقترب من الشرق الأوروبي، في حين أن شخصية مثل أوفيد- أحد الشعراء الثلاثة للأدب اللاتيني، بتأثيره الهائل لاحقاً في الفن والأدب الغربي- على الرغم من أنه في حالته المزرية، لم يعد مقيماً في روما بل على ساحل البحر الأسود.
تعطي قضية أوفيد لمحة عن سبب استمرار سباق الأوروبيين الشرقيين إلى أوروبا الغربية اليوم.
كان من شكاوى أوفيد أنه في توميس لم يستطع العثور على مكتبات جيدة، ولم يستطع إكمال Fasti، تحفته الفنية، وهي أيضاً لنا، عندما نهاجر إلى روما متجهين نحو الغرب.
ولكن مع أوفيد، وجدت ثقافة أوروبا الشرقية جسرها إلى الغرب. لم يعد الشرق الأوروبي قادراً على البقاء على هذا النحو.
لم يعد من الممكن تسمية هذه الأركان بأطراف الإمبراطورية، طالما أن هناك عنصراً مهماً في الثقافة الغربية، على الرغم من نزوحه التعسفي.
ثمة حظ لعين بوجود الجسر. لقد أُنشئ لغرض التواصل والاندماج، وتأمين منافذ اتصال مع العوالم التي يعيش بعضها بعيداً عن الآخر. ومن جهة أخرى، كي يتيح لها القيام بوظائفها، فعلينا جميعاً، نحن الذين نستخدمها، أن نسحقها بأقدامنا، ونلطّخها، ونصرخ فيها، ونبصق عليها وندينها. ليس هناك استثناء لهذه القاعدة يشكّل الدافعَ لأن يرى هؤلاء في الآخر (البلقانيّ) بربريَّاً مرةً، وأولئك في (الأوروبيّ) شاذَّاً مرة أخرى.
كلٌّ على حدة، أو معاً، في انطلاقهما من وجهات مختلفة، على الأقل في الوقت الحالي، لا يبدو أن أحد الطرفين يعمل على تأسيس مجتمع موحَّد، بل ينفق طاقاته في محاولة شيطنة أو تبسيط الآخر. أهو الهدف ذاته؟ خداع النفس؟ ليترك أحدهما للآخر احتكار البربرية؟
لكن ليس هناك من ممارسة حضارية، وفي الوقت نفسه ليس هناك من ممارسة بربريّة، كما كتب فالتر بنيامين في مقاله "عن مفهوم التاريخ"، وليست المرة الأولى التي تكون فيها التطورات التقدمية ضد البشرية.
من هذا النموذج وُلد إنسان أكثر تحكماً ورقابة وانضباطاً
ألم نشهد وضعاً مشابهاً في أوروبا بعد أن ابتلعت آلات الثورة الصناعية أحلام كانط وفولتير في التنوير، وحين ابتلعت آلات الثورة الصناعية الإنسان الذي يريد أن يتحرر من الاتكال على الطبيعة؟
من هذا النموذج- وُلد إنسان أكثر تحكماً وأكثر رقابة وأكثر انضباطاً- وهو الإنسانُ- الآلةُ: الكائن الأكثر كفاءة في الحفاظ على الأسرار التي تضمن استنساخ التعصب والبربرية.
يحدث الأمر الأكثر إثارة للخوف عندما يوقّع الضدّ والنقيض ميثاق عدم اعتداء بينهما، كما حدث في 23 آب/ أغسطس 1939، عندما عقد الاتحاد السوفييتي البلشفي اتفاقاً مع ألمانيا النازية من خلال ميثاق مولوتوف- ريبنتروب.
أين يمكن أن يجد الإنسان ملجأ عندما تصنع البربريةُ السلامَ؟ هل يكفي أنجيلوس نوفوس اليائس والكئيب ألا يعيدَ التاريخ نفسه، عندما تساءلَ دون أن يجد الجواب في الاستبداد والشعبوية والتمييز والأساليب البربرية الأنيقة التي يستخدمها القادة الكاريزميون، الذين يوجهون ويرسمون شكل حياتنا اليومية والمستقبلية؟
في كتابه الجماهير والسلطة استخدم إلياس كانيتي تشبيه الأوركسترا مُبيِّناً أن لا تعبير عن القوة أكثر وضوحاً من أداء قائد الأوركسترا. من هذه الزاوية: ما الذهنية التي تلائم الرأي الأوروبي في هذه الأيام؟
أستطيع أن أرى أن أوروبا اليوم، لم تعد تنظر إلى الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب. إنها تنظر في ما إذا كان توجّهها سينبع من الأيديولوجية المتطرفة لليسار، أو من الجناح اليميني الشعبوي، أو مزيج غريب - ولكن غير قابل للاستقراء - من كلا الأيديولوجيتين في الآن نفسه.
هل تتمثل آفاق أوروبا الجديدة في اليسار واليمين؟ من هذا المنظور، ولا سيما عندما يحدث تنازُعٌ على المستقبل الأوروبي، يصبح السؤال لزاماً ما إذا كانت أوروبا مجرّد شكٍّ له ما يبرره أم غاية يجب السعي وراءها؟ هل ما زالت أوروبا اليوم حلماً في أعين أولئك الذين لم يصبحوا بعدُ مواطنين أوروبيين والذين يرون أوروبا في تفكيرهم الحالم على أنها رؤيا أو سراب؟ وهل هي حاشية فضاء مفرغ أو "ثقب أسود" مع تأثيرات جاذبةٍ قوية لا يمكن لأي شيء الهروب منها: لا يهم ما إذا كان الشيء دولةً "كبيرة" أو "صغيرة"، اقتصاداً "قوياً" أو "ضعيفاً"، " ثقافة "قاصرة" أو "رائدة" تقع في مركز أو في شرق أو في غرب أو في جنوب أو في شمال المجرة الأوروبية؟
أؤمن بقوة بأنه ليس الماضي، بل المستقبل هو ما يربطنا ويبقينا معاً بشكل استثنائيّ. لا يمكن أن تتّحد أحجارُ المسبحة الثمينة لو لم يكن هناك خيط قوي بسيط يبقيها كـ "مجموعة". قد يشبه الأمرُ الجاذبيةَ وفيها المكان والزمان، وثمة الستائر حيث أوروبا بأكملها تجوبُ ماضينا، كما ورَدَ في إحدى القصائد.
* Arian Leka شاعر وروائي ألباني من مواليد 1966. ينتمي إلى جماعة من الكتّاب والشعراء الذين ظهروا في المشهد الأدبي بعد فتح الحدود الألبانية عام 1990، حيث شهدت الثقافة تغيّراً دراماتيكاً. بدأ ليكا عازفاً على آلة الفلوت بينما كان يكمل دراساته في الأدب الأوروبي، وكان أول كتبه مجموعة قصصية بعنوان "في هذا البلد الهادئ حيث لا شيء يحدث" (1994). انتقل ليكا بعدها إلى كتابة الشعر، فنشر مجموعته الشعرية "قارب النعاس" (2000)، والتي أتبعها بمجموعة كتب، من بينها: رواية "ثعبان المنزل" (2002)، ومجموعة شعرية بعنوان "تصحيحات" التي صدرت عام 2010. يميل ليكا إلى نسج كينونة أسطورية حول بلاده، لكن بلغة جديدة تبدو كما لو أنها واقع يعاش يومياً. وهو يعتبر اليوم من أبرز كتّاب بلده.
** ترجمة: أحمد م. أحمد