ينصّ الفصل السابع والثلاثين من الدستور التونسي على أنّ "حريّة الاجتماع والتظاهر السلميَّين مضمونة"، غير أنّ ما يجري في البلاد يبدو بعيداً عن روحيّة الدستور وأحكامه. شباب تونس يواجَهون بالقمع خلال تحرّكاتهم المحتجّة على أزمات اجتماعية.
خلال السنوات الأخيرة، راحت الحكومات المتعاقبة في تونس تعدّ الحراك الاجتماعي أزمة لا بدّ من التصدّي لها، حتى لو تطلّب الأمر عنفاً في بعض الأحيان. من جهتها، لم تحِد حكومة يوسف الشاهد في تعاملها مع الاحتجاجات، عن مسار سابقاتها، بل وصل الأمر إلى حدّ توقيف شباب شاركوا في بعض التحركات في جهات البلاد.
وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تلقّى عدد من الشباب، من بينهم عبد الله اللطيفي - من اعتصام شباب القصرين أمام وزارة التشغيل - إشعاراً بحكم غيابي يقضي بالسجن لمدّة ثمانية أشهر. بالتزامن، استُدعي كلّ من فؤاد ساهلي ومناعم طرشي ومحمد علي علاقي - من اعتصام الولاية في القصرين - للمثول أمام وكيل الجمهورية. تُضاف إلى ذلك استدعاءات العدلية الأمنية في محافظة سيدي بوزيد، التي وُجّهت إلى معتصمي "هرمنا".
منذ أسابيع، وعلى خلفيّة عمليات التوقيف والأحكام الصادرة بحقّ عدد من الشباب، تشهد الشوارع التونسية، في معظم جهات البلاد، تحركات كبيرة تندّد بتجريم الاحتجاجات وبعمليات التوقيف المتواصلة التي تستهدف الشباب وناشطي الحراك الاجتماعي الذين شاركوا في تحركات تطالب بالتشغيل أو ترفض بعض قرارات الحكومة. يأتي ذلك في الوقت الذي أعلنت فيه الأخيرة انطلاق الحوار المجتمعي مع الشباب.
وينتقد المحتجون والمجتمع المدني المحاكمات التي طاولت عدداً من شباب الحراك الاجتماعي، والتي صدر عن آخرها حكم غيابي على الناشط عبد الله اللطيفي وأصدقائه لمدّة ثمانية أشهر في محافظة القصرين، وكذلك الدعوات التي وجّهت إلى ناشطين آخرين للمثول أمام القضاء، خلال أكتوبر/تشرين الأول 2016، بالإضافة إلى محاكمة بعض المفروزين أمنياً على إثر احتجاجات التاسع من أبريل/نيسان 2016.
في هذا السياق، أصدرت منظمات من المجتمع المدني الوطنية والدولية، بياناً دعت فيه إلى عدم تجريم الحراك الاجتماعي. من بينها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان، ومنظمة هيومن رايتس ووتش. وقد أكّدت المنظمات أنّ الساحة الاجتماعية في تونس شهدت، منذ شهر يناير/كانون الثاني الماضي، تصعيداً كبيراً في نسق التحركات الاجتماعية المطالبة بالحق في الشغل، ووضع حدّ لأشكال التشغيل الهشّ، وتنمية الجهات الداخلية. لكنّ الحكومة مستمرة في تجاهل هذه التحركات، والتضييق عليها وتشويهها والتصدّي الأمني لها، وتوظيف القضاء كأداة لتجريم الحراك الاجتماعي وملاحقة قادته وناشطيه.
من جهته، يقول رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، عبد الرحمن الهذيلي، إنّ "محاكمات الأشخاص المحالين أمام القضاء على خلفية تحركات اجتماعية، شهدت نسقاً تصاعدياً". يضيف لـ "العربي الجديد"، أنّ "الحكومة أخطأت حين واجهت الحراك الاجتماعي بالحل الأمني أو القضائي، ولم تتفاوض مع المشاركين في تلك التحركات". ويشدّد على أنّ "عمليات التوقيف تلك سوف تدفع في اتجاه مزيد من الاحتقان"، موضحاً أنّ "استقرار الوضع الاجتماعي في البلاد غير مرتبط بالاتحاد العام التونسي للشغل. فالاحتجاجات في معظمها غير مؤطّرة في هياكل نقابية، بل قادها شباب مهمشون سبق وقادوا ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011".
ويشير الهذيلي إلى أنّ "الحكومة لم تبذل جهداً لحلّ الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها البلاد، ولم تسعَ إلى التفاوض مع أيّ من المحتجين والمعتصمين الذين تجاوزت فترة تحرك بعضهم تسعة أشهر". ويؤكد أنّ "محاكمة الاحتجاجات هو توجّه اعتمدته حكومة الشاهد في التعامل مع المطالب الاجتماعية والاقتصادية".
إلى ذلك، كانت المحامية إيمان بجاوي، وهي عضوة في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، قد صرّحت بأنّ "المحاكمات الأخيرة التي طاولت الاحتجاجات الاجتماعية جرت وفق قوانين ونصوص قديمة تعود إلى العهد الاستعماري"، مطالبة بإلغائها تماماً من التشريع التونسي.
ويفيد تقرير المرصد الاجتماعي التونسي التابع للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بأنّ ارتفاعاً في معدّل الاحتجاجات سُجّل خلال شهرَي سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول الماضيين، بالمقارنة مع أشهر الصيف الفائت. فقد رُصد 674 تحركاً خلال سبتمبر و986 خلال أكتوبر. يُذكر أنّ القيروان وقفصة وسيدي بوزيد والقصرين حافظت على صدارة الولايات التي سجّلت الرصيد الأكبر من الاحتجاجات المطلبية. وقد تراوحت المعدلات فيها ما بين 80 و100 احتجاج في الشهر، بحسب ما يفيد الهذيلي، الذي يؤكد أنّ هذه المعدلات تكشف حدّة تأزّم الوضع الاجتماعي في تلك الجهات.
تجدر الإشارة إلى أنّ محاكمات التحركات الاجتماعية تواصلت في تونس على مدى السنوات الأربع الماضية، على خلفية أحداث وقعت خلال الثورة أو بعدها. ففي معتمدية فوسانة من محافظة القصرين، استُدعي ثمانية شباب إلى جلسة جنائية في محكمة الاستئناف، في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2015، على خلفية تحركات لأهالي المنطقة في يناير/كانون الثاني 2011، بحسب ما يفيد صابر الخليفي، وهو أحد المتهمين في القضية. وقد صدر في حقّ المجموعة حكم ابتدائي يقضي بالسجن لمدّة عام وشهرين. أما التهمة فهي المشاركة في تحرّك بقصد ارتكاب اعتداء على الأشخاص والأملاك، والإضرار عمداً بملك الغير، ورمي مواد صلبة على مبان، والمشاركة في تظاهرة غير مرخّص لها. إلى ذلك، أوقفت مجموعة أخرى من الشباب في السرس في محافظة الكاف، بعدما صدر في حقّهم حكم غيابي بالسجن لمدّة سنتين مع تأجيل التنفيذ، بسبب مشاركتهم في تحركات يناير 2011. أما في محافظة سيدي بوزيد، فقد صدر حكم غيابي بالسجن ثمانية أشهر في حقّ 11 شاباً، بتهمة قطع الطريق على خلفية المشاركة في اعتصام وتحركات احتجاجية، في مايو/أيار 2013، للمطالبة بالتشغيل.