احتجاجات السودان.. عوامل استمرارها وآفاقها

11 فبراير 2019
+ الخط -
وصلت الاحتجاجات التي اندلعت في السودان منذ 19 كانون الأول/ ديسمبر 2018 إلى حالة من توازن القوى بين نظام الحكم والقوى المنتفضة ضده؛ فلا النظام استطاع قمعها، كما فعل في انتفاضة أيلول/ سبتمبر 2013، ولا المنتفضون من القوى الشبابية والمعارضة تعبوا من النضال، أو استطاعوا تحقيق خرقٍ في اتجاه هدفهم المعلن، وهو إسقاط النظام المستمر في حكم البلاد منذ ثلاثة عقود، فالحراك مستمر، ولكنه بقي محصورًا في فئة الشباب والطلاب، على الرغم من تواصله واتساع رقعته الجغرافية وتعدد أساليبه، ولم يستطع حتى الآن استقطاب الشرائح الاجتماعية الكبرى في المجتمع. مع ذلك، يمثّل هذا الحراك، على محدوديته، التحدّي الأكبر الذي يواجه نظام الرئيس عمر البشير منذ وصوله إلى السلطة.

سمات "انتفاضة ديسمبر"
تتميز هذه الانتفاضة عن سابقاتها، على الرغم من أنها ما زالت عاجزة عن حشد كتلة شعبية كافية لكسر الجمود وتوازن القوى بينها وبين النظام، بأنها حراك نوعي مثابر، قوامه الشباب والطلاب والمثقفون الذين يتمتعون بوعيٍ نقدي لكامل تجربة الحكم في السودان لفترة ما بعد الاستقلال؛ بشقيها العسكري والديمقراطي معًا. كما يتميَّز هذا الحراك بانتشاره في جميع مناطق السودان، وبمشاركةٍ نسويةٍ لافتة، سيكون لها أثرها في تحديد ملامح المرحلة المقبلة. فوق ذلك، تواصلت هذه الانتفاضة مدة أطول بكثير من "ثورة أكتوبر 1964" التي أطاحت الفريق إبراهيم عبود، و"ثورة إبريل 1985" التي أطاحت الرئيس جعفر النميري.
ومن أبرز علامات هذا الحراك أيضًا حرصه على الطابع السلمي، ورفض أي شكلٍ من أشكال العنف؛ فخلال ما يقارب الشهرين لم تُسجَّل عليه، في العاصمة الخرطوم، حادثة تخريبٍ واحدة، ولم تُلصق به التهم ومحاولات الافتراء عليه بهذا الشأن. ويتميز هذا الحراك أيضًا بوقوف
 بعض الطرق الصوفية التي تنتشر في السودان على نطاق واسع إلى جانبه؛ إذ لهذا التحوّل دلالاته، نظرًا إلى المزاج العام المتديّن في السودان الذي يغلب عليه التصوف.
منذ إخماد انتفاضة أيلول/ سبتمبر 2013 التي قُتل فيها أكثر من مائتي شخص، تمكّن الشباب والطلاب المنتفضون، عبر ممارسة العمل الطوعي، والتشبيك الرقمي لمجموعاتهم على منصّات التواصل الاجتماعي، من تحقيق درجة عالية من التنظيم والتنسيق. وقد وجد هذا الحراك الرقمي فرصته، ليتحوّل إلى فعلٍ لافت في الشارع مع اشتداد الظروف المعيشية. وسارعت الحكومة، منذ بداية الانتفاضة، إلى إغلاق منصتي فيسبوك وواتساب، إلا أن شيوع امتلاك الهواتف الذكية، والمعرفة بخاصية الشبكة الافتراضية الخاصة VPN، مكَّنا الشباب والكبار، معًا، من الالتفاف على الحظر الحكومي. ومن مؤشّرات نجاح هذا التواصل الشبكي الواسع أن عدد المشتركين في إحدى المجموعات المتعاطفة مع الانتفاضة على منصة فيسبوك بلغ المليون ونصف المليون شخص.

أسباب استمرار الانتفاضة
أدت جملة من الأسباب دورًا جوهريًا في استمرار الانتفاضة الأطول في تاريخ السودان الحديث. وأهمها:
1. هيمنة النظام وإغلاق المجال العام
حرص "نظام الإنقاذ" منذ سيطرته على مقاليد الحكم في البلاد في حزيران/ يونيو 1989 على اتخاذ ما يلزم من إجراءاتٍ تضمن له البقاء في الحكم؛ منها فرضه ما سمّاها سياسة "التمكين"؛ فأبعد من الوظائف الحكومية، خصوصًا الجيش والشرطة، كل من يشكّ في ولائه له. وأحل محلهم أنصاره ومحازبيه. كما نشط في مطاردة النقابيين والناشطين سياسيًا، فأودع قياداتهم السجون، ودفع آخرين إلى مغادرة البلاد. واستهدف النظام الحزبين الكبيرين، حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي، بالتفتيت عبر الضغوط والإغراءات المتوازية، فخرجت منهما مجموعة أحزابٍ تمكَّن النظام من دفعها إلى مشاركاتٍ صوريةٍ في السلطة في فترات مختلفة.
إلى جانب ما تقدّم، ضيّق النظام الخناق على التجار، وأحكم سيطرته على الإعلام، واستحدث ما سُميت "الرقابة القبلية" على الصحف قبل صدورها. وتطوّر ذلك إلى مصادرة الصحف، بعد أن تكتمل طباعتها، بقصد إرهاقها ماليًا. كما حظر على بعض الصحافيين الكتابة، وأرهقهم 
بالاستدعاءات الأمنية، وبمقاضاتهم أمام المحاكم. وسيطر النظام على العمل التطوّعي، وأغلق مختلف الجمعيات الأهلية، والمنظمات غير الحكومية الحرة، وأبدلها بمنظماتٍ تابعة له.
بمثل تلك الإجراءات، أوصل النظام المجتمع السوداني بأجمعه إلى حالةٍ من الانغلاق، أدت إلى اندلاع الانتفاضة الحالية التي لم تأت، هذه المرة، من القوى الحزبية المنظمة التي ظلت تناهض النظام، ولا من الحركات المسلحة التي أدارت حروبًا طويلة ضده، في الأطراف، بل جاءت سلمية من فئة الشباب والطلاب.
2. الاقتصاد وظروف المعيشة
لم يسجل نظام البشير، منذ وصوله إلى الحكم، إنجازات فعلية، خلاف تمسّكه بالسلطة، إذ فشل في الحفاظ على وحدة البلاد. ومع الأخذ في الحسبان الحصار المديد الذي تعرّض له، فإن النظام لم ينجح في إدارة هذا البلد الزراعي الخصب، والغني بالموارد، وفشل في توفير السلع والخدمات وكبح جماح الغلاء. وبسبب الحصار الطويل وسوء إدارة الاقتصاد، تراجعت قيمة الجنيه السوداني، من 3 جنيهات تقريبًا، مقابل الدولار الأميركي الواحد، عندما استلم النظام الحكم عام 1989، إلى نحو 47 جنيهًا حاليًا. كما فشل النظام في جلب استثماراتٍ مفيدةٍ لاقتصاد البلد، حتى بعد رفع العقوبات، بسبب انتشار الفساد ونهب المال العام، وتهريب الذهب الذي يمتلك السودان بعض أكبر مناجم التنقيب عنه في العالم.
3. ضعف المعارضة
زاد من حالة الإحباط العام أن الحزبين الكبيرين اللذين يمثلان الثقل الجماهيري لمعارضة النظام، الأمة بزعامة الصادق المهدي والاتحادي الديمقراطي بزعامة محمد عثمان الميرغني، كانا مقصيَين تمامًا من الحكم. وعندما أتيح الحوار، فهما التأثير في السياسات بوصفه اهتمامًا بالمشاركة بحصص في النظام الفيدرالي والإقليمي، أكثر من النضال من أجل تحقيق تغيير 
حقيقي، يقود إلى انتقال ديمقراطي فعلي، يمثّل منطلقًا لنهضة تنموية واقتصادية في البلاد. ولم يعبّرا بذلك عن تطلعات الشعب السوداني، خصوصًا فئة الشباب. يضاف إلى ذلك أن القيادة فيهما بقيت حكرًا على أسرتي المهدي والميرغني؛ فقد بقي الصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني في رئاسة حزبيهما، ما يزيد على الخمسين سنة، ولا يزالان.
4. السياسة الخارجية
إضافة إلى فشله في إدارة الاقتصاد وتحقيق السلام والاستقرار في البلاد والانفتاح الجاد على القوى السياسية السودانية، ذهبت سياسة النظام الخارجية المتقلبة وغير المتسقة بما تبقّى له من مصداقية، فبعد سنواتٍ طويلةٍ من الصداقة مع إيران، وتقديم تسهيلات لها في الموانئ السودانية، على البحر الأحمر، انقلب النظام فجأةً وقطع علاقاته بها. بل أرسل جنودًا للمشاركة في حرب في اليمن إلى جانب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وقد وضعت مشاركة الجنود السودانيين في حرب اليمن الجيش السوداني في خانة الارتزاق، ما زاد من استياء السودانيين من النظام الذي أخذ يتقلب في مواقفه، ليحصل على أكبر مساعدة مالية ممكنة.
وكان آخر هذه التقلبات محاولة الرئيس البشير الانفتاح على موسكو، بهدف الضغط على واشنطن لاستكمال رفع العقوبات عنه، ورفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وذلك من خلال زيارة سورية لكسر العزلة عن نظام بشار الأسد. وصار واضحًا أن خيارات الرئيس البشير انحصرت في التشبث بالسلطة، منذ أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمر القبض عليه. وأخضع علاقاته الدولية، وحتى مسألة جنوب السودان، لهذه القضية.
5. تلمُّس المخارج
بعد الانشقاقات العديدة التي حصلت في التحالف الذي أوصل البشير إلى السلطة عام 1989، وما نتج منه من إبعاد لخصومه في الحركة الإسلامية والجيش، قام البشير بتكوين قوة موازية سمّاها قوات الدعم السريع، لحمايته. وقد أُنشئت هذه القوة القبلية، في البداية، لمساعدة الجيش في حروب دارفور، إلا أن غرضًا آخر وقف وراء إنشائها، هو تحييد الجيش الذي تتكوّن قيادته العليا من الضباط الإسلاميين. وبعد أن كانت هذه القوة تعمل في المناطق النائية في أطراف البلاد، جرى استدعاؤها، لتتمركز في معسكراتٍ تقع داخل الخرطوم، وعلى مقربة منها.
أخذ الرئيس البشير، بالتوازي مع إبداء استعداده لاستخدام القوة، في إطلاق تحذيراتٍ مستمرة للسودانيين المنتفضين، من مصير ثورات سورية وليبيا واليمن التي انقلبت حروبًا أهلية، غير أن ذلك لم يمنع اندلاع هذا الحراك، ولم يوقف استمراريته. ولكن مع حالة الانسداد التي حصلت في غياب قدرة الانتفاضة أو النظام على الحسم، لا يبدو من الممكن حصول تغيير في السودان من دون تحرّك الجيش، أو دعمه الفاعل للانتفاضة الشعبية أو النظام القائم. ويمكن تلخيص سيناريوهات الخروج من هذه الأزمة، في الآتي:
• أن يستجيب الرئيس البشير لضغط الحراك وللضغوط الإقليمية والدولية، وأن تضعف موقفَه المتصلب التشققاتُ الداخلية لنظامه، ثم يجد ملاذًا من ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية، فينقل السلطة إلى القوى السياسية الموقعة ميثاق تجمع المهنيين، خلال فترة انتقاليةٍ تنحصر مهمتها 
في الإصلاحات الدستورية والقانونية والسياسية، والإعداد لانتخابات عامة نزيهة. لكن احتمال حدوث هذا السيناريو ضعيف، بسبب شخصية البشير، وتخوفات الدوائر المحيطة بنظامه من العزل السياسي ونزعات الانتقام.
• أن يحصل انقلاب عسكري يطيح البشير، يستلم على أثره ضباط من الجيش السلطة، ويعيدون إنتاج النظام القائم (كما حصل في مصر)، ثم يتم القيام بإجراءات شكلية لامتصاص الغضب الشعبي، مع انفتاحٍ جزئي على قوى المعارضة، لكن هذا السيناريو لن يحل المشكلة، بل سيكون مقدمة لمشكلة أكبر.
• أن يحدث توافقٌ بين القوى السياسية وطيف الثوار الواسع على برنامج ديمقراطي، على نحوٍ يزيد من ثقل الكفة الرافضة وجود الرئيس البشير في الحكم، ويدفع الجيش إلى تغيير موقفه من النظام ويتحقق الانتقال إلى الديمقراطية، مثلما حدث في ثورتَي 1964 و1985.
• أن يقنع البشير الجيش بقمع الانتفاضة الشعبية بالقوة.
• أن يستمر الجمود الحالي حتى تحصل متغيرات جديدة تؤدي إلى تغيير موازين القوى لصالح النظام أو لصالح الثوار.
خلاصة القول إنّ الحل التوافقي بين القوى السياسية على مرحلة انتقالية وبرنامج تحول ديمقراطي هو الخيار الأسلم؛ إذ لا يملك أيٌّ من القوى الفاعلة القدرة على الحسم. وليس من المنتظر أن تملكها قوةٌ بمفردها. وقد ظهر في المشهد بعض المبادرات، ومنها مبادرة أساتذة جامعة الخرطوم التي لقيت ترحيبًا واسعًا. المطلوب من جميع الأطراف إدارة مزيد من الحوار، لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء، والتحرّك بحكمة وحذر، لتجنيب البلاد خطر الانزلاق في العنف والفوضى، والإصرار على الاستمرار في سلمية الحراك، حتى يتحقق الانتقال الديمقراطي بأقل التكاليف الممكنة.
دلالات