12 نوفمبر 2024
احتجاجات إيران.. سؤال الشرعية وخيارات النظام
شهدت إيران، في الأيام الأخيرة من عام 2017، تظاهراتٍ احتجاجيةً انطلقت من مدينة مشهد، ذات الطابع المحافظ، طالب فيها المتظاهرون باستعادة أموالٍ خسروها في مشاريع وهمية، أو شركات مالية كانت تعلق آمالًا على انتعاش اقتصادي بعد الاتفاق النووي. ولم تلبث الاحتجاجات أن انتشرت إلى عدد من المدن، بما فيها العاصمة طهران. وتتميز هذه الاحتجاجات بطابعها الاقتصادي، وبمشاركة قطاعات من الفئات الفقيرة في مقابل انتفاضة عام 2009 (الحركة الخضراء) التي انطلقت من فئات الطبقات الوسطى في المدن وطلبة الجامعات، ورفعت، منذ البداية، مطالب سياسية متعلقة أساسًا بالحريات ونزاهة الانتخابات. وعلى الرغم من العدد القليل نسبيًا للمشاركين فيها، تسببت الاحتجاجات بثلم شرعية النظام الإيراني، وكشفت عن حدّة الانقسامات الموجودة فيه، وطرحت تساؤلاتٌ عن إمكانية تصاعدها وقدرتها على تهديد النظام الإيراني الذي يواجه، في الوقت نفسه، تصعيدًا من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
سياق الاحتجاجات التاريخي
للحركات الاحتجاجية في إيران في العصر الحديث تاريخ يمتد إلى أواخر القرن التاسع عشر؛ إذ تكاد هذه البلاد تشهد تحركاتٍ احتجاجية دورية، وانتفاضات شعبية في كل عقد، ما يدفع إلى تصادم مع الحكومة. وغالبًا ما تكون لهذه الاحتجاجات علاقة بخلفيات اقتصادية ودوافع مطلبية تتعلق بغلاء الأسعار، أو فرض ضرائب جديدة، أو قضايا اقتصادية كبرى، مثل تأميم النفط في عام 1952، أو مراجعة ملكية الأراضي، كما حصل في ما سميت "الثورة البيضاء" في عام 1963. ويمكن أن يفهم تكرار الظواهر الاحتجاجية في سياق تاريخ الدولة المستبدّة في إيران من جهة، وعدم قبول الإيرانيين هذه الظاهرة ومقاومتها من جهة أخرى. ونادرًا ما حصلت احتجاجاتٌ لم يسقط فيها قتلى، بغض النظر عن الحكومة الموجودة في السلطة في إيران.
الوضع الاقتصادي: منطلق الأزمة
ثمة إجماع على أن التردّي الاقتصادي يمثل السبب الرئيس وراء الاحتجاجات الأخيرة، وأن
هذا العامل مرتبط بنتائج الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع القوى الكبرى (5+1) في صيف 2015. فمع توقيع الاتفاق النووي، ارتفع سقف التوقعات، وسادت إيران حالة من التفاؤل بأن الوضع الاقتصادي سوف يتحسّن. قبل ذلك، ومنذ مرحلة الرئيس محمود أحمدي نجاد، بدأت مؤسسات مالية في إطلاق وعود وتقديم إغراءات لتشجيع المواطنين على استثمار أموالهم في مشاريع تشرف عليها. ويبدو أن بعض تلك المؤسسات كان وهميًا، غرضه استغلال أحلام المواطنين بتحقيق أرباح سريعة. من جهة أخرى، وأمام التأخر في تنفيذ رفع العقوبات المرتبطة بالاتفاق النووي، والعقبات التي وضعتها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تأثر القطاع المالي في إيران، ويبدو أن هذا التأثير امتد إلى شركات ومؤسساتٍ جمعت أموالا من المواطنين، ما جعلها غير قادرةٍ على إعادة أموال المودعين الذين طالبوا باستعادتها. ومع عدم قدرة الحكومة على تأدية دور لحماية المواطنين، ورفضها تعويض الجزء الأكبر من الخسارة، ثار غضب أولئك المودعين، فكانت تلك الشرارة التي دفعت المتظاهرين إلى الخروج في مدينة مشهد.
وهذا لا ينفي بالطبع أن هناك اشتباكًا سياسيًا بين دوائر المحافظين وحكومة الرئيس حسن روحاني، وانتقادات متبادلة يتعلق معظمها بأداء حكومة روحاني الاقتصادية وسياستها الاقتصادية الليبرالية التي تقلص الإنفاق على قطاعاتٍ ومؤسساتٍ تهم المحافظين، وأيضًا بمراهنتها على الانفتاح. من هنا، ثمّة اعتقاد أن بعض المحافظين شجعوا خروج المتظاهرين في محاولةٍ لوضع ضغط شعبي على حكومة روحاني، وهو الأمر الذي ردّ عليه نائب الرئيس الإيراني، إسحاق جهانغيري، بالقول إن على من أخرجوا الناس في الشوارع أن يُحسبوا تبعات ذلك الخروج، والتي قد لا يمكنهم تحملها. وتجب الإشارة إلى أن التيار المحافظ يربط نفسه بالفقراء، ويقدّم نفسه مدافعًا عن حقوقهم. ومن هنا، كان الانتقاد لمشروع الموازنة المقترحة من حكومة حسن روحاني البالغة 104 مليارات دولار، والتي تنوي تقليل الاعتماد على النفط إلى نسبة 35%، مع رفع للدعم عن بعض السلع ورفع سعر المحروقات، وزيادة في الضرائب.
كان الغضب من الاستثمارات الوهمية التي خسر بعض الإيرانيين أموالهم بسببها الشرارة التي أطلقت التظاهرات، لكن انتشارها يشير إلى مشكلات اقتصادية ومعيشية كبرى، يعانيها المجتمع الإيراني كله؛ فالمؤشرات الاقتصادية الكلية حول إيران سلبية إجمالًا، إذ يبلغ معدل التضخم نحو 17%، وهناك ارتفاعات مطّردة شهريًا في الأسعار، ما يعكس ضعف
القوة الشرائية للريال الإيراني، كما وصل معدل البطالة وفق الأرقام الرسمية إلى نحو 12%، في حين تتحدث الأرقام غير الرسمية عن ضعف هذه النسبة أي نحو 24%. وبحسب تقديرات مختلفة، هناك نحو 25 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر في إيران. ويزيد الأمور تعقيدًا بالنسبة إلى الوضع الاقتصادي انخفاض أسعار النفط عالميًا، وسهولة ابتزاز إيران من طرف المستوردين بسبب الحصار، واعتمادها على أسواق محددة، فضلًا عن المشكلات الهيكلية في الاقتصاد الإيراني المتعلقة بالتشريعات والنظام البنكي غير الفعال، وغياب البيئة القانونية والسياسية الجاذبة للاستثمارات الخارجية، والتي من شأنها أن تخلق فرص عمل، وكذلك تزايد مستويات الفسادين، المالي والاقتصادي.
يضاف إلى ذلك فقدان المؤسسة الدينية جزءًا كبيرًا من هيبتها وشرعيتها، منذ انخرطت في الحكم وتعرّضت لمغريات السلطة والنفوذ والفساد، وتأثير الإملاء الديني العكسي؛ إذ أصبح المجتمع الإيراني أكثر علمانيةً، مما كان عليه في زمن الشاه.
هجوم على السياسة الخارجية أيضًا
مع سوء الوضع الاقتصادي والانتقادات الموجهة إلى سياسات الحكومة في هذا المجال، تبدو السياسة الخارجية هدفًا للمتظاهرين الذين يستسهلون الربط بين الأوضاع الاقتصادية في البلاد والمغامرات الإيرانية في الخارج، ويرون أن النظام السياسي لا يضع إيران والإيرانيين على رأس أولوياته؛ فالاستمرار في دعم حزب الله ونظام بشار الأسد في لبنان وسورية، وتدخلات إيران الإقليمية ومشاريعها في بناء النفوذ والسيطرة، تزيد من فقر الإيرانيين، وذلك هو محور الشعار الذي أطلقه بعض المحتجين "لا غزة ولا لبنان... حياتي فداء لإيران". وبغض النظر عن دقة هذا الربط وفوائد المليشيات والدول التي تدعمها إيران، في مقابل التكلفة التي يتطلبها التورط العسكري المباشر، فإن هذا الشعار يؤكد أن الرواية الرسمية إن ما تقوم به من تدخلات في سورية، وأماكن أخرى، يهدف إلى حماية إيران وتأمين مصالحها لم تعد مقبولة من الرأي العام الإيراني، الذي لديه تصورٌ مخالفٌ لما يحاول أن يفرضه النظام السياسي من تفسير لسياسته الخارجية ودوافعها في المنطقة، وهذا في حد ذاته يظهر أن ثمة فجوة كبيرة بين النظام وقطاع واسع من الرأي العام الإيراني.
المواقف الدولية
يبدو أن اللاعبين الدوليين غير متفقين في طريقة تعاطيهم مع الاحتجاجات، ففي وقتٍ تبدو فيه إدارة دونالد ترامب مستعدة لدعم تلك الاحتجاجات، ترى روسيا أنه ليس من المصلحة أن تتطور الأمور في إيران إلى عنفٍ يهدّد الدولة والمجتمع. في المقابل، ومع الانتقادات الأوروبية لرد النظام الإيراني حول سقوط ضحايا بسبب هذه التظاهرات، لا يبدو أن الأوروبيين راغبون في حصول هزّة سياسية كبرى غير محسوبة النتائج. فمنذ الربيع العربي، يسود في أوروبا مزاجٌ معادٍ للتغيير في المنطقة. ومن جهة أخرى، لا يبدو أن للمواقف الغربية التي تبدي حرصًا على الديمقراطية وحقوق الإنسان في إيران أي صدقيةٍ لدى الرأي العام الإيراني الذي يرى أن تلك الدول لا تهتم إلا بمصالحها؛ لهذا سارعت إلى الحصول على جزء من "كعكة" الاستثمارات وعقود البنية التحتية في إيران، عندما تسابقت إلى توقيع الاتفاق النووي، من دون أي شروط متعلقة بحقوق الإنسان والمواطن في إيران، أو في سورية وغيرها.
ماذا بعد؟
مع استمرار التظاهرات المنتقدة للحكومة، وللنظام ولو على مستوى أقل، أخذت الحكومة تنظم تظاهرات مؤيدة في المقابل. إذ تبقى قوة النظام قائمة في اتساع قاعدة مؤسساتها الاجتماعية
وانتشارها من الباسيج إلى شبكة رجال الدين ومؤسسات الدولة البيروقراطية والأمنية والاقتصادية المتداخلة. لكن هذا الاحتكام إلى الشارع له مخاطره؛ لأنه يهدّد بانقسام سياسي مجتمعي واسع، يضع بعض فئات المجتمع في مواجهة فئات أخرى. ومع ذلك، يبدو حتى الآن جليًا أن النظام يسعى إلى احتواء الاحتجاجات، على الرغم من استخدام العنف في قمعها، ويبدو أن عدم تدخل الحرس الثوري لمواجهتها هو محاولة لمنع تصعيدها، مع أن الحرس، على لسان قائده محمد علي جعفري، حذّر من أنه لن يبقى مكتوف الأيدي، إن استمرت التظاهرات.
في هذا السياق، قد تذهب الحكومة، في محاولتها تخفيف الاحتقان، إلى تجميد بعض الإجراءات المتعلقة برفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، ورفع أسعار المحروقات، واتخاذ إجراءات أخرى لتهدئة الأوضاع. لكن ذلك كله سيكون مسكّنات آنية لن تحل مشكلات إيران الاقتصادية المتراكمة والبالغة التعقيد.
وعلى صعيد السياسة الخارجية، من المستبعد حصول تغييرات جذرية في سياسات إيران الإقليمية، ومواقفها مما يحدث في المنطقة، لكن كل شيء سوف يعتمد على مدى استمرار وتيرة التظاهرات وتزايدها، وكذلك على مدى حصول مواجهات ووقوع ضحايا نتيجتها، مع ارتفاع وتيرة الانتقادات والتدخلات الإقليمية والدولية.
وعلى الرغم من أن الاحتجاجات لا تشكل حتى الآن تهديدًا جدّيًا للنظام الإيراني، فإنها تؤكد وجود فجوة كبيرة بين تطلعات الإيرانيين (واهتماماتهم) وسياسات حكومتهم المتصلة بقضايا داخلية ذات طبيعة اقتصادية، أو تلك المتعلقة بالسياسة الخارجية وطموحاتها الإقليمية. فالنظام الإيراني، شأن كل الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، وصل، بعد أربعة عقود من الحكم، إلى مفترق طريق مهم؛ فإما أن يواكب تطلعات جمهوره في إجراء إصلاحاتٍ حقيقية سياسية واقتصادية تفضي إلى تحول ديمقراطي حقيقي، أو أن يسير على خطى أنظمة الاستبداد العربية ومواجهتها بالقوة والعنف، كما حصل في سورية وليبيا وغيرهما، ومن ثم إدخال البلاد في حالة صراع أهلي، قد تتخذ أيضًا أبعادًا هوياتية، يستعد كثيرون في الإقليم والعالم من الآن لتوفير كل عوامل اشتعاله واستمراره.
إيران دولة قوية ذات مؤسسات، وقد شاخت أيديولوجيتها مثل دول أوروبا الشرقية. وبما أن الدولة تعتمد على استفادة فئاتٍ شعبيةٍ واسعة من مؤسساتها، كما تعتمد على شبكات ولاء مثل الإكليروس وأجهزة الأمن، فمن الصعب أن يكون التغيير من خارج النظام وحده، ولا بد من أن يتفاعل مع الاحتجاج إصلاح من داخل النظام.
سياق الاحتجاجات التاريخي
للحركات الاحتجاجية في إيران في العصر الحديث تاريخ يمتد إلى أواخر القرن التاسع عشر؛ إذ تكاد هذه البلاد تشهد تحركاتٍ احتجاجية دورية، وانتفاضات شعبية في كل عقد، ما يدفع إلى تصادم مع الحكومة. وغالبًا ما تكون لهذه الاحتجاجات علاقة بخلفيات اقتصادية ودوافع مطلبية تتعلق بغلاء الأسعار، أو فرض ضرائب جديدة، أو قضايا اقتصادية كبرى، مثل تأميم النفط في عام 1952، أو مراجعة ملكية الأراضي، كما حصل في ما سميت "الثورة البيضاء" في عام 1963. ويمكن أن يفهم تكرار الظواهر الاحتجاجية في سياق تاريخ الدولة المستبدّة في إيران من جهة، وعدم قبول الإيرانيين هذه الظاهرة ومقاومتها من جهة أخرى. ونادرًا ما حصلت احتجاجاتٌ لم يسقط فيها قتلى، بغض النظر عن الحكومة الموجودة في السلطة في إيران.
الوضع الاقتصادي: منطلق الأزمة
ثمة إجماع على أن التردّي الاقتصادي يمثل السبب الرئيس وراء الاحتجاجات الأخيرة، وأن
وهذا لا ينفي بالطبع أن هناك اشتباكًا سياسيًا بين دوائر المحافظين وحكومة الرئيس حسن روحاني، وانتقادات متبادلة يتعلق معظمها بأداء حكومة روحاني الاقتصادية وسياستها الاقتصادية الليبرالية التي تقلص الإنفاق على قطاعاتٍ ومؤسساتٍ تهم المحافظين، وأيضًا بمراهنتها على الانفتاح. من هنا، ثمّة اعتقاد أن بعض المحافظين شجعوا خروج المتظاهرين في محاولةٍ لوضع ضغط شعبي على حكومة روحاني، وهو الأمر الذي ردّ عليه نائب الرئيس الإيراني، إسحاق جهانغيري، بالقول إن على من أخرجوا الناس في الشوارع أن يُحسبوا تبعات ذلك الخروج، والتي قد لا يمكنهم تحملها. وتجب الإشارة إلى أن التيار المحافظ يربط نفسه بالفقراء، ويقدّم نفسه مدافعًا عن حقوقهم. ومن هنا، كان الانتقاد لمشروع الموازنة المقترحة من حكومة حسن روحاني البالغة 104 مليارات دولار، والتي تنوي تقليل الاعتماد على النفط إلى نسبة 35%، مع رفع للدعم عن بعض السلع ورفع سعر المحروقات، وزيادة في الضرائب.
كان الغضب من الاستثمارات الوهمية التي خسر بعض الإيرانيين أموالهم بسببها الشرارة التي أطلقت التظاهرات، لكن انتشارها يشير إلى مشكلات اقتصادية ومعيشية كبرى، يعانيها المجتمع الإيراني كله؛ فالمؤشرات الاقتصادية الكلية حول إيران سلبية إجمالًا، إذ يبلغ معدل التضخم نحو 17%، وهناك ارتفاعات مطّردة شهريًا في الأسعار، ما يعكس ضعف
يضاف إلى ذلك فقدان المؤسسة الدينية جزءًا كبيرًا من هيبتها وشرعيتها، منذ انخرطت في الحكم وتعرّضت لمغريات السلطة والنفوذ والفساد، وتأثير الإملاء الديني العكسي؛ إذ أصبح المجتمع الإيراني أكثر علمانيةً، مما كان عليه في زمن الشاه.
هجوم على السياسة الخارجية أيضًا
مع سوء الوضع الاقتصادي والانتقادات الموجهة إلى سياسات الحكومة في هذا المجال، تبدو السياسة الخارجية هدفًا للمتظاهرين الذين يستسهلون الربط بين الأوضاع الاقتصادية في البلاد والمغامرات الإيرانية في الخارج، ويرون أن النظام السياسي لا يضع إيران والإيرانيين على رأس أولوياته؛ فالاستمرار في دعم حزب الله ونظام بشار الأسد في لبنان وسورية، وتدخلات إيران الإقليمية ومشاريعها في بناء النفوذ والسيطرة، تزيد من فقر الإيرانيين، وذلك هو محور الشعار الذي أطلقه بعض المحتجين "لا غزة ولا لبنان... حياتي فداء لإيران". وبغض النظر عن دقة هذا الربط وفوائد المليشيات والدول التي تدعمها إيران، في مقابل التكلفة التي يتطلبها التورط العسكري المباشر، فإن هذا الشعار يؤكد أن الرواية الرسمية إن ما تقوم به من تدخلات في سورية، وأماكن أخرى، يهدف إلى حماية إيران وتأمين مصالحها لم تعد مقبولة من الرأي العام الإيراني، الذي لديه تصورٌ مخالفٌ لما يحاول أن يفرضه النظام السياسي من تفسير لسياسته الخارجية ودوافعها في المنطقة، وهذا في حد ذاته يظهر أن ثمة فجوة كبيرة بين النظام وقطاع واسع من الرأي العام الإيراني.
المواقف الدولية
يبدو أن اللاعبين الدوليين غير متفقين في طريقة تعاطيهم مع الاحتجاجات، ففي وقتٍ تبدو فيه إدارة دونالد ترامب مستعدة لدعم تلك الاحتجاجات، ترى روسيا أنه ليس من المصلحة أن تتطور الأمور في إيران إلى عنفٍ يهدّد الدولة والمجتمع. في المقابل، ومع الانتقادات الأوروبية لرد النظام الإيراني حول سقوط ضحايا بسبب هذه التظاهرات، لا يبدو أن الأوروبيين راغبون في حصول هزّة سياسية كبرى غير محسوبة النتائج. فمنذ الربيع العربي، يسود في أوروبا مزاجٌ معادٍ للتغيير في المنطقة. ومن جهة أخرى، لا يبدو أن للمواقف الغربية التي تبدي حرصًا على الديمقراطية وحقوق الإنسان في إيران أي صدقيةٍ لدى الرأي العام الإيراني الذي يرى أن تلك الدول لا تهتم إلا بمصالحها؛ لهذا سارعت إلى الحصول على جزء من "كعكة" الاستثمارات وعقود البنية التحتية في إيران، عندما تسابقت إلى توقيع الاتفاق النووي، من دون أي شروط متعلقة بحقوق الإنسان والمواطن في إيران، أو في سورية وغيرها.
ماذا بعد؟
مع استمرار التظاهرات المنتقدة للحكومة، وللنظام ولو على مستوى أقل، أخذت الحكومة تنظم تظاهرات مؤيدة في المقابل. إذ تبقى قوة النظام قائمة في اتساع قاعدة مؤسساتها الاجتماعية
في هذا السياق، قد تذهب الحكومة، في محاولتها تخفيف الاحتقان، إلى تجميد بعض الإجراءات المتعلقة برفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، ورفع أسعار المحروقات، واتخاذ إجراءات أخرى لتهدئة الأوضاع. لكن ذلك كله سيكون مسكّنات آنية لن تحل مشكلات إيران الاقتصادية المتراكمة والبالغة التعقيد.
وعلى صعيد السياسة الخارجية، من المستبعد حصول تغييرات جذرية في سياسات إيران الإقليمية، ومواقفها مما يحدث في المنطقة، لكن كل شيء سوف يعتمد على مدى استمرار وتيرة التظاهرات وتزايدها، وكذلك على مدى حصول مواجهات ووقوع ضحايا نتيجتها، مع ارتفاع وتيرة الانتقادات والتدخلات الإقليمية والدولية.
وعلى الرغم من أن الاحتجاجات لا تشكل حتى الآن تهديدًا جدّيًا للنظام الإيراني، فإنها تؤكد وجود فجوة كبيرة بين تطلعات الإيرانيين (واهتماماتهم) وسياسات حكومتهم المتصلة بقضايا داخلية ذات طبيعة اقتصادية، أو تلك المتعلقة بالسياسة الخارجية وطموحاتها الإقليمية. فالنظام الإيراني، شأن كل الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، وصل، بعد أربعة عقود من الحكم، إلى مفترق طريق مهم؛ فإما أن يواكب تطلعات جمهوره في إجراء إصلاحاتٍ حقيقية سياسية واقتصادية تفضي إلى تحول ديمقراطي حقيقي، أو أن يسير على خطى أنظمة الاستبداد العربية ومواجهتها بالقوة والعنف، كما حصل في سورية وليبيا وغيرهما، ومن ثم إدخال البلاد في حالة صراع أهلي، قد تتخذ أيضًا أبعادًا هوياتية، يستعد كثيرون في الإقليم والعالم من الآن لتوفير كل عوامل اشتعاله واستمراره.
إيران دولة قوية ذات مؤسسات، وقد شاخت أيديولوجيتها مثل دول أوروبا الشرقية. وبما أن الدولة تعتمد على استفادة فئاتٍ شعبيةٍ واسعة من مؤسساتها، كما تعتمد على شبكات ولاء مثل الإكليروس وأجهزة الأمن، فمن الصعب أن يكون التغيير من خارج النظام وحده، ولا بد من أن يتفاعل مع الاحتجاج إصلاح من داخل النظام.