يثير اتفاق إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، الأربعاء الماضي، لتسوية الخلافات، تساؤلات جوهرية حول أسبابه ومستقبل العلاقة بين الطرفين، وذلك لجهة توقيته الحساس ومضمونه الهام، ولأهميته في سياقات عدّة تتجاوز علاقات التعاون بين الطرفين، والتي شابها توتر كبير خلال الفترة الماضية، إلى العلاقات الإيرانية الأوروبية، ومن ثم تطورات الصراع الإيراني الأميركي المتصاعد هذه الأيام على خلفية المساعي الأميركية في مجلس الأمن الدولي لإعادة فرض العقوبات الأممية على طهران، من خلال إحياء قرارات أممية ألغيت بمفعول الاتفاق النووي المبرم عام 2015 بين إيران والمجموعة الدولية السداسية. وعليه، فتزامن الزيارة مع الحراك الأميركي في مجلس الأمن جعل مراقبون يربطون المعطيين بعضهما ببعض، إلا أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ومسؤولين إيرانيين آخرين نفوا وجود أي علاقة بين الأمرين.
والأربعاء الماضي، توصل رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي، والمدير الجديد للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل ماريانو غروسي، إلى اتفاق، أثناء زيارة الأخير إلى طهران يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، كانت الأولى له منذ توليه المنصب في ديسمبر/كانون الثاني الماضي، والتقى فيها أيضاً مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، ووزير خارجيته محمد جواد ظريف.
بنود الاتفاق
ونص الاتفاق مكوّن من 6 بنود، ويؤكد في بنده الأول على اتفاق الطرفين على "تعزيز التعاون بينهما وبناء الثقة المتبادلة"، غير أن جوهر الاتفاق هو ما ورد في البند الثاني، إذ ينص على السماح الإيراني "طوعاً" لمفتشين تابعين للوكالة الدولية بتفتيش موقعين يشتبه بممارسة إيران "أنشطة نووية غير معلنة" فيهما، لتنفيذ أنشطة التحقق من دون الكشف عن تواريخها التي ظلت سرية، إلا أن غروسي، بعد عودته إلى فيينا، أكد مساء الخميس أنها "قريبة للغاية".
ويقع أحد الموقعين النوويين الإيرانيين في أطراف مدينة شهرضا الواقعة في محافظة إصفهان وسط البلاد، والموقع الثاني في جنوب العاصمة طهران، في منطقة تورقوز أباد، وهو الموقع ذاته الذي ذكره رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول 2018، متهماً إيران بممارسة أنشطة نووية فيه.
وفي المقابل، إيران التي ظلت تعتبر، خلال الأشهر الأخيرة، أن أسئلة الوكالة الدولية حول الموقعين "غير شرعية"، قد حصلت على تأكيدات من الوكالة في الاتفاق، في بنده الرابع، أنه "استناداً إلى تحليل المعلومات المتاحة للوكالة، ليس لدى الوكالة أسئلة أخرى من إيران، ولا يوجد طلب للوصول إلى مواقع تتجاوز ما نصت عليه اتفاقية الضمانات الشاملة والبروتوكول الإضافي". كما أن الوكالة الدولية حاولت في البند الخامس طمأنة طهران، إذ ينص على أن "استقلالية الوكالة وحيادها ومهنيتها لا تزال شرطاً أساسياً لتنفيذ أنشطة التحقق"، مؤكدة أن "الوكالة ستستمر في الأخذ بعين النظر مخاوف إيران الأمنية من خلال حماية جميع معلومات الضمانات السرية وفقاً لميثاق الوكالة، وأحكام اتفاقية الضمانات الشاملة والبروتوكول الإضافي، والمعايير والإجراءات المعمول بها".
انعطاف إيراني
غير أن سماح إيران بالوصول إلى الموقعين يمثل التطور المفاجئ الأهم، وفي الوقت ذاته، انعطافا كبيرا في موقفها، إذ إن الحكومة الإيرانية ظلت ترفض هذا الأمر طيلة الأشهر الماضية، لترد على طلبات الوكالة ومديرها المتكررة بهذا الشأن من خلال اتهامهما بتبني "مزاعم إسرائيلية" وتحول الوكالة إلى "أداة أميركية" ضد إيران. وعليه، فإن هذا الانعطاف يثير تساؤلات مشروعة حول أسباب التراجع الإيراني عن الموقف الرافض السابق. وفي الإجابة يمكن الإشارة إلى أسباب عدّة تكون قد دفعت الجانب الإيراني إلى مراجعة حساباته واتخاذه موقفاً مغايراً، ليوجه بناء عليها الدعوة إلى مدير الوكالة الدولية لزيارة طهران. ولعل السبب الأول يعود إلى محاولة إيرانية استباقية، منعاً لإعادة طرح ملف "الأبعاد العسكرية المحتملة" لبرنامجها النووي، والمعروف اختصاراً بملف "PMD"، وذلك بعدما أغلق مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في قرار صدر يوم 15 ديسمبر/كانون الأول لعام 2015، هذا الملف المعتمد على اتهامات غربية وإسرائيلية لإيران بوجود أبعاد عسكرية لأنشطتها النووية.
تدويل الملف النووي
والسبب الثاني، هو على الأغلب سعي إيران لسحب ورقة ضغط الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الولايات المتحدة الأميركية، التي لطالما استثمرت في موقف الوكالة بشأن الموقعين خلال الأشهر الماضية، وخلافاتها مع طهران، لصالح موقفها المنسحب من الاتفاق النووي، وتسويق روايتها بشأن البرنامج النووي الإيراني. فضلاً عن أن طهران من خلال الاتفاق الأخير، والذي على الأغلب ستظهر نتائجه في تقارير للوكالة الدولية خلال الفترة المقبلة، تكون قد نجحت في الحؤول دون تدويل ملفها النووي مرة أخرى، كما توقع ذلك نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي قبل شهرين، قائلاً إن "الكيان الصهيوني يزعم وجود وثائق مختلقة (حول أنشطة نووية سرية)، طرحت الوكالة الدولية للطاقة الذرية على أساسها مطالب، وأطلقت لعبة معقدة جداً ضدنا، وأصدرت الوكالة قراراً ضدنا تحت ضغوط أميركا، لذلك فاحتمال إحالة ملف إيران في الاجتماع المقبل من مجلس محافظي الوكالة إلى مجلس الأمن يبقى وارداً".
وعليه، بدا واضحا أن مواصلة التوتر والخلافات بينها وبين الوكالة الدولية من شأنها أن تحيل الملف مجدداً إلى مجلس الأمن الدولي خلال المرحلة المقبلة، وهو ما كانت تنشده الولايات المتحدة الأميركية بغية إخراج صراعها مع إيران من إطاره الثنائي وإعادته إلى إطار أممي، كما كان عليه الوضع أيام الرئيس الأميركي باراك أوباما، قبل التوصل إلى الاتفاق النووي، حيث نجح في تحقيق إجماع دولي ضد طهران.
كسب الأوروبيين
أما السبب أو الدافع الثالث، فهو على ما يبدو محاولة إيرانية لتدعيم موقفها وتعزيزه لدى بقية شركاء الاتفاق النووي، وتحديداً الأوربيين، من خلال إظهار حرصها على الحفاظ على الاتفاق، وإزالة هواجس أوروبية، بعدما أبدت الترويكا الأوروبية (بريطانيا وألمانيا وفرنسا)، الشريكة في الاتفاق النووي، امتعاضاً شديداً خلال الفترة الماضية من عدم السماح بالوصول إلى الموقعين، تمثل في استصدار قرار من مجلس محافظي الوكالة الدولية خلال يونيو/حزيران الماضي، دعا إيران إلى "التعاون الكامل والفوري" مع الوكالة وفتح المكانين لمفتشيها (سريعا)"، ولدفع الأوروبيين والصينيين والروس إلى تبني المزيد من المواقف السياسية الداعمة لها في المواجهة الدائرة بينها وبين واشنطن.
وفي السياق، بدا أن العزلة التي تواجهها واشنطن دولياً، بعد رفض مشروع قرارها لتمديد حظر الأسلحة عليها في مجلس الأمن، قبل نحو أسبوعين، وطلبها من المجلس تفعيل آلية "سناب باك" قبل أسبوع، دفعت طهران إلى تبني مقاربة جديدة للمواجهة مع واشنطن، والظروف الدولية، ساعية إلى تسجيل نقاط لصالحها ضد الإدارة الأميركية، ولو كانت سياسية وحقوقية، إذ إنه رغم هذه العزلة التي تواجهها الولايات المتحدة، تبقى ضغوطها الاقتصادية المتمثلة بالعقوبات الشاملة على إيران فاعلة ومؤثرة، لكون هذا المتغير يخضع لحسابات المصالح الاقتصادية المتشابكة بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين، وحتى مع الصين وروسيا، حيث تلتزم هذه الأطراف بالعقوبات رغم تفاوت درجات الالتزام.
مرحلة خطرة
وأخيراً، فرغم نجاح الاتفاق الأخير بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية في إنهاء التوتر بين الطرفين وتسوية الخلافات الراهنة بينهما، ولو مؤقتاً، لا يمكن اعتبار هذه الخلافات منتهية بلا رجعة، إذ إن الاتفاق النووي، الذي أبرمته المجموعة الدولية كأفضل خيار لمعالجة الملف النووي الإيراني، يعيش مرحلة خطيرة وحساسة في حياته المترنحة، بعد إخطار واشنطن مجلس الأمن بتفعيل آلية "فض النزاع" خلال ثلاثين يوما، ما من شأنه إعادة الوضع إلى مرحلة ما قبل هذا الاتفاق، وسط تهديدات إيرانية بالرد على ذلك من خلال إعادة برنامجها النووي إلى هذه المرحلة.
ومن جهة أخرى، وبغض النظر عما يمكن أن يفضي إليه الأمر في مجلس الأمن خلال الأيام الـ30 المقبلة، يقلل مراقبون إيرانيون من أهمية الاتفاق بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، مؤكدين أنه لا ضمانات بعدم تكرار المشكلة في قادم الأيام، ولو بأشكال أخرى. ويقول المحلل السياسي الإيراني فؤاد إيزدي، لصحيفة "فرهيختغان" الإيرانية المحافظة، إنه "لا ضمان أن ترتفع الذرائع في المستقبل القريب لأن المشكلة ليست فنية وإنما سياسية".
ويضيف أن "خصمنا ليست الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بل أميركا"، مشيراً إلى طلب الأخيرة من مجلس الأمن الدولي بتفعيل آلية "فض النزاع.
ويرى أن "الرد الجاد هو البدء بعملية الإنسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT)، وهو ما على إيران أن تفعله، وحينئذ لن تكون هناك حاجة لاستضافة غروسي".