اتفاق المرحلة الانتقالية في السودان.. فرص النجاح والعقبات
نصت الوثيقة الدستورية على ترتيبات المرحلة الانتقالية الطويلة التي تمتد تسعة وثلاثين شهرًا، يتشارك خلالها المدنيون والعسكريون إدارة شؤون البلاد، عبر ما يسمّى "المجلس السيادي"، بواقع خمسة أعضاء لكل فريق، إضافةً إلى شخصية وطنية، يتم التوافق عليها. كما تم الاتفاق على أن تترأَّس شخصية عسكرية المجلس في الفترة الأولى، ومدتها واحد وعشرون شهرًا، في حين يتولى المدنيون رئاسة الثمانية عشر شهرًا المتبقية. وتم تحديد صلاحيات المجلس السيادي في المهمات التشريعية مع صلاحيات أخرى، مرتبطة بالقضايا السياسية والأمنية وملفات السلام مع الحركات المسلحة التي تقاتل الحكومة المركزية في عدد من مناطق السودان. ونصّت الوثيقة الدستورية أيضًا على تشكيل مجلسٍ للوزراء، تقترح قوى الحرية والتغيير رئيسه (وسمِّي عبد الله حمدوك للمنصب، وهو خبير اقتصادي معروف)، على أن يعيّن هو حكومةً لا يتجاوز عدد أعضائها العشرين وزيرًا، يعتمدهم مجلس السيادة. وتشمل مهمات مجلس الوزراء كل الصلاحيات التنفيذية، مع صلاحياتٍ مشتركة مع مجلس السيادة، بما فيها صلاحية التشريع.
نصّت الوثيقة أيضًا على تشكيل مجلس تشريعي، تحظى قوى إعلان الحرية والتغيير بنسبة
67% من أعضائه، في حين تحوز القوى الأخرى النسبة المتبقية، على أن يتشكل المجلس في فترة لا تتجاوز التسعين يومًا من تاريخ إنشاء مجلس السيادة. وتنص الوثيقة أيضًا على إنشاء لجنة تحقيق في مجزرة 3 حزيران/ يونيو 2019 وغيرها من الأحداث. وحدّدت الوثيقة مهمات المرحلة الانتقالية، وأبرزها "وضع السياسة والمنهج الفعال لتحقيق السلام الشامل في دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان بالتشاور مع جميع الحركات المسلحة، وتحقيق سلام عادل وشامل يوقف الحرب نهائيًا بمخاطبة جذور المشكلة السودانية ومعالجة آثارها". ودعت الوثيقة المجتمع الدولي إلى تقديم الدعم الاقتصادي والمالي والإنساني لمساعدة السلطات الانتقالية في تنفيذ الاتفاق، ورفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة بحقه وإعفائه من الديون.
أبرز التحديات أمام الاتفاق
يواجه تطبيق الاتفاق جملة من التحدّيات يمكن حصرها في أربعة رئيسة:
(1): القوى الرافضة
رفضت مجموعة من القوى السياسية الرئيسة الاتفاق، لأن مصالحها أو مواقفها لم تؤخذ في الاعتبار. وقاطعت الحركات المسلحة جميعًا حفل توقيع الاتفاق. وفي السودان خمس حركات مسلحة رئيسة، تقاتل ثلاثٌ منها في إقليم دارفور، غرب البلاد: حركة تحرير السودان، فصيل عبد الواحد محمد نور، وحركة تحرير السودان، فصيل ميني أركو ميناوي، وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم. وحركتان أيضًا كانتا تشكلان جسمًا واحدًا يعرف باسم الحركة الشعبية – قطاع الشمال، ويقاتل في جنوب كردفان والنيل الأزرق. انشق هذا الجسم إلى فصيل أول يقوده عبد العزيز الحلو، وآخر بقيادة مالك عقار. وقد أنشأ هؤلاء ما يسمّى تحالف الجبهة الثورية، عبّر عن رفضه اتفاق الوثيقة الدستورية، بعد أن فشل في التوصل إلى تسوية مع قوى إعلان الحرية والتغيير، في جولتين متعاقبتين من المفاوضات، جرتا تباعًا، في أديس أبابا والقاهرة. أعدّت الجبهة الثورية ملحقًا طلبت أن يُضاف إلى الاتفاق. وبدا من تصريحات قادتها أنها تريد أن يكون لها نصيبٌ مقبول من المناصب في السلطة الانتقالية، بحجّة أن عملها العسكري أسهم في إضعاف نظام الرئيس عمر البشير. ويبدو أن تمحور الخلافات حول شغل المواقع في الحكومة والبرلمان الانتقاليَّين يعود إلى أن الطرفين ينظران إلى المرحلة الانتقالية منصةً يتأسس عليها الوضع السياسي المستقبلي، لكل طرف، فالحصول على أكبر عدد من المواقع في السلطة الانتقالية يضمن لكل طرفٍ فرصة الحصول على أفضل النتائج في الانتخابات التي تعقب الفترة الانتقالية، فالمحاصصة، فيما يبدو، هي السمة الرئيسة للنزاع بين الجبهة الثورية وقوى إعلان الحرية والتغيير.
وقف الحزب الشيوعي السوداني، أيضًا، موقفًا معارضًا الاتفاق، منذ جرى توقيعه بالأحرف
الأولى في 17 تموز/ يوليو 2019. أما الإسلاميون المنتمون إلى حزب المؤتمر الشعبي، فقد أعلنوا أنهم يعارضون أيضًا ترتيبات المرحلة الانتقالية، وأي قرارات تتخذها مجالس السيادة والوزراء والتشريعي، بسبب إقصائهم كليًا عن المفاوضات. كما ارتفعت أصواتٌ مختلفةٌ بين شباب قوى الثورة، تنتقد قوى إعلان الحرية والتغيير، خصوصا تجمع المهنيين، واصفةً إدارتهم الأمور بعدم الشفافية، واتباع نهج المحاصصات في المفاوضات حول المرحلة الانتقالية. وقد أوحى تباطؤ قوى إعلان الحرية والتغيير في تسمية مرشحيهم للمجلس السيادي بوجود نقاش حول توزيع المناصب.
من خلال النظر في مواقف القوى السياسية المختلفة، في هذه المرحلة، يمكن القول إن الفترة الانتقالية بدأت في غياب الانسجام والوحدة بين القوى التي ساهمت في إسقاط نظام البشير؛ فغياب الثقة بين الفصائل السياسية المختلفة، والارتباطات الخارجية لبعضها، وعدم انسجام الرؤية، حتى داخل قوى إعلان الحرية والتغيير، عوامل تمثّل تهديدًا لا يمكن التقليل من أهميته خلال هذه المرحلة، فالثورة انطلقت، بادئ الأمر، من المدن الإقليمية، وظهر تجمع المهنيين، لاحقًا، قيادةً لها، فسعى إلى ضم القوى التي وقّعت معه ما سمي "إعلان الحرية والتغيير"، على الرغم من التباين فيما بينها. وقد فسرت قوى إعلان الحرية والتغيير شعار نقل السلطة للمدنيين بأنه يعني نقل السلطة إليها، بدلًا من أن تفسّره بأنه يعني الانتقال الديمقراطي المحدّد بمواعيد واضحة. وقد اتضح عدم التوافق بين قوى إعلان الحرية والتغيير، بعد سقوط نظام البشير؛ على نحوٍ سمح للمجلس العسكري الانتقالي بأن يعزّز مكاسبه خلال العملية التفاوضية، ويتحكّم في مفاصل صناعة القرار في المرحلة الانتقالية.
(2): غياب الثقة وتداخل السلطات
منح الاتفاق المجلس السيادي حق اعتماد أو رفض الأفراد الذين يجري ترشيحهم للمناصب المختلفة في مجلس الوزراء، والمجلس التشريعي، والجهاز القضائي. وراج أن المجلس العسكري رفض مرشح قوى إعلان الحرية والتغيير منصب رئيس القضاء. في حين أن رئيس القضاء المُبعد قام، بحسب تقارير، قبيْل مغادرته منصبه، بإجراءاتٍ مختلفة، شملت ترقية عدد من القضاة، وهو الأمر الذي قد يصعّب مهمة الحكومة في إجراء تغييراتٍ جوهرية لإصلاح بنية النظام القضائي.
سيُطرح أيضًا، في الفترة المقبلة، موضوع المساءلة فيما يتعلق بمجزرة فض الاعتصام وغيرها
من الأحداث التي وقعت خلال الاحتجاجات، خصوصا بعد أن تم التوصل إلى اتفاق على تشكيل لجنة تحقيق مستقلة فيها. وسوف يعين مجلس السيادة هذه اللجنة. والمعروف أن الفاعل، أو على الأقل المسؤول عن مجزرة فض الاعتصام هو المجلس العسكري، وهو الشريك الرئيس في الاتفاق. كما ثار جدل حول مطالبة العسكريين بحصانة مطلقة، وهو ما جرى تجاوزه بإمكانية رفعها في حالة موافقة ثلثي أعضاء المجلس التشريعي. أضف إلى ذلك قضايا إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية والمليشيات، وأهمها مليشيا قوات الدعم السريع التي يقودها الفريق محمد حمدان دقلو، الملقب بحميدتي؛ فقد تم التوصل إلى إسناد عملية إصلاح هذه الأجهزة إلى الجيش نفسه، وذلك بإشراف قائد عام للجيش (وهو منصب مستحدث) والسلطة السيادية وفقًا للقانون. ويثير هذا الأمر مخاوف لدى بعضهم من إمكانية عودة الدولة العميقة في المؤسسة العسكرية، في حال إسناد عملية الإصلاح إلى العسكر.
ويرى بعض نقاد الاتفاق أن قوى إعلان الحرية والتغيير أخطأت بقبولها رئاسة العسكريين المرحلة الأولى والأطول للمجلس السيادي خلال الفترة الانتقالية التي ستصدر فيها أهم القرارات والتشريعات التي سيتوقف عليها نجاح التحول الديمقراطي، أو بسط العسكر سيطرتهم على السلطة. وسوف يؤدي العضو الحادي عشر المرجّح في الأمور الخلافية، عندما تتعادل أصوات العسكريين الخمسة مع أصوات المدنيين الخمسة، دورًا مهمًا خلال هذه المرحلة؛ لذلك فإن التدقيق في اختيار هذا العضو سيكون مهمًا للطرفين.
(3): التحديات الاقتصادية
بتسليم رئاسة الحكومة للمدنيين، والابتعاد عن إدارة شؤون الحياة اليومية للمواطنين، يكون المجلس العسكري رفع عن كاهله عبء التعامل مع القضايا الأشدّ إلحاحًا بالنسبة إلى عموم الناس، والتي يمثل التصدّي لها تحديًا كبيرًا في مجالات التعليم والصحة والخدمات والبنية التحتية، وغيرها. وهذه هي القضايا التي سوف يحكم الناس من خلالها على نجاح الحكومة أو فشلها. ومؤكّد أن تواجه وزارةَ حمدوك تحدياتٌ وصعابٌ جمة، في إصلاح الوضع الاقتصادي المتردّي، وتحقيق تطلعات الناس وتوقعاتهم التي عادة ما تكون مرتفعةً في مراحل ما بعد سقوط النظام القديم. ولن يكون من المتيسر إحداث تحسّن ملموس في الوضع الاقتصادي، في فترة قصيرة؛ فديون السودان الخارجية تجاوزت الستين مليار دولار. كما أن السودان يعاني، منذ فترة، أزمات متصلة، في المحروقات وفي توفير دقيق الخبز، إضافةً إلى ارتفاع شديد في تكلفة المعيشة، وفي معدلات التضخم. ولذلك تصبح الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية، والنجاح في إحداث الإصلاحات الإدارية اللازمة، ومحاربة الفساد، التحدّي الأبرز الذي سيواجه السودان في المرحلة الانتقالية. وقد يؤدّي عدم النجاح فيه إلى استنزاف الحكومة والقوى المدنية سياسيًا، وسوف يستخدم دليلًا على فشلها في إدارة شؤون الدولة والمجتمع. كما أن انتهاج سياسة خارجية رشيدة تقود إلى الإعفاء من الديون، واستقطاب العون المالي الإقليمي والدولي، وجلب الاستثمارات الأجنبية، يمثل تحدّيًا كبيرًا شديد الأهمية.
(4): المواقف الخارجية
لاقى الاتفاق ترحيبًا إقليميًا ودوليًا كبيرًا؛ فقد رحّبت به مصر وإثيوبيا وتركيا وقطر والإمارات ومنظمة الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية وجامعة الدول العربية. كما رحّبت به الخارجية
الأميركية، ووصفته بأنه "خطوة مهمة إلى الأمام"، ودعت العسكريين والمدنيين إلى العمل في تناغم، خلال الفترة الانتقالية، مؤكّدةً دعم الولايات المتحدة للشعب السوداني في سعيه إلى إقامة حكومةٍ تحمي حقوق جميع المواطنين السودانيين، وتؤدي، عقب نهاية هذه الفترة، إلى انتخاباتٍ حرّة ونزيهة. ورحبت الخارجية البريطانية أيضًا بالاتفاق، مؤكّدةً وجود مسائل لا تزال عالقةً، لا بد من معالجتها، وأن بريطانيا تحث جميع الأطراف على التواصل البنّاء فيما بينها، لتسوية هذه المسائل سريعًا.
ولكن هذه المواقف تبقى سياسية وإعلامية، وليست كافيةً لضمان نجاح المرحلة الانتقالية في السودان، وتنفيذ الاتفاق الخاص بإدارتها؛ إذ لا بد، كما أشار اتفاق الوثيقة الدستورية، من تقديم الدعم الاقتصادي والمالي والإنساني، ورفع العقوبات الاقتصادية عن السودان، وشطب اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإعفائه من سداد الديون الخارجية. كما يبرز على نحو خاص خطر محاولة السعودية والإمارات ومصر، التي لها تأثير في بعض القيادات العسكرية كما يبدو، جرّ السودان إلى محاور إقليمية.
أكسبت الإرادة الشعبية القوية للثوار ومثابرتهم على النضال اليومي في العاصمة والأقاليم، والتزامهم الكامل بالسلمية، على الرغم من العنف الذي ووجهوا به، على مدى تسعة أشهر، الثورةَ تعاطفًا دوليًا وإقليميًا كبيرًا، حال دون إجهاضها. كما ضغط في اتجاه التوصل إلى اتفاق لبدء مرحلةٍ انتقاليةٍ تنتهي بحكم ديمقراطي مدني في بلاد حكمها الجيش 53 عامًا من أصل 63 عامًا مثّلت عمر الاستقلال السوداني. ومع ما يحيط بتنفيذ الوثيقة الدستورية من مخاطر في الفترة الانتقالية، يبقى السودان أمام فرصةٍ مهمة، ينبغي له استغلالها للخلاص من عهد الانقلابات العسكرية، وللتحوّل نحو الديمقراطية والتركيز على ثنائية الاستقرار والتنمية، بدلًا من العنف والفوضى.