12 نوفمبر 2024
اتفاق "المصالحة" التركي – الإسرائيلي.. مضمونه وتداعياته
بعد سنواتٍ من التوتّر والقطيعة، أعلنت تركيا وإسرائيل في أواخر يونيو/ حزيران 2016، عن توصّلهما إلى اتفاقٍ لإعادة تطبيع العلاقات بينهما. وجاء بعد مفاوضاتٍ طويلةٍ، استهدفت إنهاء تداعيات الهجوم الذي قامت به وحدة من "الكوماندوس" الإسرائيلي ضدّ سفينة المساعدات التركية "مافي مرمرة" المتّجهة إلى قطاع غزة في مايو/ أيار 2010.
جذور الأزمة
شهدت العلاقات التركية - الإسرائيلية تراجعاً تدريجياً، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدّة الحكم في تركيا عام 2002، وذلك بعد أن كانت تُعدّ علاقةَ تحالفٍ في الماضي. وقد تدهورت العلاقات بصورة كبيرة، بعد اعتداء الجيش الإسرائيلي على أسطول الحرية المتّجه إلى غزة في المياه الدولية في مايو/ أيار 2010، وقتله تسعة من المواطنين الأتراك كانوا على متن سفينة "مافي مرمرة". وبعد هذا الاعتداء، أعلنت تركيا ثلاثة مطالب محدّدة: تقديم اعتذارٍ رسمي، ودفع تعويضاتٍ لعائلات الضحايا الأتراك، وفكّ الحصار عن قطاع غزة. وقد جرت مفاوضات من أجل التوصّل إلى حلٍّ للأزمة، بيد أنّها باءت جميعًا بالفشل، بسبب رفض إسرائيل الاعتذار. وعلى إثر ذلك، أعلنت تركيا في الثاني من سبتمبر/ أيلول 2011 عن جملةٍ من الخطوات العقابية ضدّ إسرائيل، شملت طرد السفير الإسرائيلي من تركيا، وتخفيض التمثيل الدبلوماسي بين الدولتين إلى مستوى سكرتير ثانٍ، وإلغاء جميع الاتفاقات والصفقات العسكرية مع إسرائيل.
وبعد وساطة الإدارة الأميركية وضغطها على الطرفين، استجابت إسرائيل لمطلب تركيا الأول، ففي أثناء زيارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إلى إسرائيل في مارس/ آذار 2013، اتصل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، برئيس الحكومة التركية حينئذٍ، رجب طيب أردوغان، وقدّم له اعتذارًا. وبعد ذلك، استأنفت الدولتان المفاوضات بينهما وتوصلتا، وفق ما كشف عنه يوسف تشاحنوفر المسؤول الإسرائيلي عن المفاوضات مع تركيا، في فبراير/ شباط 2014، إلى مسودة اتفاقٍ شبيهة بالاتفاق الذي جرى التوصّل إليه أخيراً، بيد أنّ نتنياهو آثر عدم التوقيع على الاتفاق حينها، بانتظار ما ستسفر عنه الانتخابات الرئاسية في تركيا في صيف عام 2014.
مضمون الاتفاق
التزمت إسرائيل، وفق اتفاق المصالحة الذي جاء في ستة بنودٍ وملحقيْن، دفع عشرين مليون دولار أميركي إلى عائلات الضحايا الأتراك، بعد شهرٍ من توقيع الاتفاق. أما تركيا فالتزمت إلغاء الملاحقات والدعاوى القضائية ضد المسؤولين وضباط الجيش الإسرائيلي وجنوده الذين اعتدوا على سفينة مرمرة، وسنّ قانونٍ عبر البرلمان التركي بهذا الشأن. واتفقت الدولتان كذلك على تبادل السفراء بينهما، بعد دفع التعويضات، وإعادة العلاقات الدبلوماسية الطبيعية.
لكنّ الاتفاق لم ينجح في فكّ الحصار عن قطاع غزة، كما كانت تطالب تركيا، وإن نجح في تخفيفه، وفتح المجال واسعًا أمام تركيا من أجل تقديم المساعدات وتصدير البضائع إلى غزة عن طريق ميناء أشدود الإسرائيلي. كما سمح الاتفاق لتركيا بتنفيذ مشاريع عديدة في قطاع غزة، والتي، إن جرى التزامها، فإنها تخفّف وطأة الحصار، وتُحسِّن ظروف حياة الفلسطينيين ومستواها في القطاع. وشملت هذه المشاريع بناء محطة لتوليد الكهرباء بالتعاون مع ألمانيا، ومحطة لتحلية مياه البحر، وبناء مستشفى، وترميم البيوت والمساجد المتضررة من العدوان الإسرائيلي على غزة في صيف العام 2014، وإعادة بنائها، وإقامة مشاريع سكنية، وإدخال الأموال إلى غزة بواسطة البنوك العاملة فيها، وإقامة مشاريع اقتصادية تركية عديدة في قطاع غزة والضفة الغربية أيضاً، بما في ذلك إقامة منطقة صناعية في جنين.
أما ملحقا الاتفاق فلم يكونا في الأصل جزءًا من المفاوضات بين الدولتين، وزجّت إسرائيل بهما في الفترة الأخيرة من المفاوضات. وعالج أولهما نشاط حركة حماس في تركيا، فالتزمت تركيا منع حركة حماس من التخطيط أو القيام بأي نشاطٍ عسكري ضد إسرائيل انطلاقًا من الأراضي التركية، في حين تستمر الحركة في ممارسة نشاطها السياسي والدبلوماسي في تركيا. وعالج الملحق الثاني موضوع جثتي جنديين إسرائيليين سقطا في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وبقيتا هناك، وكذلك موضوع مفقودين مدنيين أحدهما يهودي من الفلاشا، والآخر عربي من النقب، دخلا إلى قطاع غزة في ظروف غامضة وأسرتهما "حماس". وقد وعدت تركيا ببذل جهدها لدى الحركة، من أجل إيجاد حلٍ للمسألتين.
وفي ما يخصّ تأثير المصالحة التركية -الإسرائيلية في علاقات حلف شمال الأطلسي (الناتو) مع إسرائيل، فقد اتفقت تركيا وإسرائيل، عشية توقيع اتفاق المصالحة بينهما، على إنهاء معارضة تركيا، العضو في "الناتو" للتعاون بين "الناتو" وإسرائيل. فقد أعلنت تركيا، في أعقاب الاعتداء الإسرائيلي على سفينة "مافي مرمرة"، عن معارضتها أي تعاون بين "الناتو" وإسرائيل. وبالفعل، عرقل هذا "الفيتو" التركي ذلك التعاون في مجالاتٍ عسكرية كثيرة؛ فوفق أنظمة حلف الناتو الداخلية، يحتاج تعاونه مع أي دولة ليست عضواً فيه إلى الحصول على موافقة جميع الدول الأعضاء في الحلف. ونتيجة لذلك، جرى تجميد مشاركة إسرائيل في مناورات عسكرية، وتجميد مشاريع مشتركة عديدة بين إسرائيل و"الناتو".
تأثير الاتفاق في العلاقات الثنائية
شدّدت إسرائيل في مفاوضاتها مع تركيا على مطلبها ألّا يقتصر الاتفاق على إعادة تطبيع العلاقات بينهما على الجوانب الرسمية فحسب، وطالبت أن يقود هذا الاتفاق إلى نقل مجمل العلاقات بين الدولتين نقلةً نوعيةً إلى الأمام في مختلف المجالات. بيد أن ثمة اتفاقاً بين المتابعين للعلاقات الإسرائيلية – التركية أنّها لن تعود إلى ما كانت عليه في العقد الذي سبق وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا؛ إذ ساد، في حينه، تحالفٌ وعلاقات قوية ومميزة بين الدولتين في مجالات واسعة، ولا سيما العسكرية والأمنية، إلى جانب تطوّر العلاقات الاقتصادية والتجارية.
ومن غير المتوقع أن يقود تطبيع العلاقات إلى نشوء علاقات حميمة بين المؤسسة العسكرية الأمنية التركية ونظيرتها الإسرائيلية كما كانت عليه في السابق، فقد شهدت المؤسسة العسكرية والأمنية التركية، في العقد الأخير، تغييرات في قياداتها وفي أولوياتها، وباتت أكثر انسجاماً مع سياسات الحكومة التركية. ومن غير المتوقع أن تشتري تركيا بعض أنواع الأسلحة المتطوّرة من إسرائيل، مثل الطائرات من دون طيار. ولكن، إذا أقدمت على ذلك، فالمرجح أن تشترط عند شراء هذه الأسلحة الحصول على التقنية والمعرفة المرتبطة بتصنيع هذه الطائرات، من أجل تطوير صناعاتها العسكرية، الأمر الذي تتحفّظ عنه إسرائيل؛ ما يضع عراقيل أمام إبرام مثل هذه الصفقات.
بيد أنه من المتوقع أن يعزّز هذا الاتفاق العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدولتين بشكلٍ كبير، فقد شهد عام 2015 تراجعاً في الصادرات الإسرائيلية إلى تركيا، بلغ نحو 40 في المئة مقارنة بعام 2014. ويعود ذلك أساساً إلى منع الحكومة التركية في عام 2015 الشركات الإسرائيلية من المشاركة في المناقصات التي تُنظّمها الحكومة التركية. ففي عام 2015، بلغت صادرات إسرائيل إلى تركيا 1.7 مليار دولار، في حين بلغت 2.8 مليار دولار في 2014، و2.5 مليار دولار في 2013. أما واردات إسرائيل من تركيا فبلغت 2.4 مليار دولار في 2015، و2.7 مليار دولار في 2014، و2.4 مليار دولار في 2013.
وفي ما يخص التعاون بشأن تصدير الغاز الإسرائيلي إلى تركيا، فإنّ إسرائيل تعدّ تركيا سوقًا مهمةً ومغريةً لصادراتها. ففضلاً عن حاجتها إلى الغاز فترة طويلة، هناك إمكانية أن تشكّل تركيا ممرًا لصادرات الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، على الرغم من أنّ تصدير الغاز الإسرائيلي المكتشف في البحر الأبيض المتوسط إلى تركيا يواجه مشكلاتٍ عديدة، أهمها صعوبة الحصول على موافقة قبرص بشأن مرور خط أنابيب الغاز في مياهها الإقليمية، وتحفّظ كل من قبرص واليونان عن أي اتفاقٍ بشأن تصدير الغاز الإسرائيلي إلى تركيا، ومن ثمّ إلى أوروبا، بعد أن كان نتنياهو قد توصّل إلى اتفاقٍ، في بداية العام الجاري، مع قادة قبرص واليونان بشأن تصدير الغاز الإسرائيلي والقبرصي إلى أوروبا عبر اليونان. ففي أعقاب اجتماع نتنياهو بقادة قبرص واليونان في يناير/ كانون ثاني 2016، أكد البيان المشترك الذي صدر عن الاجتماع أنّ إسرائيل وقبرص واليونان تعدّ قطاع الطاقة، ولا سيما الغاز الطبيعي في البحر المتوسط، أنه يشكل قاعدةً صلبةً للعمل المشترك بين الدول الثلاث. وقد اتفقت هذه الدول على تشكيل لجنةٍ مشتركةٍ لفحص الوسائل من أجل تصدير الغاز الإسرائيلي والقبرصي إلى أوروبا، ووضع خط أنابيب لنقل الغاز عن طريق البحر إلى اليونان، ومن ثمّ إلى الدول الأوروبية.
وفضلاً عن ذلك، تعتمد تركيا على روسيا بشكلٍ رئيسٍ في استيراد معظم ما تحتاج إليه من الغاز، فقد تصالحت، أخيراً، مع روسيا، ولم تعد بحاجة ملحة إلى بديل منه. ومن المقرر أيضاً أن يتم الانتهاء من بناء خط أنابيب الغاز من أذربيجان إلى تركيا في نهاية عام 2018، كما تعمل تركيا على تطوير سبل استيراد الغاز من شمال العراق، وزيادة نسبة استيراده من قطر والجزائر وإيران ونيجيريا.
خاتمة
يشكل اتفاق المصالحة بين تركيا وإسرائيل أرضيةً جديدةً للعلاقات بين الدولتين، لكنه لن يعيد العلاقات إلى ما كانت عليه قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا. والمتوقع أن تتحسّن علاقات الدولتين في القضايا المتعلقة بالمصالح المشتركة، وبخاصة العلاقات الاقتصادية والتجارية. أما ما يخص مسألة تصدير الغاز الإسرائيلي من البحر المتوسط إلى تركيا فتواجه معوقاتٍ جدّيةٍ، ترتبط أساساً بمعارضة قبرص هذا المشروع.
ويعتمد تطوّر العلاقات بين تركيا وإسرائيل على رؤيتهما لدورهما ومكانتهما في المنطقة، وعلى جملة من المتغيرات والقضايا الخلافية، مثل استمرار حصار قطاع غزة، وسياسة إسرائيل العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني، ولا سيما ما يتعلق بالأقصى، واستمرار الاستيطان الإسرائيلي، وعلاقات إسرائيل مع الحركة الكردية، سواء في شمال العراق أو في سورية أو في تركيا نفسها، وموقف إسرائيل من المسألة القبرصية، والخلاف حول مستقبل سورية التي تسعى إسرائيل إلى تقسيمها وإضعافها، في حين تعارض تركيا ذلك.
فضلاً عن ذلك، يتضمن اتفاق المصالحة بين تركيا وإسرائيل بين ثناياه تناقضاً مع سياسة إسرائيل تجاه غزة وحركة حماس، وبخاصة منحه تركيا دوراً كبيراً في تعزيز البنية التحتية والاقتصادية في قطاع غزة، ورفع مستوى المعيشة فيه من جهة، بينما تستمر إسرائيل في حصاره من جهة أخرى.
على كل حال، تُثبت الخطوات الأخيرة أنه ثمّة فرق بين تركيا المتخيّلة في أعين كثيرين من مؤيديها بشكل أعمى، ومعارضيها بشكل أعمى أيضاً؛ إذ يُسقطون عليها الخلافات العربية - العربية، ولا سيما التصوّرات الطائفية المتخيّلة. فتركيا الواقعية مختلفة؛ إنها تعمل بموجب الواقعية السياسية، وتوازنات القوى والمصالح الداخلية والاعتبارات الجيوستراتيجية.
جذور الأزمة
شهدت العلاقات التركية - الإسرائيلية تراجعاً تدريجياً، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدّة الحكم في تركيا عام 2002، وذلك بعد أن كانت تُعدّ علاقةَ تحالفٍ في الماضي. وقد تدهورت العلاقات بصورة كبيرة، بعد اعتداء الجيش الإسرائيلي على أسطول الحرية المتّجه إلى غزة في المياه الدولية في مايو/ أيار 2010، وقتله تسعة من المواطنين الأتراك كانوا على متن سفينة "مافي مرمرة". وبعد هذا الاعتداء، أعلنت تركيا ثلاثة مطالب محدّدة: تقديم اعتذارٍ رسمي، ودفع تعويضاتٍ لعائلات الضحايا الأتراك، وفكّ الحصار عن قطاع غزة. وقد جرت مفاوضات من أجل التوصّل إلى حلٍّ للأزمة، بيد أنّها باءت جميعًا بالفشل، بسبب رفض إسرائيل الاعتذار. وعلى إثر ذلك، أعلنت تركيا في الثاني من سبتمبر/ أيلول 2011 عن جملةٍ من الخطوات العقابية ضدّ إسرائيل، شملت طرد السفير الإسرائيلي من تركيا، وتخفيض التمثيل الدبلوماسي بين الدولتين إلى مستوى سكرتير ثانٍ، وإلغاء جميع الاتفاقات والصفقات العسكرية مع إسرائيل.
وبعد وساطة الإدارة الأميركية وضغطها على الطرفين، استجابت إسرائيل لمطلب تركيا الأول، ففي أثناء زيارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إلى إسرائيل في مارس/ آذار 2013، اتصل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، برئيس الحكومة التركية حينئذٍ، رجب طيب أردوغان، وقدّم له اعتذارًا. وبعد ذلك، استأنفت الدولتان المفاوضات بينهما وتوصلتا، وفق ما كشف عنه يوسف تشاحنوفر المسؤول الإسرائيلي عن المفاوضات مع تركيا، في فبراير/ شباط 2014، إلى مسودة اتفاقٍ شبيهة بالاتفاق الذي جرى التوصّل إليه أخيراً، بيد أنّ نتنياهو آثر عدم التوقيع على الاتفاق حينها، بانتظار ما ستسفر عنه الانتخابات الرئاسية في تركيا في صيف عام 2014.
مضمون الاتفاق
التزمت إسرائيل، وفق اتفاق المصالحة الذي جاء في ستة بنودٍ وملحقيْن، دفع عشرين مليون دولار أميركي إلى عائلات الضحايا الأتراك، بعد شهرٍ من توقيع الاتفاق. أما تركيا فالتزمت إلغاء الملاحقات والدعاوى القضائية ضد المسؤولين وضباط الجيش الإسرائيلي وجنوده الذين اعتدوا على سفينة مرمرة، وسنّ قانونٍ عبر البرلمان التركي بهذا الشأن. واتفقت الدولتان كذلك على تبادل السفراء بينهما، بعد دفع التعويضات، وإعادة العلاقات الدبلوماسية الطبيعية.
لكنّ الاتفاق لم ينجح في فكّ الحصار عن قطاع غزة، كما كانت تطالب تركيا، وإن نجح في تخفيفه، وفتح المجال واسعًا أمام تركيا من أجل تقديم المساعدات وتصدير البضائع إلى غزة عن طريق ميناء أشدود الإسرائيلي. كما سمح الاتفاق لتركيا بتنفيذ مشاريع عديدة في قطاع غزة، والتي، إن جرى التزامها، فإنها تخفّف وطأة الحصار، وتُحسِّن ظروف حياة الفلسطينيين ومستواها في القطاع. وشملت هذه المشاريع بناء محطة لتوليد الكهرباء بالتعاون مع ألمانيا، ومحطة لتحلية مياه البحر، وبناء مستشفى، وترميم البيوت والمساجد المتضررة من العدوان الإسرائيلي على غزة في صيف العام 2014، وإعادة بنائها، وإقامة مشاريع سكنية، وإدخال الأموال إلى غزة بواسطة البنوك العاملة فيها، وإقامة مشاريع اقتصادية تركية عديدة في قطاع غزة والضفة الغربية أيضاً، بما في ذلك إقامة منطقة صناعية في جنين.
أما ملحقا الاتفاق فلم يكونا في الأصل جزءًا من المفاوضات بين الدولتين، وزجّت إسرائيل بهما في الفترة الأخيرة من المفاوضات. وعالج أولهما نشاط حركة حماس في تركيا، فالتزمت تركيا منع حركة حماس من التخطيط أو القيام بأي نشاطٍ عسكري ضد إسرائيل انطلاقًا من الأراضي التركية، في حين تستمر الحركة في ممارسة نشاطها السياسي والدبلوماسي في تركيا. وعالج الملحق الثاني موضوع جثتي جنديين إسرائيليين سقطا في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وبقيتا هناك، وكذلك موضوع مفقودين مدنيين أحدهما يهودي من الفلاشا، والآخر عربي من النقب، دخلا إلى قطاع غزة في ظروف غامضة وأسرتهما "حماس". وقد وعدت تركيا ببذل جهدها لدى الحركة، من أجل إيجاد حلٍ للمسألتين.
وفي ما يخصّ تأثير المصالحة التركية -الإسرائيلية في علاقات حلف شمال الأطلسي (الناتو) مع إسرائيل، فقد اتفقت تركيا وإسرائيل، عشية توقيع اتفاق المصالحة بينهما، على إنهاء معارضة تركيا، العضو في "الناتو" للتعاون بين "الناتو" وإسرائيل. فقد أعلنت تركيا، في أعقاب الاعتداء الإسرائيلي على سفينة "مافي مرمرة"، عن معارضتها أي تعاون بين "الناتو" وإسرائيل. وبالفعل، عرقل هذا "الفيتو" التركي ذلك التعاون في مجالاتٍ عسكرية كثيرة؛ فوفق أنظمة حلف الناتو الداخلية، يحتاج تعاونه مع أي دولة ليست عضواً فيه إلى الحصول على موافقة جميع الدول الأعضاء في الحلف. ونتيجة لذلك، جرى تجميد مشاركة إسرائيل في مناورات عسكرية، وتجميد مشاريع مشتركة عديدة بين إسرائيل و"الناتو".
تأثير الاتفاق في العلاقات الثنائية
شدّدت إسرائيل في مفاوضاتها مع تركيا على مطلبها ألّا يقتصر الاتفاق على إعادة تطبيع العلاقات بينهما على الجوانب الرسمية فحسب، وطالبت أن يقود هذا الاتفاق إلى نقل مجمل العلاقات بين الدولتين نقلةً نوعيةً إلى الأمام في مختلف المجالات. بيد أن ثمة اتفاقاً بين المتابعين للعلاقات الإسرائيلية – التركية أنّها لن تعود إلى ما كانت عليه في العقد الذي سبق وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا؛ إذ ساد، في حينه، تحالفٌ وعلاقات قوية ومميزة بين الدولتين في مجالات واسعة، ولا سيما العسكرية والأمنية، إلى جانب تطوّر العلاقات الاقتصادية والتجارية.
ومن غير المتوقع أن يقود تطبيع العلاقات إلى نشوء علاقات حميمة بين المؤسسة العسكرية الأمنية التركية ونظيرتها الإسرائيلية كما كانت عليه في السابق، فقد شهدت المؤسسة العسكرية والأمنية التركية، في العقد الأخير، تغييرات في قياداتها وفي أولوياتها، وباتت أكثر انسجاماً مع سياسات الحكومة التركية. ومن غير المتوقع أن تشتري تركيا بعض أنواع الأسلحة المتطوّرة من إسرائيل، مثل الطائرات من دون طيار. ولكن، إذا أقدمت على ذلك، فالمرجح أن تشترط عند شراء هذه الأسلحة الحصول على التقنية والمعرفة المرتبطة بتصنيع هذه الطائرات، من أجل تطوير صناعاتها العسكرية، الأمر الذي تتحفّظ عنه إسرائيل؛ ما يضع عراقيل أمام إبرام مثل هذه الصفقات.
بيد أنه من المتوقع أن يعزّز هذا الاتفاق العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدولتين بشكلٍ كبير، فقد شهد عام 2015 تراجعاً في الصادرات الإسرائيلية إلى تركيا، بلغ نحو 40 في المئة مقارنة بعام 2014. ويعود ذلك أساساً إلى منع الحكومة التركية في عام 2015 الشركات الإسرائيلية من المشاركة في المناقصات التي تُنظّمها الحكومة التركية. ففي عام 2015، بلغت صادرات إسرائيل إلى تركيا 1.7 مليار دولار، في حين بلغت 2.8 مليار دولار في 2014، و2.5 مليار دولار في 2013. أما واردات إسرائيل من تركيا فبلغت 2.4 مليار دولار في 2015، و2.7 مليار دولار في 2014، و2.4 مليار دولار في 2013.
وفي ما يخص التعاون بشأن تصدير الغاز الإسرائيلي إلى تركيا، فإنّ إسرائيل تعدّ تركيا سوقًا مهمةً ومغريةً لصادراتها. ففضلاً عن حاجتها إلى الغاز فترة طويلة، هناك إمكانية أن تشكّل تركيا ممرًا لصادرات الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، على الرغم من أنّ تصدير الغاز الإسرائيلي المكتشف في البحر الأبيض المتوسط إلى تركيا يواجه مشكلاتٍ عديدة، أهمها صعوبة الحصول على موافقة قبرص بشأن مرور خط أنابيب الغاز في مياهها الإقليمية، وتحفّظ كل من قبرص واليونان عن أي اتفاقٍ بشأن تصدير الغاز الإسرائيلي إلى تركيا، ومن ثمّ إلى أوروبا، بعد أن كان نتنياهو قد توصّل إلى اتفاقٍ، في بداية العام الجاري، مع قادة قبرص واليونان بشأن تصدير الغاز الإسرائيلي والقبرصي إلى أوروبا عبر اليونان. ففي أعقاب اجتماع نتنياهو بقادة قبرص واليونان في يناير/ كانون ثاني 2016، أكد البيان المشترك الذي صدر عن الاجتماع أنّ إسرائيل وقبرص واليونان تعدّ قطاع الطاقة، ولا سيما الغاز الطبيعي في البحر المتوسط، أنه يشكل قاعدةً صلبةً للعمل المشترك بين الدول الثلاث. وقد اتفقت هذه الدول على تشكيل لجنةٍ مشتركةٍ لفحص الوسائل من أجل تصدير الغاز الإسرائيلي والقبرصي إلى أوروبا، ووضع خط أنابيب لنقل الغاز عن طريق البحر إلى اليونان، ومن ثمّ إلى الدول الأوروبية.
وفضلاً عن ذلك، تعتمد تركيا على روسيا بشكلٍ رئيسٍ في استيراد معظم ما تحتاج إليه من الغاز، فقد تصالحت، أخيراً، مع روسيا، ولم تعد بحاجة ملحة إلى بديل منه. ومن المقرر أيضاً أن يتم الانتهاء من بناء خط أنابيب الغاز من أذربيجان إلى تركيا في نهاية عام 2018، كما تعمل تركيا على تطوير سبل استيراد الغاز من شمال العراق، وزيادة نسبة استيراده من قطر والجزائر وإيران ونيجيريا.
خاتمة
يشكل اتفاق المصالحة بين تركيا وإسرائيل أرضيةً جديدةً للعلاقات بين الدولتين، لكنه لن يعيد العلاقات إلى ما كانت عليه قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا. والمتوقع أن تتحسّن علاقات الدولتين في القضايا المتعلقة بالمصالح المشتركة، وبخاصة العلاقات الاقتصادية والتجارية. أما ما يخص مسألة تصدير الغاز الإسرائيلي من البحر المتوسط إلى تركيا فتواجه معوقاتٍ جدّيةٍ، ترتبط أساساً بمعارضة قبرص هذا المشروع.
ويعتمد تطوّر العلاقات بين تركيا وإسرائيل على رؤيتهما لدورهما ومكانتهما في المنطقة، وعلى جملة من المتغيرات والقضايا الخلافية، مثل استمرار حصار قطاع غزة، وسياسة إسرائيل العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني، ولا سيما ما يتعلق بالأقصى، واستمرار الاستيطان الإسرائيلي، وعلاقات إسرائيل مع الحركة الكردية، سواء في شمال العراق أو في سورية أو في تركيا نفسها، وموقف إسرائيل من المسألة القبرصية، والخلاف حول مستقبل سورية التي تسعى إسرائيل إلى تقسيمها وإضعافها، في حين تعارض تركيا ذلك.
فضلاً عن ذلك، يتضمن اتفاق المصالحة بين تركيا وإسرائيل بين ثناياه تناقضاً مع سياسة إسرائيل تجاه غزة وحركة حماس، وبخاصة منحه تركيا دوراً كبيراً في تعزيز البنية التحتية والاقتصادية في قطاع غزة، ورفع مستوى المعيشة فيه من جهة، بينما تستمر إسرائيل في حصاره من جهة أخرى.
على كل حال، تُثبت الخطوات الأخيرة أنه ثمّة فرق بين تركيا المتخيّلة في أعين كثيرين من مؤيديها بشكل أعمى، ومعارضيها بشكل أعمى أيضاً؛ إذ يُسقطون عليها الخلافات العربية - العربية، ولا سيما التصوّرات الطائفية المتخيّلة. فتركيا الواقعية مختلفة؛ إنها تعمل بموجب الواقعية السياسية، وتوازنات القوى والمصالح الداخلية والاعتبارات الجيوستراتيجية.