اتفاقيات التهدئة وكوابح التصعيد

29 ديسمبر 2018
مسؤول ملف فلسطين بالمخابرات المصرية يلتقي هنية (الأناضول)
+ الخط -
ارتبطت مباحثات التهدئة وإعلان هدنة أو وقف لإطلاق النار عام 2018، بجولات المواجهة المسلحة المحدودة زماناً ومكاناً، وهي وإن كانت محدودة إلا أنها تقاربت زمنياً وعكست صورة للأوضاع السائدة في قطاع غزة، وما يمكن للأحداث أن تتطور إلى حرب شاملة يبدو أن القيادة السياسية الإسرائيلية تجنبتها ولم تتحمس لها، وكذلك فصائل المقاومة هي الأخرى لم ترغب في دحرجة الأمور وصولاً إلى حالة الحرب.

وجاءت جولات المواجهة كنتيجة متوقعة لمسيرات العودة وكسر الحصار، التي أعلنتها الهيئة الوطنية العليا ابتداءً من 30 آذار/ مارس 2018 امتداداً إلى كل يوم جمعة أسبوعياً، وهي جاءت كشكل من إبداعات المقاومة بعدما تم إغلاق كافة الأبواب وسدّ كل الآفاق أمام سكان قطاع غزة بفعل الحصار الذي تعاظم في السنوات الأخيرة، المهم في ذلك أنّ الحصار المركب الذي شاركت فيه بشكل مباشر إسرائيل والسلطة الفلسطينية والنظام المصري، يأتي كمتطلب أساسي لتطبيق صفقة القرن، حيث كانت أحد البنود الأساسية للصفقة عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، ولن تتم عودة السلطة دون إنهاء سلاح المقاومة وتفكيك البنية التحتية العسكرية، واستثناء كافة الهياكل والطواقم البشرية التي أدارت غزة منذ عام 2007، وهو ما تمثل في إصرار السلطة الفلسطينية على ما يسمى "التمكين الكامل" "بسلطة وقانون وسلاح واحد"، وحتى يتم ذلك فرضت السلطة الفلسطينية إجراءات عقابية تصاعدية في آذار/ مارس 2017 تحت شعار "عودة الشرعية" إلى قطاع غزة، ومع بداية العام كان قطاع غزة على وشك الانهيار الاقتصادي بفعل البطالة المتفشية ونسب الفقر المرتفعة، وكان يُراد لقطاع غزة أن يموت ببطء لتمرير مخطط صفقة القرن.

فما كان من فصائل المقاومة بقواها الشعبية والجماهيرية، إلا النزول في مسيرات العودة على حدود القطاع الشرقية للاحتجاج بطريقة سلمية، تعبيراً عن الرفض ولفت انتباه العالم للحصار الخانق، والضغط على الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية بأدوات سلمية، وهذا الخيار الشعبي شكل بديلاً ولو مرحلياً لدى فصائل المقاومة عن المواجهة المسلحة مع الاحتلال في مرحلة سياسية، وفي ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية غير مواتية مع اشتداد وطأة الحصار.

وكما هو متوقع، لم تتحمل القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية مسيرات العودة، ولم يكن بمقدورها تبرير روايتها أمام التغطية الإعلامية الدولية المتعاطفة، وتصاعد ضغط مسيرات العودة مع ابتكارات "الطائرات الورقية والبلالين الحارقة"، وعمليات تسلل المتظاهرين للمواقع العسكرية على السلك الحدودي، التي لم يكن سكان المستوطنات المحيطة بقطاع غزة على استعداد لتحملها عوضاً عن التعايش معها، لذلك لجأ جيش الاحتلال بتوجيه من القيادة السياسية لتصعيد القوة النارية ضد المتظاهرين ورفع الكلفة الدموية، وهو ما بلغ ذروته في احتجاجات يوم الاحتفال بنقل السفارة الأميركية إلى القدس في 14 أيار/ مايو، فقد سقط أكثر من 60 شهيداً، ثم تصاعدت وتيرة الاعتداءات باستهداف مراصد المقاومة والقصف المدفعي وسقوط مزيد من الشهداء، في معادلة جديدة يُراد فرضها على فصائل المقاومة، ولم يكن أمام الفصائل سوى القبول بالمعادلة الجديدة أو الرد، بما يحمل ذلك من تداعيات واحتمالية دحرجة الأحداث وصولاً إلى حرب واسعة لا ترغب بها.

فكانت الجولة الأولى في 28 أيار/ مايو، بعد استهداف مرصد للمقاومة على الحدود واستشهاد ثلاثة مقاومين، فقامت فصائل المقاومة برد محدد، مستهدفةً بعض المستوطنات المحيطة بغزة، وهو ما فاجأ الاحتلال على أساس أن الفصائل لا ترغب في التصعيد وتتجنب الحرب، وبعد وساطة مصرية تم التوصل لاتفاق تهدئة في 30 أيار/ مايو، وتكررت جولات التصعيد أربع مرات أخرى، جولتان في تموز/ يوليو، وجولة في آب/ أغسطس، والجولة الأخيرة في 11-13 تشرين الثاني/ نوفمبر بعد انكشاف أمر وحدة استخبارية خاصة، كانت تنشط في عمق القطاع واستشهاد ستة فلسطينيين ومقتل ضابط إسرائيلي.

كان من الواضح عدم رغبة "القيادة العسكرية" الإسرائيلية، وبالضرورة القيادة السياسية في التصعيد، وتجنب الحرب قدر الإمكان، وهو ما أكده استنفار الوسيط المصري ممثلاً بجهاز المخابرات بطلب وإلحاح إسرائيلي لإقناع فصائل المقاومة بالتهدئة، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب:
  • غياب أي هدف واضح لأي عملية عسكرية؛ تعزيز ما تسمى "قدرة الردع"، أو تدمير فصائل المقاومة أو احتلال قطاع غزة، عوضاً عن صعوبة تقدير تطور الأحداث، فمن السهل الخروج في عملية عسكرية، ولكن من الصعب معرفة مآلاتها، وعلى جميع الأحوال، وبما أن خيار احتلال قطاع غزة غير ممكن، فإن العودة إلى نقطة البداية هو النتيجة الأكثر ترجيحاً.
  • انشغال إسرائيل بأولويات أمنية وعسكرية أكثر إلحاحاً، سواءٌ ما يتعلق بجبهة الشمال بشقّها اللبناني وحزب الله، أو السوري، أو خطر ترسيخ الوجود الإيراني لوجوده في سورية.
  • إمكانية انفجار الأوضاع المتوترة في الضفة الغربية، وإضافة جبهة جديدة يصعب التنبؤ بنهاياتها.
  • الأهم من ذلك، يأتي من التقدير الأمني والعسكري الإسرائيلي لقدرات فصائل المقاومة وخاصة الصاروخية منها، وقدرتها على التسبب بأضرار كبيرة للبنية التحتية، وآثار نفسية عميقة على المجتمع الإسرائيلي في أي حرب مقبلة، وإمكانية الانجرار إلى رد عسكري عنيف قد يتسبب باستشهاد الآلاف، وهو ما لا يمكن تصور تبعاته الإقليمية والدولية.
أما فصائل المقاومة، فهي الأخرى غير متحمسة لحرب جديدة، واجتهدت قدر الإمكان لعدم وقوعها أو على الأقل تأجيلها إلى أطول فترة ممكنة، ولكنها تتوقعها وتستعدّ لها، للأسباب التالية:
  • حالة الإنهاك في القطاع بعد سنوات الحصار الطويلة، وعدم إكمال إعمار ما دمرته حرب عام 2014.
  • تشكيل غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة، وهو ما أوجد حالة انسجام وتوافق نادرة بين الفصائل، وألغى القرارات المنفردة وتعدد الاجتهادات في الردود العسكرية، وهو ما ابتليت به الحركة الوطنية منذ تأسيسها، تعاطي غرفة العمليات المشتركة مع التصعيد الإسرائيلي بروح جماعية مسؤولة ومنضبطة، ساهم بشكل كبير في الحيلولة دون المواجهة الشاملة، وأرسل إشارة إلى الكيان الصهيوني والعالم، بأن هناك مقاومة مسؤولة وعقلانية يمكن التعامل معها بجدّية.
  •  إدراك فصائل المقاومة للبيئة الإقليمية المعادية، ورغبة النظام العربي الرسمي في التخلص من المقاومة لتعبيد الطريق أمام صفقة القرن، بمعنى أن قطاع غزة سيبقى وحيداً في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية، باستثناء بعض التعاطف الجماهيري.


وعندما أدركت القيادة السياسية الإسرائيلية بعد جولة التصعيد الرابعة، واستمرار مسيرات العودة، والفزع الذي أحدثته البلالين الحارقة أن الحرب واقعة لا محالة، توصلت إلى اتفاق مع حركة حماس للتخفيف من وطأة الحصار، من خلال السماح بتمويل قطري مالي لمدة ستة أشهر لمحطة توليد الكهرباء في غزة، ورواتب الموظفين المدنيين التي عينتهم حماس بعد عام 2007، وإعانات للأسر الفقيرة، وتمويل برامج مكافحة البطالة.

ولكن نجاح جهود التهدئة على مدار عام 2018 لا يعني أن الأمر كذلك عام 2019، لأن المنطق والتفكير بعقلانية ليس هو كل الصورة، فهناك اعتبارات أخرى لا دخل لها في الحسابات والتقديرات المصلحية التي يمكن البناء عليها والتعميم وفقاً لها، وهذا ما ينطبق على الأحداث الميدانية التي يصعب التكهن بها، ومن الممكن لأي حدث عرضي أن يفجر الأحداث دون أي تخطيط مسبق.

ومن ناحية أخرى، فإن الحسابات الإسرائيلية ورغم نفوذ المؤسسة العسكرية والأمنية في طرح وجهة نظرها وفي أحيان فرضها، لا تخضع دائماً للمنطق المتعارف عليه، فهناك الاعتبارات الداخلية السياسية وتماسك الائتلاف الحاكم، ومكانة الحزب ورئيسه وشعبيته، وتعاطي الإعلام وهو مؤثر، ولا تغيب أجواء التنافس الحزبي والمزايدات بين اليمين الصهيوني واليمين الصهيوني الأشد تطرفاً، الذي قد يدفع بمغامرات أو ردود فعل تؤدي إلى دحرجة الأحداث الميدانية وصولاً إلى حرب مفتوحة.

ومن ثم، فإن ساحة الأحداث في قطاع غزة خاضعة لكل التكهنات، ومرشحة لكافة السيناريوهات، بمعنى أن جولات التصعيد قد تتكرر ومعها توافقات للتهدئة أخرى، ولكن بشكلٍ عام وبدراسة معمقة فإن تدهور الأحداث عام 2019 أو 2020 حتى حرب جديدة واسعة في القطاع مسألة وقت، ما لم يحدث مفاجآت، أو تغير جوهري في أوضاع الإقليم المساند للكيان والمعادي للمقاومة الفلسطينية.
المساهمون