ابن بطوطة.. إلى غزة والقدس متوجها إلى الهند والصين

09 مايو 2020
تقلد ابن بطوطة القضاء في دلهي(ويكيبيديا)
+ الخط -

تمثل رحلة محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة، التي أملاها على كاتبه ابن جزي الكلبي وتحمل عنوان "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" قمة الأدب الرحلي العربي، لاعتبارات كثيرة، أهمها المساحة الجغرافية التي شملتها هذه الرحلة، والمدة الزمنية التي استغرقتها.

فهي تمتد من المغرب العربي مرورا بمصر ثم فلسطين وبلاد الشام وبلاد الحجاز والخليج العربي فالعراق وإيران وجواراتها والهند وصولا إلى الصين، وقد استغرقت حوالي ربع قرن أو يزيد ذهابا وإيابا، وأرخت لبعض الأحداث التي عرفتها هذه المناطق الشاسعة، مع مارافق ذلك من مبالغات، لا ندري هل هي واردة فعلا على لسان ابن بطوطة، أم هي من تزيّد كاتب سيرته/ رحلته التي أملاها عليه ابن بطوطة، وانتهى من كتابتها عام 756 هـ.

ولكن في كل الأحوال، والشرح هنا يطول، تجتمع في هذه الرحلة، الوقائع بالمتخيل عنها، والحقيقة بالرواية المتواترة، والعيني بالسماعي.

غير أن الثابت أن ابن بطوطة كان يستحضر مخاطبا ضمنيا، وآخرين مفترضين، والمخاطب الضمني هنا هو السلطان أبو عنان المريني، أقوى سلاطين الدولة المرينية التي حكمت المغرب في العصر الوسيط، الذي أمره بكتابة رحلته، وأملاها على ابن الجزي الكلبي.

تعتبر رحلة ابن بطوطة، زبدة أدب الرحلة العربية، فإليها يعود كل الدارسين العرب والغربيين، عند الحديث على هذا الفن الذي ازدهر في الثقافة العربية، وربما شكل مصدرا تاريخيا مهما، إلى جانب رحلات الجغرافيين العرب الأوائل، مثل رحلة ابن جبير.

لم تنج رحلة ابن بطوطة من التشكيك في مصداقية راويها، فكثير من الباحثين ينكر عليها أن يكون صاحبها قد زار كل تلك البلدان التي ذكرها في رحلته، أو تعرف إليها بشكل مباشر، زيادة على حقيقة وصوله إلى تلك الأماكن القصية من شرق آسيا ومن الصين. ويرى هؤلاء أن الرجل ربما سجل في رحلته بعد روايات رفاق أسفاره في القوافل التي سار فيها بعد أن أنهى حجه، وتوجه إلى شرق آسيا.

لقد استغرقت رحلة ابن بطوطة الأولى والثانية إلى المشرق العربي والشرق الأقصى حوالي 27 سنة، وهو في هذا لم يكن يقوم بمهمة الرحالة المحترف، كما هو الحال بالنسبة للرحالة الأوروبيين، بل أن مهمته لم تكن واضحة في رأسه، ولم ترسله دولة أو نظام سياسي، ولم يكن يقوم بدور المخبر والجاسوس، ولا كان يرتجي عائدا ما، بل كانت رحلته أقرب إلى السياحة الروحية والسفر الصوفي. وفي الأثناء، تقلد مهام كثيرة بالصدفة، من القضاء إلى التجارة إلى الإفتاء في أمور الدين.

وهو في كل هذه المدة، التي قضاها مغتربا عن بلده المغرب، ومدينته طنجة، لم يستند إلا إلى ذاكرته في سرد مجريات رحلاته، ولا نعلم في حقيقة الأمر مدى دقة ما أورده من وقائع وحكايات، ولربما يكون كاتب رحلته ابن الجزي الكلبي، قد عاد إلى مصادر تاريخية ورحلات سابقة لتدقيق بعض الأحداث أو لإضافة أحداث أخرى، تتطابق كليا أو جزئيا مع ما يشكل المسار الجغرافي والتاريخي لرحلة ابن بطوطة.

إنها رحلة مختصرة ومنتقاة بعناية، ولو كان ابن بطوطة يكتب ويدون بشكل مهني يومياته، لربما كنا أمام آلاف الصفحات، ومئات الرسوم والخرائط، وعدد لا يستهان به من معجم الحيوان والنبات والطب والعادات والتقاليد والعبادات، وإن كان ابن بطوطة يأتي على ذكر بعضها في رحلته، مما يمكّن على وجه التقريب من رسم خارطة بشرية وطبيعية وسياسية لتلك المنطقة الشاسعة من هذا الشرق، الذي جال فيه الرجل، وعاد ناجيا إلى وطنه من براريه وبحاره ومكائد قصوره، فلقد كان الرجل ضيفا مبجلا على الملوك والأمراء والسلطانات والملكات، وكان مستمتعا بالحياة وملذاتها، ولم يكن الفقيه المنعزل الآوي إلى جبل، تزوج أكثر من مرة واتخذ له الجواري وتملك الخدم والحشم، وحاول على قدر ما مكنته الظروف أن يشرح للناس "إسلامه" المعتدل المنفتح، وحين لا يجد الآذان الصاغية، كان يمضي في طريقه دون أن يلتفت إلى الخلف.

نقتطف من هذه الملحمة الرحلية، ما يتعلق بوصول ابن بطوطة إلى غزة، ومنها إلى القدس، لأهميتها التوثيقية، ولمكانة القدس وفلسطين في الوجدان العربي والمغاربي على وجه الخصوص، حيث كان الحجاج المغاربة "يقدسون" في القدس، وهم في طريقهم إلى الحج.

لقد كان المسجد الأقصى، كما دائما بالنسبة للمغاربة، مكانا مقدسا، زيارته واجبة على كل حاج، قبل أن يصل إلى بيت الله الحرام.


في غزة

يروي ابن بطوطة عن وصوله إلى مدينة غزة قادما إليها من مصر، يقول "حتى وصلْنا إلى مدينة غزة، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر، متسعة الأقطار كثيرة العمارة حسنة الأسواق بها المساجد العديدة والأسوار عليها، وكان بها مسجد جامع حسن، والمسجد الذي تقام الآن به الجمعة، فيها بناء الأمير المعظم الجاولي، وهو أنيق البناء محكم الصنعة ومنبره من الرخام الأبيض، وقاضي غزة بدر الدين السلختي الحوراني، ومَدِرّسها علم الدين بن سالم، وبنو سالم كبراء هذه المدينة، ومنهم شمس الدين قاضي القدس.

ثم سافرت من غزة إلى مدينة الخليل صلى الله على نبينا وعليه وسلَّم تسليما، وهي مدينة صغيرة الساحة كبيرة المقدار مشرِقة الأنوار حسنة المنظر عجيبة المخبر في بطنٍ واد، ومسجدها أنيق الصنعة محكم العمل بديع الحسن سامي الارتفاع مبني بالصخر المنحوت، في أحد أركانه صخرة أحد أقطارها سبعة وثلاثون شبرًا.

ويقال: إن سليمان أمر الجن ببنائه، وفي داخل المسجد الغار المكرم المقدس، فيه قبر إبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب صلوات الله على نبينا وعليهم، ويقابلها قبور ثلاثة هي قبور زوجاتهم، وعن يمين المنبر يلصق جدار القبلة موضع يُهبط منه على دَرج رخام محكمة العمل إلى مسلك ضيق يفضي إلى ساحة مفروشة بالرخام فيها صور القبور الثلاثة، ويقال إنها محاذية لها، وكان هنالك مسلك إلى الغار المبارك وهو الآن مسدود".


أرض الأنبياء

وقد نزلْت بهذا الموضع مرات، ومما ذكره لأهل العلم دليلا على صحة كون القبور الثلاثة الشريفة هنالك ما نَقَلته من كتاب علي بن جعفر الرازي الذي سماه المسفر للقلوب عن صحة قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أسند فيه إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أسري بي إلى القدس، مر بي جبريل على قبر إبراهيم فقال: انزل فصل ركعتين، فإن هنا قبر أبيك إبراهيم، ثمَ مر بي على بيت لحم وقال: انزل فصلّ ركعتين، فإن هنا ولَِد أخوك عيسى عليه السلام، ثم أتى بي إلى الصخرة، وذكر بقية الحديث.

ولما لقيت بهذه المدينة المقدسة المدرس الصالح المعمر الإمام الخطيب برهان الدين الجعبري، أحد الصلحاء المرضيين والأئمة المشهرين، سألته عن صحة كون قَبر الخليل عليه السلام هنالك، فقال لي: كل من لقيته من أهل العلم يُصححون أن هذه القبور قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب، على نبينا وعليهم السلام، وإسحاق ويعقوب — على نبينا وعليهم السلام — وقبور زوجاتهم، ولا يَطعن في ذلك إلا أهل البدع، وهو نقل الخلف عن السلف لا يشك فيه.


قبر النبي إبراهيم

ويذكر أن بعض الأئمة د خل إلى هذا الغار ووقَف عند قبر سارة، فدخل شيخ فقالَ له: أي هذه القبور هو قبر إبراهيم؟ فأشار له إلى قبره المعروف، ثم دخل شاب فسأله كذلك، فأشار له إليه، ثم دخل صبي فسأله أيضا، فأشار له إليه، فقال الفقيه: أشهد أن هذا قبر إبراهيم عليه السلام لا شك، ثم دخل إلى المسجد فصلى به وارتحل من الغد، وبداخل هذا المسجد أيضا قبر يوسف عليه السلام، وبشرقي حرم الخليل تربة لوط عليه السلام، وهي على تل مرتفع يشرف منه غور الشام وعلى قبره أبنية حسنة، وهو في بيت منها حسن البناء مبيض ولا ستور عليه.

وهنالك بحيرة لوط وهي أجاج يقال إنها موضع ديار قوم لوط، وبمقربة من تربة لوط مسجد اليقين، وهو على تل مرتفع له نور وإشراق ليس لسواه، ولا يجاوره إلا دار واحدة يسكنها قيمه، وفي المسجد بمقربة من بابه موضع منخفض في حجر صلد، قد هيِّئت فيه صورة محراب لا يَسع إلا مصليًا واحدا.

ويقال: إن إبراهيم سجَد في ذلك الموضع شكرا لله تعالى عند هلاك قوم لوط، فتحرك موضع سجوده وساخ في الأرض قليلا، وبالقرب من هذا المسجد مغارة فيها قبر فاطمة بنت الحسين بن علي عليهما السلام، وبأعلى القبر وأسفله لوحان من الرخام في أحدهما مكتوب منقوش بخط بديع: بسم الله الرحمن الرحيم، لله العزة والبقاء، وله ما ذرأ وبرأ، وعلى خلْقه الفناء، وفي رسول الله أسوة، هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسين رضي الله عنه، وفي اللوح الآخر منقوش: صنعه محمد بن أبي سهل النقاش بمصر.


في القدس
ثم سافرت من هذه المدينة إلى القدس، فزرت في طريقي إليه تربة يونس عليه السلام، وبه أثر جذْع النخلة، وعليه عمارة كثيرة، والنصارى يعظمونه أَشَّد التعظيم ويضيفون من نزل به، ثم وصلْنا إلى بيت المقدس شرفه الله، ثالث المسجدين الشريفين في رتبة الفضل، ومصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما، ومعرجه إلى السماء، والبلدة كبيرة منيفة
مبنية بالصخر المنحوت، وكان الملك الصالح الفاضل صلاح الدين بن أيوب — جزاه الله خيرا، لما فتح هذه المدينة، هدم بعض سورها، ثم استنقض الملك الظاهر هدمه خوفا أن يقصدها الروم فيتمنعوا بها، ولم يكن بهذه المدينة نهر فيما تَقَدم، وجلب لها الماء ىفي هذا العهد الأمير سيف الدين تنكيز أمير دمشق.


ذكر المسجد الأقصى

وهو من المساجد العجيبة الرائقة فائقة الحسن، يقال: إنه ليس على و ْجه الأرض مسجد أكبر منه، وأن طوله من شرق إلى غرب سبعمائة وثنتان وخمسون ذراعا بالذراع المالكية، وعرضه من القبلة إلى الجوف أربعمائة ذراع وخمس وثلاثون ذراعا، وله أبواب كثيرة في جهاته الثلاث، وأما الجهة القبلية منه فلا أعلم بها إلا بابا واحدا وهو الذي يَدخل منه الإمام، والمسجد كله فضاء غير مسقَّف إلا المسجد الأقصى، فهو مسقف في النهاية من إحكام العمل وإتقان الصنعة، مَمَّوه بالذهب والأصبغة الرائقة، وفي المسجد مواضع سواه مسقَّفة.


ذكر قبة الصخرة

وهي من أعجب المباني وأتقنها، واغربها شكلا، قد توفر حظها من المحاسن، وأخذت من كل بديعة بطرف، وهي قائمة على نشز في وسط المسجد، يُصَعد إليها في دَرج رخام، ولها أربعة أبواب، والدائر بها مفروش بالرخام أيضا محكم الصنعة وكذلك داخلها، وفي ظاهرها وباطنها من أنواع الزواقة ورائق الصنعة ما يُعجز الواصف، وأكثر ذلك مغشى بالذهب، فهي تتلألأ نورا وتلمع لمعان البرق، يَحار بصر متأملها في محاسنها، ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها.

وفي وسِط القبة الصخرةُ الكريمةُ التي جاء ذكرها في الآثار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرج منها إلى السماء، وهي صخرة صماء، ارتفاعها نحو قامة، وتحتها مغارة في مقدار بيت صغير، ارتفاعها نحو قامة أيضا، يُنْزل إليها على دَرج، وهنالك شكل محراب، وعلى الصخرة شباكان اثنان محكما العمل يُغلق عليهما أحدهما، وهو الذي يلي الصخرة من حديد بديع الصنعة، والثاني من خشب، وفي القبة درقة كبيرة من حديد معلقة هنالك، والناس يزعمون أنها درقة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.


ذكر بعض المشاهد المباركة بالقدس الشريف

فمنها بعدوة الوادي المعروف بوادي جهنم في شرقي البلد على تل مرتفع هنالك بنْية يقال إنها مصعد عيسى عليه السلام إلى السماء، ومنها أيضا قبر رابعة البدوية منسوبة إلى البادية، وهي خلاف رابعة العدوية الشهيرة.

وفي بطن الوادي المذكور كنيسة يعظمها النصارى ويقولون: إن قبر مريم عليها السلام بها، وهنالك أيضا كنيسة أخرى معظَمة يحجها النصارى، وهي التي يَكِذبُون عليها ويعتقدون أن قبر عيسى عليه السلام بها، وعلى كل من يحجها ضريبة معلومة للمسلمين، وضروب من الإهانة يتحملها على رغم أنفه، وهناك وهنالك موضع مهد عيسى عليه السلام يُتَبرك به.

دلالات
المساهمون