ابنتي العزيزة.. أحبّي كاتباً

16 يونيو 2014
الروائي جوزيه ساراماغو وزوجته بيلار دل ريو
+ الخط -

لو حصل ورزقني الله طفلاً ذكراً، وأتاني في يوم من الأيّام ليجيب بكل براءة على سؤال: ما الذي تريد أن تصيره عندما تكبر يا صغيري؟ لو أجاب هذا الطفل الملعون قائلاً: أريد أن أصير كاتباً يا بابا، فإنّني أجزم أن قوات مكافحة الشغب لن تستطيع أن تخلّصه من بين يدي.

فأنّ تكون كاتباً يعني أن تعيش على أقل من الكفاف، أن تختار ما اختاره بوكوفسكي: "لدي أحد خيارين: إمّا أن أبقى في مكتب البريد وأصاب بالجنون، وإمّا أن أستمر بالكتابة وأموت جوعاً، وقد قرّرت أن أموت جوعاً". وفي عصرنا الزاهي هذا، سينال الابن الأمرين سويّاً: الجنون والجوع. أليس هذا ما حدث مع الشاعر المصري نجيب سرور؟

لكن، ورغم أن الاشتغال بالثقافة لا يطعم خبزاً، وقد لا يقود إلّا إلى الزنازين أو الشوارع أو المصحّات العقلية، كما يخبرنا الماغوط، أو الطريق الأسهل: التكسّب في بلاط الملوك وذوي السلطان، فإن في الكتابة أمراً يغيب عن بال معظم المشتغلين بالشأن الثقافي، وهو أن الكتّاب عشّاق رائعون وتاريخيّون. ولذلك نصيحتي الوحيدة لابنتي التي لم أتعرّف إلى أمّها إلى الآن هي: ابنتي العزيزة، أحبّي كاتباً.

دعوني أخبركم القصة منذ بدايتها، وأشرح لكم الأسباب التي تدفعني إلى نصيحة ابنتي بالزواج من كاتب سيعود لها قبيل شروق الشمس مترنّحاً، أو سيقضي أيّام عمره معها في نكد وعزلة ومزاجيّة. الموضوع ببساطة هو أنّها ستنال من الرومانسيّة ما سيجعل من نساء الدنيا كلها يغرن منها ويحسدنها.

دعونا نرجع في التاريخ قليلاً ونرى من هم أولئك الذين خلقوا في عقولنا ما نعرفه عن الحب بين الرجل والمرأة، وصاغوا فكرتنا عن الرومانسيّة، ومن هم أفضل العشاق عبر التاريخ. روميو وجوليت؟ ليس هذان العاشقان اللذان تسببا في انتحار من انتحر هما أصحاب قصتهما التراجيدية، بل شكسبير الذي خلّد قصّتهما. عندما نفكر في الحب تخطر ببالنا، نحن الجيل الذي قامت قناة بتربيته، أفلام مثل "Titanic"، و"Gone with the wind" و"The Notebook". عندما يطيب لنا أن نتصور الحب، سواء كان هذا الحب أسطوريّاً أو حبّاً عاديّاً، فإن من وضعوا في رؤوسنا تلك التصورات، وخلقوا في عقولنا تلك الأحلام الجميلة الساذجة، هم الكتّاب.

ثم فلننظر إلى الأمر من زاوية أخرى، وتحديداً في ما أنتجه الكتّاب من أعمال أدبية ولنر حضور حب زوجاتهم فيها.

أوّلاً، محمد الماغوط: تزوّج الشاعر السوري من الشاعرة سنيّة صالح التي طغى اسم زوجها على اسمها فباتت لا تعرف إلّا كزوجة الماغوط. وخلال المرض الذي اختطفها في النهاية، قالت لزوجها: "أنت أنبل إنسان في هذا العالم"، ببساطة لأن الشاعر كان يقبّل قدميها اللتين غيّرت لونهما ثقوب الإبر المغروسة فيهما. وقد قال فيها متضرعاً إلى الله أن يبقيها له ولطفلتيه شام وسولافة: "ولكن أبق لي على هذه المرأة الحطام، ونحن أطفالها القصر الفقراء سنهدي لعبنا وأقراطنا وثيابنا الجديدة لملائكتك الصغار ونظل عراة إلى الأبد، ولكن ابق لنا عليها، لبضعة شهور لبضعة أيام فقط، نتناوب السهر عليها وتجفيف العرق المتدفق على جبينها، فهي ظلنا الوحيد في هذه الصحراء، نجمنا الوحيد في هذه الظلمات، جدارنا المتبقي في هذا الخراب ثم إنها لم تأخذ من تراب الوطن أكثر مما يأخذه القدم من الحذاء".

ثانياً: جوزيه ساراماغو. قال المثل قديماً: رب صورة خير من ألف كلمة، وهذه الصورة بتفاصيلها المدهشة، بلا مبالاة زوجته الرائعة بيلار دل ريو، بالكتب المنتشرة في كل مكان، تقول أكثر مما يقول ديوان من الشعر الغزلي. هي المرأة التي قال عنها: "أنا أملك أفكاراً عن الكتابة، وهي تملك أفكاراً عن الحياة".

ثالثاً: ماركيز. تخيلي يا عزيزتي أن القدر لسبب ما، ربما لصبرك، ربما لجمالك، قرّر فجأة مكافأتك، ومنح زوجك القدرة على أن يكتب العمل الأهم في حياته، عمل سينقله إلى العالمية، عمل سيجعل من الصحافة مطارداً مزعجاً لكما. تخيّلي أنك أنت الشخص الأول في العالم الذي يقدّر له قراءة هذا العمل الذي سيقرأه، إن وافقتِ عليه، الملايين. صحيح أنك قد لا تجدين تلك الليلة في ثلاجة بيتك ما تتعشين عليه، لكن تذكري أنك أنتِ أول من قرأ "مئة عام من العزلة". وإن لم تنالي هذا الشرف وكان زوجك أقل شأناً من ماركيز، فستقرئين قصائد تمجّدك وتجعلك سيّدة العالم. وعسى أن يكون هذا كفيلاً بتعويضك عن كل الآلام التي ستعرفينها في جوار زوجك المشغول بلوحة المفاتيح.

رابعاً: محمد طمليه. لا يوجد كاتب محترم إلّا وبه مسحة من جنون. هذا ليس تعميماً بل هي الحقيقة. ولذا لك أن تتخيلي حجم الجنون الذي سيصدر عن حبيبك الكاتب خلال علاقتكما، سواءً في بداياتها عندما يحاول أن يحظى بقلبك، وعندما يحرص المسكين على أن يظهر أمامك بأجمل حلّة فيبدو لك كمهرج، أو في مراحل متقدمة من العلاقة عندما يقرر في أحد الأيام أنه شاكر لك جداً على كل ما فعلته له، على قبولك بعيوبه فيقرر أن يعبّر لك عن حبه بقصيدة تجدينها في حقيبتك أو فوق سريرك، أو ربما تعودين من العمل فتجدينه قد زين البيت بالورود، واضعاً الموسيقى التي تحبّين.

خامساً: محمود درويش. هل في الدنيا شخص لا يبحث عن الخلود؟ من ملوك الأرض وزعمائها إلى أصغر طفل فيها، الجميع بشكل أو بآخر يبحث عن خلوده، إن لم يكن الخلود المراد هو خلود الجسد فعلى الأقل خلود ذكره. ولذا كان الخلود معركة الخاسرون فيها كثر، والمطلوب للظفر فيها هائل متعب، ولكن فكرة أن تكوني زوجة لشاعر يجوب اسمه الآفاق ربما تكون طريقة موثوقة لضمان الخلود. تخيلي أنك زوجة محمود درويش. هل تخيلتِ؟ عظيم.

خلاصة القول: ابنتي العزيزة لا تحبي إلّا كاتباً.

دلالات
المساهمون