حين سئلت: لماذا لم تتوسعي في كتابة مذكراتك؟ أجابت قائلة: "لأننا لسنا جيلَ (أنا)".
إنها بنت الأقدام السود، فرنسية الأصل، جزائرية المولد والنشأة والنضال والاختيار.
هي ايفلين سفير، التي ولدت عام 1927 في العاصمة الجزائرية، لأسرة تعود أصولها إلى الأقدام السود (وهي العوائل الأوروبية والفرنسية تحديداً، التي أقامت في الجزائر خلال ثلاثة أجيال)، شاركت في النضال الوطني والثورة وحرب التحرير منذ التحاقها بجمعية الشبيبة الجزائرية للنشاط الاجتماعي، التي انضمت إليها بواسطة المناضل الجزائري بن يوسف بن خدة (الذي تولى بعد الثورة منصب الرئيس المؤقت للجزائر في الفترة من 9 أغسطس/آب 1961 وحتى 3 يوليو/تموز 1962).
كانت ايفيلن تقول بفخر: "لقد التقى عبان رمضان (أحد الثوار البارزين والقادة الذين نظموا الكفاح المسلح في الثورة الجزائرية) ومحمد الصديق بن يحيى (أحد قادة الثورة الذي تولى عددا من الوزارات في الحكومات الجزائرية بعد الاستقلال) ببن يوسف بن خدة في بيتي"، حيث كانت تقوم بالحصول على شقق لإيواء المناضلين، والقيام بدور الاتصال بين المجاهدين، وحل بمنزلها الكائن بشارع "داغير" في الجزائر العاصمة رموز لا تنسى في الذاكرة الجزائرية، مثل العقيد عمر أوعمران، والعقيد صادق دهيليس، وكريم بلقاسم، والعربي بن مهيدي.
" |
وبسبب دورها النضالي، ألقي القبض عليها في نوفمبر/تشرين الثاني 1956 في وهران، وذلك أثناء قيامها بمهمة لصالح الهيئة التنفيذية لجبهة التحرير الوطني، حيث تمت محاكمتها وزج بها في السجن لمدة ثلاث سنوات.
وعن فترة اعتقالها، تروي ايفلين أنها تعرضت للتعذيب في مركز الشرطة، حيث حاولوا أن ينتزعوا منها اعترافا بمكان تواجد بعض الرموز الوطنية، واتهمت بإثارة الفوضى، وحكم عليها بثلاث سنوات سجن، وتعرضت للتعذيب، وظلت تتنقل من سجن لآخر، وهي تخوض من داخل السجون معركة أخرى من أجل تحسين أوضاع السجينات، في ظل انتهاكات شديدة وتعذيب لحق بها على مدار سنوات السجن الثلاث.
وفي تلك السجون التقت ايفلين بمناضلات أصبحن من رموز حرب التحرير، مثل جميلة بوحيرد، وجاكلين قروج، وجميلة بوعزة، وآني ستاينر.
وبعد إطلاق سراحها عام 1959، تعرضت لمحاولة اغتيال من قِبل منظمة "اليد الحمراء الإرهابية" التي شكّلها غـُلاة الدفاع عن الجزائر الفرنسية، وتتبعت هذه المنظمة آثارها إلى فرنسا، حتى كادوا يفلحون في اختطافها واغتيالها في باريس نهاية سنة 1960، لكنها نجت من هذه المحاولة، وانتقلت إلى سويسرا لتقيم فيها سنتين، ومنها إلى مقر جبهة التحرير الوطني في تونس.
وبعد الاستقلال في صيف 1962 دخلت إيفلين إلى العاصمة الجزائرية، مجدداً، وسط صراع بين أطراف مختلفة على السلطة الجديدة في البلاد، فيما سمي بفتنة صيف 1962، لتواجه محنة
" |
جديدة حيث الأوروبيون يغادرون الجزائر عائدين إلى بلادهم، وخَيّرت السلطاتُ أبناء الأقدام السود بين البقاء والتجنس بالجنسية الجزائرية أو الخروج إلى بلادهم، فرفضت الهجرةَ مع الأقدام السود، وفضّلت البقاء في الجزائر، إلى جانب الأهالي الذين ناضلت معهم من أجل الاستقلال، لتقوم بدورها في بناء الدولة، حيث انتخبت عضواً في المجلس التأسيسي، ثم في أول مجلس وطني سنة 1964، ثم عملت مستشارة في وزارة العمل، ثم تولت منصب مديرة النشاط الاجتماعي في"المدية" وظلت فيه حتى نهاية السبعينيات.
في عام 1967 تزوجت ايفلين من الصحافي، عبد القادر سفير، الذي أصبح لاحقا عميداً للصحافيين الجزائريين، وانتقلت معه بعد التقاعد للإقامة في منطقة بن شكاو في شرق المدية، حتى رحيله في 13 يناير/كانون الثاني 1993، ثم رحلت لأسباب أمنية إلى المدية.
وظل الخطر يتهددها بسبب ممارسات الجماعات المسلحة، خاصة بعد اغتيال الكاتب المسرحي الجزائري، عبد القادر علولة، في مارس/آذار 1994، فقررت الانتقال إلى فرنسا خوفا من الموت، واستقرت في مدينة "أفينيون" جنوب شرق فرنسا حتى سنة 1997.
ثم عادت ايفلين إلى الجزائر وبقيت فيها منذ 1997 حتى ودعتها، السبت الماضي، إلى مثواها الأخير بعد سبعة وثمانين سنة حافلة، سجلت شذرات من ملامحها في مذكراتها التي نشرت بعنوان "جزائرية حتى النخاع" 208 صفحات، صمتت فيه أكثر مما تحدثت، فلم تبح فيه بكثير مما شهدته وشاركت فيه.
وحين سئلت، لمَ لمْ تتوسعي في مذكراتك، أجابت بالكلمة التي تعلمتها من المناضل الجزائري، عبد الحميد مهري، قائلة: "لأننا لسنا جيلَ (أنا)".