إيرلندا.. وصعود النمر السلتي

06 يوليو 2015
حققت إيرلندا نسب نمو مهمة رغم الأزمة المالية العالمية(Getty)
+ الخط -
كانت بداية صعود النمر "السلتي"، نسبة إلى السلالة السلتية التي ينحدر منها سكان إيرلندا الحاليون، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، حيث نما الاقتصاد الإيرلندي، متجاوزاً توقعات وأحلام الشعب الايرلندي، بمعدل 9% في الفترة بين 1995و2000. وبرغم تباطؤ النمو، فيما بعد، إلا أن متوسط النمو للسنوات اللاحقة حتى عام 2008، الذي شهد الانهيار المالي العالمي، لم يقل عن 6٪، وهي نسبة أعلى بكثير من التي شهدتها المملكة المتحدة.

لقد تحقق هذا النجاح نتيجة مزيج من العوامل، فقد شكّل انخفاض معدل الضريبة على الشركات، عند مستويات قريبة من 10%، نقطة جذب هائلة للعديد من الشركات متعددة الجنسيات لبدء عملياتها في إيرلندا. وفي الوقت ذاته، كان لتدني مستوى الضرائب التجارية دوراً أساسياً في تدفق المليارات من الجنيهات، حيث تم استثمارها ليس فقط في تحديث البنية التحتية المتهالكة، ولكن الأهم من ذلك، في التعليم والمهارات اللازمة لدعم الصناعات الجديدة التي باتت تجذب إليها رؤوس الأموال الأجنبية.

اقرأ أيضا: فنلندا.. والطريق نحو الإبداع!

لكن لا شيء من شأنه أن يعطي مثل هذا المفعول السحري دون وجود سياسة صناعية واضحة المعالم، ترتكز، أساساً، على تطوير القطاعات الرئيسية في مجال التصنيع، مثل الصناعات الدوائية. وعلى النهوض بالصناعات الناشئة، مثل صناعة البرمجيات. بالإضافة إلى ذلك، اكتسب قطاع الخدمات الحيوي، الذي عانى من الإهمال على مر عقود من الزمن، أهمية متزايدة نتيجة هذه السياسات، حيث تم إنشاء مركز دولي للخدمات المالية في دبلن، نتج عنه خلق ما يزيد عن 14 ألف وظيفة، مرتفعة الأجور، في مجال التمويل والشركات القانونية.
نتيجة لذلك، ازدهر الاقتصاد، وعاد عشرات الآلاف من الشباب الإيرلندي، ذوي المهارات العالية، إلى بلدهم من أجل العمل في وظائف مرتفعة الأجور، بعد أن غادروها، قبل ذلك، بحثاً عن عمل ملائم يناسب طموحاتهم.

اقرأ أيضا: نيوزلندا وفن إدارة الأزمات

رويداً رويداً، بدأ الإقتصاد الإيرلندي يتحوّل بعيداً من النمو القوي الذي كان يحققه عبر نمو صادراته الصناعية، إلى الاعتماد على طفرة عقارية جامحة جعلت أسعار الأراضي والمباني تسجل مستويات مرتفعة مبالغاً فيها إلى حد كبير. وعلى رغم التحذيرات بأن الوضع أصبح غير قابل للاستمرار، إلا أن الموجة العاتية من الازدهار المؤقت كانت كفيلة باجتياح الجميع، تقريباً، وهو ما حدث، فعلاً، عندما أدى انهيار النظام المالي العالمي، في عام 2008، إلى انفجار الفقاعة العقارية في إيرلندا، وبدأت المصارف تسجل خسائر كبيرة نتيجة تخلف المقترضين عن سداد الديون.

أمام هذا الواقع المرير، لم يكن أمام الحكومة الإيرلندية سوى القيام بتضمين ديونها من خلال استخدام الأموال العامة، التي أضافت إلى العجز العام الآخذ في الاتساع، حيث وصلت ديون الدولة، بنهاية عام 2010، إلى مستويات لم يعد سوق الدين الدولي قادراً على تقديم الدعم لها. وحتى عندما تدخل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، أخيراَ، بتقديمهما دعماً مالياً بقيمة 80 مليار يورو، فقد كان ذلك يتوقف على قدرة الحكومة على توفير موارد مالية كافية، وقطاع مصرفي مرسمل بشكل جيد، واستراتيجية واضحة لاستعادة القدرة التنافسية للاقتصاد الإيرلندي.

اقرأ أيضا: الدنمارك تؤنسن الرأسمالية

في الواقع، كانت إجراءات التقشف المتبعة قاسية، والألم، الذي كان على الشعب الإيرلندي أن يتحمله، كبيراً وغير مسبوق. ففي غضون تسعة أشهر، تم سحب أكثر من 10 مليارات يورو من الاقتصاد من خلال زيادة الضرائب وخفض الإنفاق، ما أدى إلى تخفيضات كبيرة في الأجور، وارتفاع واضح في معدلات البطالة حتى بلغت 15%، وهجرة معاكسة تسببت بخروج الكثير من الشباب للبحث عن فرص عمل من جديد. ولكن هذا الألم، على ما يبدو، قد استحق كل العناء الذي مر به الشعب الإيرلندي، فقد ساعد هذا الدواء، برغم مذاقه المر، في وصول إيرلندا إلى علاج لاقتصادها المتداعي.

واليوم، فقد تمكنت إيرلندا من الخروج من دائرة الكساد، وعادت إلى طريق الانتعاش التدريجي، حيث أدى الانكماش في الطلب المحلي إلى إعادة توجيه دفة الاقتصاد، مجدداً، نحو مزيد من النشاط الصناعي والتصديري. في الواقع، سجل الاقتصاد الإيرلندي، في عام 2014، نمواً هو الأسرع من بين دول الاتحاد الأوروبي، وذلك على الرغم من الانكماش المالي، والتشدّد الائتماني، واستمرار الديون التجارية في الارتفاع.
(خبير اقتصادي أردني)
المساهمون