إيران وتقاطعات طرق الحرير.. التأثيرات الشرق أوسطية

05 يناير 2015

خط إيران تركمانستان كازاخستان التجاري الذي افتتح في ديسمبر2014

+ الخط -
باتت آسيا الوسطى أكثر مما مضى مسرحاً لتحولات جيو-استراتيجية، تمتد إلى كامل المحيط الأوراسي، من خلال مشروع طريق الحرير الجديد الذي يسعى إلى الربط تجارياً بين الصين وأوروبا. كانت الصين قد أعلنت، في نوفمبر/تشرين الثاني، أنها ستخصص 40 مليار دولار لمشروعات بنية تحتية، تربط أسواق آسيا ببعضها، من خلال شبكة طرق وسكك حديدية في الأعوام المقبلة.
أما النفوذ الصيني المتوسع باستمرار في الجوار الغربي الذي يشكل المحرك الرئيسي لتلك التحولات، فلم يكن وليد الانكماش الروسي، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي فقط، بل له تراكماته التاريخية أيضا. ويرى المؤرخ بيتر بيردو أن هناك تشابهاً كبيراً بين توسع الصين في جوارها الغربي وتوسع سلالة تشينغ في الجزء الشرقي مما يسمى "آسيا الوسطى الكبرى" بين بدايات القرنين، السابع عشر والتاسع عشر. وهو التمدد الذي كان قوامه بشكل كبير التجارة من خلال بناء شبكة من الطرق والعلاقات الاقتصادية وسيلة لضمان أمن المملكة على تخومها الشرقية. فهناك فرق بين السيطرة (Domination) والهيمنة (Hegemony) التي تتجاوز الأدوات الصلبة للسيطرة.
المخيال الأوراسي لإيران
تستمد بكين مشروع طريق الحرير الجديد الذي أعادت إحياءه من ذلك الطريق القديم الذي أسسته سلالة الهان (206 قبل الميلاد حتى 220 بعد الميلاد). يعتمد المشروع الجديد، في جزء معتبر منه، على الدور المركزي لطهران، نظراً لموقعها الجيو-استراتيجي، الرابط بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط والمدخل الجنوبي الشرقي لأوروبا من جهة تركيا وشرق أوروبا من جهة القوقاز. ففي العصر التيموري، كان موقع بلاد فارس (خلال القرن الرابع عشر الميلادي) محورياً كممر تجاري، يربط بين مدينة بورصة في الغرب وبكينج (بكين) في الشرق. ولكن، مع تفكك دولة التيموريين وصعود الأوزبك وانكماش القوى الصينية، تراجعت التجارة بين الشرق والغرب عبر مسار فارس – آسيا الوسطى.
على غرار بكين، لطهران مخيالها الجيوسياسي الذي يستمد جذوره من العصر الوسيط، إبان الحكم الصفوي الذي امتد من آسيا الوسطى، شمالاً وشرقاً، إلى شرق الأناضول غرباً، في فترات متعددة من التمدد والانكماش في مواجهة العثمانيين. منذ عهد الرئيس هاشمي رفسنجاني، مروراً بخاتمي وأحمدي نجاد حتى الرئيس حسن روحاني، سعت تلك الإدارات الإيرانية المتعاقبة، عبر مجموعة من مشروعات البنية التحتية في الداخل والجوار إلى إعادة
موضعة إيران، لتصبح مركزاً تجارياً في محيطها الأوراسي.
علاقات طهران وأنقرة والمتغيرات
أما العلاقات التجارية بين طهران وأنقرة في ظل تلك التحولات، فهي أعقد من أن توصف بوضوح في سياق تنافسهما الخافت في الفضاء ما بعد السوفييتي المجاور لهما، منذ تسعينيات القرن الماضي. في ظل التطوير المستمر لممر النقل الإيراني – الروسي– الهندي المعروف بـ"ممر الشمال – الجنوب" North-South) Corridor) الذي يستهدف ربط جنوب وشرق آسيا بآسيا الوسطى وروسيا وأوروبا. ستصبح العلاقات التجارية بين تركيا وإيران أكثر تركيباً في الجزء الخاص بتجارة جنوب وشرق آسيا – آسيا الوسطى، لأنه سيبدل مسارات العبور.
يقوم المشروع المذكور على الربط بين الهند وروسيا وأوروبا عبر إيران، بإنشاء شبكة من الطرق البرية والسكك الحديدية الرابطة بين دول آسيا الوسطى والقوقاز (والبحر الأسود) بالموانئ الإيرانية (مينائي بندر عباس وشاه بار). كان أحد أهداف الهند من المشروع تفادي عدوها باكستان، للولوج إلى آسيا الوسطى عبر إيران (تاريخياً، وصل التبادل التجاري البحري بين فارس والهند إلى قمة ازدهاره في نهايات القرن الخامس عشر الميلادي).
فضلاً عن توفير الوقت، يقلص المشروع تكاليف التبادل التجاري بين الهند وآسيا الوسطى وروسيا، بمقدار الثلث تقريباً، لأنه سيتفادى مرورها عبر قناة السويس. النقطة المهمة هنا أن الممر سيحول اعتماد صادرات وواردات دول القوقاز وآسيا الوسطى جيو-اقتصاديا تدريجياً على موانئ إيران، بدلا من موانئ تركيا، في تعاملاتها مع جنوب وشرق آسيا.
العامل التاريخي
تلك العلاقة الجيو-اقتصادية التي تتصف بالشد والجذب بين الإيرانيين والأتراك يمكن أن نجد جذورها في العصر الوسيط إبان حكم الصفويين والعثمانيين. في النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي، اقترح الإنجليز على الشاه طهماسب والقادة الصفويين مساراً تجارياً جديداً، يتفادى مرور جزء من القوافل عبر الأناضول، بعبور مدينة أستراخان الروسية. وبذلك، كان مسار القوقاز الجديد يهدد المصالح الاقتصادية للدولة العثمانية، وها هو جنوب القوقاز صار يرتبط بإيران، الآن، جيو-اقتصادياً، أكثر مما مضى، على الرغم من حضور تركيا القوي فيه.
لكن، في مقابل مساعي طهران لتعزيز وجودها في القوقاز، تستمر أنقرة في تعميق علاقاتها الجيو-اقتصادية في جنوب القوقاز في إطار محور تركيا – جورجيا – أذربيجان (TAG) الاستراتيجي. في العصر الوسيط، حاول الأتراك تفادي ممرات فارس من طرق التجارة، مثلما حاول نظراؤهم، أو السيطرة عليها مع تعزيز نفوذهم في القوقاز. في النصف الثاني من القرن السادس عشر، اقترح الصدر الأعظم، سوكولو محمد باشا، إنشاء خط تجاري يربط بين الدولة العثمانية وخانات آسيا الوسطى لتفادي الفرس والروس.
إذن، من جهة، سيعزز طريق الحرير الصيني من موقع تركيا، لأنها ستكون إحدى المعابر الرئيسية لنقل البضائع الإيرانية والآسيوية غير النفطية إلى أوروبا. ولكن من جهة أخرى، سيعزز ممر الشمال – الجنوب من موقع موانئ إيران على حساب موقع موانئ تركيا، لأنه سيخرج مسار البحر المتوسط تدريجياً من تجارة جنوب وشرق آسيا – آسيا الوسطى. كذلك، سيضعف المشروع موقع تركيا، لأن أرمينيا ستكون جزءاً من ممر الشمال – الجنوب، بربطها بين البحر الأسود ومنطقة الخليج. وبذلك سيقوض المشروع تدريجياً الحصار الاقتصادي التركي - الأذري على يريفان، حليفة طهران وموسكو، على خلفية نزاع ناغورنو-قرة باخ.
ممر الشمال – الجنوب الذي يربط بين الهند و محيطها الأوراسي عبر إيران


ستثبت السنوات المقبلة شكل العلاقة التي يسعى إليها الطرفان الإيراني والتركي. صحيح أنه لا توجد صراعات "جوهرانية" (بحسب التعبير السعيدي)، لكن العصر الوسيط لا يغيب عن حاضر إقليمي القوقاز وآسيا الوسطى الذي يتجلى فيهما من خلال صور مختلفة، بحكم عوامل الجغرافيا.
غياب عربي
القضية الأخرى المهمة، هنا، مدى تأثير كل من طريق الحرير الصيني والممر الشمالي الجنوبي على موقع قناة السويس، وما يمكن أن تواجهه القاهرة في ظل تلك التحولات. من الجلي أن اتجاه إيران والغرب نحو تسوية الملف النووي (لم يعد أزمة)، من الناحية الجيو-اقتصادية، لن يكون في صالح القاهرة، لأنه سيعزز من عملية الاندماج والالتحام الاقتصادي في آسيا التي ستترك آثارها على النقل البحري بين الشرق والغرب، ومن ثم قناة السويس التي يتطلع النظام المصري إلى توسيعها عبر المشروع الذي أعلن عنه أخيراً.
صحيح أن الفرع البحري لمشروع طريق الحرير الجديد سيمر عبر قناة السويس. ولكن، يبدو أن ذلك الفرع لن يمنع التراجع الذي ستشهده القناة على المدى البعيد، نظراً لكون المشروع يعتمد، بصورة رئيسية، على المسار البري، مع الأخذ في الاعتبار حجم التجارة الدولية في السنوات المقبلة.
من الواضح أن المراكز العربية المختصة بالدراسات الاستراتيجية ودعم السياسات لم تلتفت بعد بالقدر الكافي إلى التأثيرات الواسعة لتلك التطورات الجيو-استراتيجية في المستقبل على المنطقة العربية التي تهمشها هذه المشروعات. صحيح أن هذه المشروعات كان يتم الحديث عنها والتخطيط لها منذ أكثر من عقد. ولكن، كان الحصار الغربي على طهران عائقاً لنضوجها وتوسعها.
لم تعد إيران عائقا لتلك المشروعات، الآن، بعد الانفراجات المتعددة التي شهدتها المفاوضات النووية بين طهران والغرب مع اقتراب التوصل إلى تسوية، كما أن "شهور العسل" بين طهران وواشنطن التي شهدها الشرق الأوسط، بعد رفع العقوبات الغربية عن طهران، عقب التوقيع على اتفاق شامل في الشهور المقبلة، والتوصل إلى تسوية بين موسكو والغرب، ستزيد وتيرة تطوير هذه المشروعات الأوراسية، بشكل يؤثر على موقع المنطقة العربية بنيوياً ويهمشها.
فبينما تسعى إيران إلى تجاوز مشكلة اقتصادها الريعي جزئياً، عبر التحول إلى مركز تجاري (Trade Hub) يربط بين الأقاليم، ما زالت العواصم العربية والخليجية منها، بصورة خاصة، مستمرة في أزمات اقتصاداتها الريعية، ولا تحاول تجاوز عوائق الجغرافيا. وأخيراً، ما يجب أن تدركه العواصم العربية جيداً أن توسيع إيران لعلاقاتها الاقتصادية والسياسية بآسيا الوسطى والقوقاز يؤثر على المنطقة العربية، ولا يقتصر على حدود تلك الأقاليم.


 

67298C2C-B221-4372-B4FF-CC3487819180
تامر بدوي

باحث في الشأن الإيراني والعلاقات الدولية