06 نوفمبر 2024
إيران والعقدة الأميركية
ليس هناك بلد آخر في العالم تأثر تاريخه الحديث بشكل العلاقة مع الولايات المتحدة وطبيعتها مثل إيران. بدأت إيران تلفت الانتباه الأميركي منذ مطلع القرن العشرين، عندما حصل البريطانيون على أول عقد امتياز للتنقيب عن النفط في منطقة الشرق الأوسط عام 1901 من أمير المحمّرة، الشيخ خزعل الكعبي (1897-1925). وبعد أن اكتشف البريطانيون النفط بكمياتٍ تجاريةٍ كبرى في منطقة مسجد سليمان في الأحواز، أنشأوا على الأثر شركة النفط الأنغلو - فارسية عام 1909 التي امتدّ نفوذها لاحقاً إلى كل منطقة الخليج، وتفرّعت عنها شركات أخرى، مثل شركة النفط الأنغلو - عراقية. لفتت أميركا أيضاً انتباه النخب الإيرانية، خصوصاً بعد خروجها منتصرةً من الحرب العالمية الثانية. ومثل النخب العربية، تطلّع الإيرانيون إلى الولايات المتحدة باعتبارها حليفاً محتملاً في نضالهم ضد الاستعمار الأوروبي. وبالفعل، لعبت واشنطن دوراً مهماً في إنهاء الاحتلالين، البريطاني والسوفييتي، لإيران عام 1946، كما ساندت رئيس الوزراء محمد مصدّق في مواجهته مع شركة النفط الأنغلو- إيرانية، عندما قام بتأميم صناعة النفط عام 1951، وحذّر الأميركيون بريطانيا من القيام بأي عمل عسكري ضد إيران، واستقبل الرئيس الأميركي، هاري ترومان، رئيس الوزراء محمد مصدق خلال مشاركة الأخير في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في خريف 1951. لكن هذا كله تغيّر مع وصول الرئيس دوايت إيزنهاور إلى الحكم عام 1953 وتزايد نفوذ حزب تودة الشيوعي في إيران، فاتخذ إيزنهاور قراراً بالتخلّص من مصدّق في عملية سرية حملت اسم "أجاكس"، نفّذتها المخابرات الأميركية، وأعادت بموجبها الشاه إلى الحكم، بعد أن كان قد هرب إلى روما خلال الثورة التي قادها مصدق.
بنت الولايات المتحدة، خلال ربع القرن التالي (1953-1978) دولة زبائنية في إيران (Client State)، تعتمد عليها كلياً في خدمة مصالحها في المنطقة. وقد بلغت العلاقات بين الطرفين مرحلةً من التطوّر لم تبلغها علاقات واشنطن بأي دولة أخرى في المنطقة، بما فيها إسرائيل، فتحوّل جيش الشاه إلى ما يشبه فرقةً كبرى للجيش الأميركي في المنطقة، واخترقت واشنطن كل أجهزة الدولة في إيران، وسيطرت على نخبها عبر استقبال عشرات آلاف الموفدين والمبتعثين الذين درسوا في أفضل الجامعات الأميركية. المكان الوحيد الذي لم يبلغه النفوذ الأميركي كان الحوزة الدينية التي هالها حجم التغييرات و"التحديثات" التي فرضها الشاه على الدولة والمجتمع.
كانت العلاقة مع أميركا حاضرةً بقوة في شعارات الثورة في الشارع، لكن في الاتصالات السرية كان الطرفان يأملان الحفاظ عليها. وعليه، أوفد الرئيس جيمي كارتر وزير العدل رمزي كلارك إلى باريس للقاء الخميني، ووعده الاعتراف بحكومة الثورة، والاستمرار في تنفيذ عقود التسليح الموقعة مع نظام الشاه. والتقى مستشار الأمن القومي الأميركي زبغينو بريجنسكي بأول رئيس وزراء في عهد الثورة، مهدي بازركان، في الجزائر، لاستكمال الاتفاق، لكن اقتحام السفارة الأميركية في طهران قضى على إمكانية استمرار العلاقة. مع ذلك، عقدت حملة الرئيس رونالد ريغان الانتخابية اتفاقاً مع الخميني لتأخير إطلاق الرهائن الأميركيين إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية. وبالفعل جرى إطلاقهم يوم تنصيب ريغان في 20 يناير/ كانون الثاني 1981، ليفتح ذلك الباب واسعاً على صفقاتٍ أخرى عديدة، لم يكن آخرها التعاون في غزو أفغانستان والعراق مروراً بـ"إيران غيت".
مع ذلك، تحوّل العداء لأميركا إلى ما يشبه "أيديولوجيا" للدولة، وناظماً لعلاقتها بالمجتمع. وبمقدار ما كان نظام الشاه يعتمد على العلاقة الاستراتيجية مع واشنطن للحفاظ على مُلكه، تحوّل العداء للولايات المتحدة إلى أحد أسباب قوة نظام الثورة واستمراره. من هذا الباب، يتوجّس النظام، أو على الأقل الجناح المتشدّد فيه، من أي دعوةٍ إلى الانفتاح وترميم العلاقة مع واشنطن، لاعتقاده بأن ذلك يفتح ثغرةً في جدار سيطرته، ويمهّد الطريق أمام سقوطه. من هذا الباب أيضاً، يمكن القول إن الضغط الخارجي يشدّ من عصب النظام، ويمدّه بأسباب القوة التي يحتاجها للبقاء. وفي كل الأحوال، تستمر الولايات المتحدة في لعب دور مركزي في تقرير مستقبل إيران ونظامها إلى أن يأتي يوم يقرّر فيه الشعب الإيراني التحرّر من "عقدة" أميركا، ومن يستخدمها أيديولوجيا للتحكّم والسيطرة.
بنت الولايات المتحدة، خلال ربع القرن التالي (1953-1978) دولة زبائنية في إيران (Client State)، تعتمد عليها كلياً في خدمة مصالحها في المنطقة. وقد بلغت العلاقات بين الطرفين مرحلةً من التطوّر لم تبلغها علاقات واشنطن بأي دولة أخرى في المنطقة، بما فيها إسرائيل، فتحوّل جيش الشاه إلى ما يشبه فرقةً كبرى للجيش الأميركي في المنطقة، واخترقت واشنطن كل أجهزة الدولة في إيران، وسيطرت على نخبها عبر استقبال عشرات آلاف الموفدين والمبتعثين الذين درسوا في أفضل الجامعات الأميركية. المكان الوحيد الذي لم يبلغه النفوذ الأميركي كان الحوزة الدينية التي هالها حجم التغييرات و"التحديثات" التي فرضها الشاه على الدولة والمجتمع.
كانت العلاقة مع أميركا حاضرةً بقوة في شعارات الثورة في الشارع، لكن في الاتصالات السرية كان الطرفان يأملان الحفاظ عليها. وعليه، أوفد الرئيس جيمي كارتر وزير العدل رمزي كلارك إلى باريس للقاء الخميني، ووعده الاعتراف بحكومة الثورة، والاستمرار في تنفيذ عقود التسليح الموقعة مع نظام الشاه. والتقى مستشار الأمن القومي الأميركي زبغينو بريجنسكي بأول رئيس وزراء في عهد الثورة، مهدي بازركان، في الجزائر، لاستكمال الاتفاق، لكن اقتحام السفارة الأميركية في طهران قضى على إمكانية استمرار العلاقة. مع ذلك، عقدت حملة الرئيس رونالد ريغان الانتخابية اتفاقاً مع الخميني لتأخير إطلاق الرهائن الأميركيين إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية. وبالفعل جرى إطلاقهم يوم تنصيب ريغان في 20 يناير/ كانون الثاني 1981، ليفتح ذلك الباب واسعاً على صفقاتٍ أخرى عديدة، لم يكن آخرها التعاون في غزو أفغانستان والعراق مروراً بـ"إيران غيت".
مع ذلك، تحوّل العداء لأميركا إلى ما يشبه "أيديولوجيا" للدولة، وناظماً لعلاقتها بالمجتمع. وبمقدار ما كان نظام الشاه يعتمد على العلاقة الاستراتيجية مع واشنطن للحفاظ على مُلكه، تحوّل العداء للولايات المتحدة إلى أحد أسباب قوة نظام الثورة واستمراره. من هذا الباب، يتوجّس النظام، أو على الأقل الجناح المتشدّد فيه، من أي دعوةٍ إلى الانفتاح وترميم العلاقة مع واشنطن، لاعتقاده بأن ذلك يفتح ثغرةً في جدار سيطرته، ويمهّد الطريق أمام سقوطه. من هذا الباب أيضاً، يمكن القول إن الضغط الخارجي يشدّ من عصب النظام، ويمدّه بأسباب القوة التي يحتاجها للبقاء. وفي كل الأحوال، تستمر الولايات المتحدة في لعب دور مركزي في تقرير مستقبل إيران ونظامها إلى أن يأتي يوم يقرّر فيه الشعب الإيراني التحرّر من "عقدة" أميركا، ومن يستخدمها أيديولوجيا للتحكّم والسيطرة.