25 فبراير 2022
إيران في حرب 1967.. تعاون مع إسرائيل وتحريضها ضد عبد الناصر
شنت إسرائيل، في الخامس من يونيو/ حزيران 1967، حربا مبيّتة على مصر، كانت قد خططت لها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية منذ سنوات، وأعدت نفسها لها جيدا. ويتضح اليوم من الدراسات والكتب والوثائق الإسرائيلية أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية استدرجت مصر إلى الحرب، من خلال التصعيد العسكري المنظم ضد سورية واعتداءاتها المتكرّرة عليها، والتي رافقتها تهديدات قادتها العلنية باحتلال دمشق.
وقد كتبت دراسات وكتب كثيرة عن حرب 1967، أشبعت جوانب مختلفة، فيما لا تزال جوانب أخرى بحاجة إلى دراسة، منها الدور الإيراني في الحرب. وقد كانت إيران، تحت قيادة الشاه محمد رضى بهلوي حينئذ، قلقة للغاية من الوجود العسكري المصري في اليمن، ومن ازدياد المد الناصري في الجزيرة العربية، وعدّته خطرا على أمنها القومي، ويعرّض مصالحها القومية للخطر. وقد استحوذ هذا "الخطر" على ذهنية القيادة الإيرانية، ووضعته في قمة أولوياتها. ودفع هذا الأمر القيادة الإيرانية إلى القيام بخطوتين أساسيتين: دفع إسرائيل وتشجيعها للقيام بخطوات عسكرية ضد مصر، من أجل إرغامها على تخصيص جزء كبير من جيشها، أو كله، وحشده في الحدود المصرية- الإسرائيلية، ما يعني سحب الجيش المصري من اليمن. والسعي لدى الاتحاد السوفييتي من أجل أن يضغط على مصر لسحب جيشها من اليمن، وكبح نفوذها في الجزيرة العربية. وتلقي هذه المطالعة الضوء على الدور الذي قامت به إيران عشية حرب 1967.
عدت إسرائيل أن المشروع العربي النهضوي الوحدوي الذي كانت تقوده مصر بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر، في عقدي الخمسينيات والستينيات، خطرا على وجودها وعلى دورها ومكانتها في المنطقة. ومن أجل إفشاله وضرب حاضنته مصر، بحثت إسرائيل عن شقوقٍ في الجسد العربي، وعملت على إقامة علاقات مباشرة وغير مباشرة مع نخبٍ في داخل الوطن العربي على أرضية العداء للمشروع الوحدوي النهضوي الذي كان يقوده عبد الناصر. وفي الوقت نفسه، سعت إسرائيل إلى إقامة حلف مع دول "الأطراف" التي تحيط بالوطن العربي ضد مصر ومشروعها الوحدوي النهضوي، وضمت هذه الدول إيران وتركيا وإثيوبيا والسودان والإمام البدر في اليمن.
علاقات .. وزيارات سرّية
وعلى هذه الأرضية، شهدت العلاقات الإسرائيلية – الإيرانية السرية في ستينيات القرن
الماضي، وأواخر خمسينياته، تطورا كبيرا للغاية في مجالات كثيرة، ولا سيما في العسكري والأمني المخابراتي. وانعكس تعزّز هذه العلاقات العسكرية والأمنية في زيارات سرية كثيرة قام بها قادة المؤسستين العسكرية والأمنية الإسرائيلية إلى إيران. ففي يوليو/ تموز 1961، زار إيران سرا رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، واجتمع مع شاه إيران محمد رضا بهلوي وقادة المؤسسة العسكرية الإيرانية. وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، زار إيران سراً رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير الدفاع، ديفيد بن غوريون، واجتمع مع الشاه وقادة المؤسسة العسكرية الإيرانية. وفي سبتمبر/ أيلول 1962 زار وزير الزراعة موشيه دايان إيران، واجتمع مع قيادتها العسكرية والسياسية. وتتالت زيارات قادة إسرائيل إلى إيران، ففي إبريل/ نيسان 1963 زار إيران سرا أهرون ياريف نائب رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، واجتمع مع قادة المؤسسة العسكرية والأمنية الإيرانية، وبحث معهم القضايا التي تهم البلدين في حينه، لا سيما التنسيق بينهما في كيفية مواجهة الوجود العسكري المصري في اليمن، ومواجهة ازدياد النفوذ الناصري في الجزيرة العربية. وفي مايو/ أيار 1966 زار إيران سرا رئيس شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي، عيزرا وايزمان، واجتمع مع الشاه وقادة المؤسسة العسكرية الإيرانية. وفي يونيو/ حزيران، زار إيران سرا رئيس الحكومة ووزير الدفاع، ليفي أشكول، واجتمع مع القادة الإيرانيين.
بيد أن أهم هذه الزيارات كانت الزيارة السرية التي قام بها إلى إيران رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، إسحق رابين، في 14 إبريل/ نيسان 1967، أي قبل شهر من تفجر الأزمة التي خطط لها وبادر إليها رابين، وقادت إلى الحرب. واجتمع رابين في الزيارة مع الشاه وقادة المؤسسة العسكرية والأمنية الإيرانية، ومع رئيس الحكومة عباس هويدا. وعالجت مباحثاته القضايا الاستراتيجية التي تربط الدولتين، وفي مقدمتها ضرورة التعاون بينهما لمواجهة مصر بقيادة الرئيس عبد الناصر، لا سيما الوجود العسكري المصري في اليمن، وازدياد نفوذ الناصرية في الجزيرة العربية. واهتم رابين في الزيارة بزيادة كمية احتياط إسرائيل من النفط التي كانت تحصل عليه من إيران، والذي كان يشكل حينئذ نحو 85% من استهلاك إسرائيل للنفط، وجرى الاتفاق على تعزيز التعاون بين الدولتين في مجال النفط، وعلى توسيع أنبوب النفط بين ميناء إيلات والبحر المتوسط، ليس فقط لسد احتياجات إسرائيل من النفط الإيراني، وإنما أيضا لتصدير النفط الإيراني إلى أوروبا، من دون الحاجة للمرور في قناة السويس. وفي تقريره إلى هيئة أركان الجيش الإسرائيلي عن الزيارة، وقد كشف النقاب عنه الباحث الإسرائيلي عامي غلوسكا في كتابه "إشكول أصدرْ الأمر"، كتب رابين أن شاه إيران وقادة المؤسسة العسكرية الإيرانية أعربوا عن قلقهم الشديد جدا من الوجود المصري في اليمن، ومن ازدياد نفوذ الناصرية في الجزيرة العربية. وأن القيادة الأيرانية تعد نفسها جزءا من المحور الذي يضم السعودية وباكستان الذي يواجه مصر في اليمن والجزيرة العربية. وأكد الشاه، في الوقت نفسه، على تطابق المصالح بين دول هذا المحور، وهي إيران والسعودية وباكستان، وبين إسرائيل، في الموقف من الوجود العسكري المصري في اليمن ومن ازدياد نفوذ الناصرية في الجزيرة العربية. وطلب الشاه من رابين أن تقوم إسرائيل بدورها، وأن تنفذ حصتها في التصدّي لعبد الناصر وللوجود العسكري المصري في اليمن، باتخاذها خطواتٍ ترغم مصر على تخصيص وحشد جزء كبير من جيشها في سيناء على الحدود. وأكد رابين، في تقريره لهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، أن هذه هي مصلحة إيران في علاقتها الاستراتيجية مع إسرائيل، بشأن كيفية مواجهة الوجود العسكري المصري في اليمن، أي أن ترغم إسرائيل مصر على تخصيص جزء كبير من جيشها للحدود المصرية الإسرائيلية. وأضاف رابين إن أية علاقة غير مبنية على المصالح ليست جدية. وأخبر رابين هيئة الأركان أن شاه إيران سأله في أثناء اجتماعهما: "أين أنتم؟ هل تريدون أن تكون المواجهة معنا وأنتم تقفون مكتوفي الأيدي، ولا تفعلون شيئا"؟ واستطرد الشاه: "من يستطيع أن يرغم مصر على تخصيص جزء كبير من جيشها للحدود المصرية – الإسرائيلية هو أنتم. أنتم تستطيعون تحديد حرية حركة عبد الناصر في جنوب الجزيرة العربية، لكنكم لا تقومون بذلك".
التدخل الإسرائيلي في حرب اليمن ليس كافيا
كان الشاه يدرك جيدا أن إسرائيل لم تقف مكتوفة الأيدي إزاء الوجود العسكري المصري في اليمن، بيد أنه كان يريد من إسرائيل شيئا محدّدا، هو أن تقدم إسرائيل على خطوات عسكرية
ترغم مصر على تخصيص جزء كبير من جيشها، أو كله، للحدود المصرية – الإسرائيلية. وكان يدرك أن إطاحة نظام الإمام البدر في اليمن في سنة 1962، بدعم واضح من مصر، وما رافقه من وجود عسكري مصري في اليمن، أثار قلقا شديدا في إسرائيل. وقد أرسل نائب رئيس جهاز الإستخبارات العسكرية الإسرائيلية حينئذ، أهارون ياريف، توجيها إلى الملحقين العسكريين الإسرائيليين في عواصم الدول المهمة في العالم، عبّر فيه عن خشيته من أن يشجع إسقاط النظام الملكي في اليمن والوجود العسكري المصري فيها على إسقاط أنظمة ملكية أخرى، مثل الأنظمة في السعودية والأردن وإيران، وهو ما "يقود إلى إضعاف مكانة إسرائيل في المنطقة". وحذّر هذا التوجيه من أن تحصل مصر على موطئ قدم دائم في اليمن، ما يؤدي إلى إحكام سيطرتها على مضيق باب المندب. وقد أجرت إسرائيل اتصالاتٍ سرية مع الإمام البدر، تمخضت عن عقد اتفاق سري بينهما، زوّدت إسرائيل، بموجبه، قوات البدر بكميات كبيرة من الأسلحة المتطورة والذخيرة، إلى جانب تقديمها مساعدات إعلامية وسياسية في المحافل الدولية، وخصوصا في واشنطن ولندن. ففي الفترة من مارس/ آذار 1964 إلى مايو/ أيار 1966، نقلت طائرة نقل إسرائيلية كبيرة، أعدّت خصيصا لهذا الغرض، أربع عشرة شحنة من الأسلحة والذخيرة من إسرائيل، وأنزلتها بالمظلات إلى قوات البدر قرب صنعاء في المناطق التي كانت تسيطر عليها هذه القوات.
أخبر رابين هيئة الأركان أيضا أن الشاه وقادة إيران كانوا سعداء جدا من الضربة العسكرية الإسرائيلية التي وجهتها لسورية في السابع من إبريل/ نيسان 1967، التي حدثت قبل أسبوع من زيارة رابين السرية إلى إيران، وشنت فيها الطائرات الإسرائيلية 171 غارة على المواقع السورية، وألقت عليها 65 طنا من المتفجرات، وحلقت فوق دمشق، وأسقطت ست طائرات سورية. وأضاف رابين إن قادة إيران يتمنون أن تستمر الاشتباكات بين إسرائيل وسورية، وأن ترغم هذه الاشتباكات مصر على التدخل، وحشد قواتها العسكرية في سيناء، ما يقود إلى تخفيف ضغط الجيش المصري في اليمن وجنوب الجزيرة العربية. وأكد رابين لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي أن هذه هي أمنية القيادة الإيرانية التي تريد أن تتحقق على أرض الواقع أكثر من أي شيء آخر. وإذا لم تهب مصر لمساعدة سورية ضد الاعتداءات الإسرائيلية، فإن القيادة الإيرانية تعتقد أن هيبة الرئيس عبد الناصر وشعبيته ستتضرّران كثيرا. وقال رابين إن شاه إيران يراهن على إسرائيل، في اتخاذ الخطوات المناسبة لكبح عبد الناصر في اليمن والجزيرة العربية، وإن القيادة الإيرانية تؤمن بقدرة إسرائيل في تحقيق ذلك "مثل إيمانها بالله". وأوضح رابين أن إيران مهمة جدا في المحور الذي يواجه عبد الناصر، وكانت تقوده السعودية، لأنها أيضا قناة لإجراء اتصالات مع دول عربية وإسلامية، على الرغم مما لمسه من كراهية القيادة الإيرانية غير العادية للعرب.
على أية حال، لم يكن طلب شاه إيران من رابين اتخاذ الخطوات التي ترغم مصر على حشد جيشها في سيناء غريبا عن رابين، ولا بعيدا عن رؤيته. ففي 1963 عبر رابين، عندما كان نائبا لرئيس الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، عن موقفه من إرسال الجيش المصري إلى اليمن، من دون أن يبادر الجيش الإسرائيلي إلى اتخاذ خطواتٍ ترغم مصر على تخصيص
جزء من جيشها في سيناء، فقد قال في لقاء له مع رئيس الحكومة ووزير الدفاع حينئذ، بن غوريون، ومع قادة الجيش الإسرائيلي: "علي أن أعترف أن الوضع الحالي الذي ترسل فيه مصر عشرات الآلاف من جيشها إلى بعد ألف ميل من مصر، من دون أن تشكل إسرائيل تهديدا لمصر يرغمها على تخصيص قوات عسكرية في سيناء، يجعلني أشعر ليس فقط بعدم الارتياح، وإنما أيضا بالخجل". وكان رابين يعتقد أن على إسرائيل اتخاذ الخطوات التي ترغم مصر على تخصيص قوات عسكرية في سيناء، بواسطة التهديدات والمناورات، وذلك لإفشال تحقيقها نصرا في اليمن، ولضعضعة مكانة الرئيس عبد الناصر وهيبته. لذلك لم يكن شاه إيران بحاجة إلى بذل جهد كبير من أجل إقناع رابين بضرورة قيام إسرائيل بخطوات عسكرية لإرغام مصر على حشد قواتها في سيناء، فقد كانت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية قد قامت بهذه الخطوات فعلا من أجل استدراج مصر إلى الحرب.
وبعد شهر من زيارة رابين إيران، تحقق ما أرادته القيادة الإيرانية، وما أراده رابين وسعى إلى تحقيقه منذ شهور طويلة، فالتصعيد الذي اتبعته المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بقيادة رابين، وشمل التهديد باحتلال دمشق والاعتداءات المتكررة للجيش الإسرائيلي ضد سورية، قاد مصر إلى اتخاذ قرار إدخال الجيش المصري إلى سيناء، ونقل القوات العسكرية المصرية المرابطة في اليمن إلى مصر وسيناء. وأدت حرب 1967 التي خططت لها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، منذ سنوات، إلى إنهاء الوجود العسكري المصري في اليمن والجزيرة العربية. واعتبرت إسرائيل أن انتصارها في حرب 1967 لم يكن إسرائيليا فحسب، وإنما كان أيضا انتصارا للمحور الذي كان يواجه مصر في اليمن ويحاربها، والذي ضم السعودية وإيران وباكستان وأطرافا أخرى.
ضغط الشاه على السوفييت
كتب رابين، في تقريره إلى هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، أن شاه إيران قال له إنه لم يعد يثق بقدرة الولايات المتحدة، المتورّطة في مستنقع الحرب في فيتنام، في التصدي للوجود المصري في اليمن وكبح جماح الناصرية في الجزيرة العربية، لذلك توجه إلى الاتحاد السوفييتي بغرض إقناعه بضرورة العمل على وقف هذا المد الناصري. وقال الشاه لرابين إنه أوضح للسوفييت أن مصلحتهم في إيران لا تقل عن مصلحتهم في مصر، ولذلك وقع مع الاتحاد السوفييتي على اتفاقيات اقتصادية وتجارية ضخمة، شملت مجالات كثيرة، مثل النفط والغاز وإقامة مصانع روسية في إيران وشراء أسلحة. وقال الشاه لرابين إن خطوته هذه التي فاجأت كثيرين، ومنهم الأميركان، هدفت إلى جعل الروس يفكرون بجديةٍ ماذا يربحون من علاقتهم مع الرئيس عبد الناصر في مقابل ما يجنونه من علاقتهم بالشاه.
خاتمة
لم يكشف النقاب عن محضر جلسات اسحاق رابين مع الشاه والقيادات العسكرية والأمنية الإيرانية عشية حرب 1967. ومن المرجح أن يكون رابين قد لمّح للشاه بشأن محاولات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية استدراج مصر إلى الحرب، ما سيقود إلى إنهاء الوجود العسكري المصري في اليمن. وعلى الرغم من وجود تلميحاتٍ، في بعض المصادر، إلى أن الاتحاد السوفييتي استجاب جزئيا لطلب شاه إيران، إلا أنه من غير الواضح مدى استجابته لطلب الشاه أن يضغط على مصر من أجل وقف تدخلها العسكري وسحب جيشها من اليمن. وهذا موضوع يحتاج دراسة معمقة.
وقد كتبت دراسات وكتب كثيرة عن حرب 1967، أشبعت جوانب مختلفة، فيما لا تزال جوانب أخرى بحاجة إلى دراسة، منها الدور الإيراني في الحرب. وقد كانت إيران، تحت قيادة الشاه محمد رضى بهلوي حينئذ، قلقة للغاية من الوجود العسكري المصري في اليمن، ومن ازدياد المد الناصري في الجزيرة العربية، وعدّته خطرا على أمنها القومي، ويعرّض مصالحها القومية للخطر. وقد استحوذ هذا "الخطر" على ذهنية القيادة الإيرانية، ووضعته في قمة أولوياتها. ودفع هذا الأمر القيادة الإيرانية إلى القيام بخطوتين أساسيتين: دفع إسرائيل وتشجيعها للقيام بخطوات عسكرية ضد مصر، من أجل إرغامها على تخصيص جزء كبير من جيشها، أو كله، وحشده في الحدود المصرية- الإسرائيلية، ما يعني سحب الجيش المصري من اليمن. والسعي لدى الاتحاد السوفييتي من أجل أن يضغط على مصر لسحب جيشها من اليمن، وكبح نفوذها في الجزيرة العربية. وتلقي هذه المطالعة الضوء على الدور الذي قامت به إيران عشية حرب 1967.
عدت إسرائيل أن المشروع العربي النهضوي الوحدوي الذي كانت تقوده مصر بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر، في عقدي الخمسينيات والستينيات، خطرا على وجودها وعلى دورها ومكانتها في المنطقة. ومن أجل إفشاله وضرب حاضنته مصر، بحثت إسرائيل عن شقوقٍ في الجسد العربي، وعملت على إقامة علاقات مباشرة وغير مباشرة مع نخبٍ في داخل الوطن العربي على أرضية العداء للمشروع الوحدوي النهضوي الذي كان يقوده عبد الناصر. وفي الوقت نفسه، سعت إسرائيل إلى إقامة حلف مع دول "الأطراف" التي تحيط بالوطن العربي ضد مصر ومشروعها الوحدوي النهضوي، وضمت هذه الدول إيران وتركيا وإثيوبيا والسودان والإمام البدر في اليمن.
علاقات .. وزيارات سرّية
وعلى هذه الأرضية، شهدت العلاقات الإسرائيلية – الإيرانية السرية في ستينيات القرن
بيد أن أهم هذه الزيارات كانت الزيارة السرية التي قام بها إلى إيران رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، إسحق رابين، في 14 إبريل/ نيسان 1967، أي قبل شهر من تفجر الأزمة التي خطط لها وبادر إليها رابين، وقادت إلى الحرب. واجتمع رابين في الزيارة مع الشاه وقادة المؤسسة العسكرية والأمنية الإيرانية، ومع رئيس الحكومة عباس هويدا. وعالجت مباحثاته القضايا الاستراتيجية التي تربط الدولتين، وفي مقدمتها ضرورة التعاون بينهما لمواجهة مصر بقيادة الرئيس عبد الناصر، لا سيما الوجود العسكري المصري في اليمن، وازدياد نفوذ الناصرية في الجزيرة العربية. واهتم رابين في الزيارة بزيادة كمية احتياط إسرائيل من النفط التي كانت تحصل عليه من إيران، والذي كان يشكل حينئذ نحو 85% من استهلاك إسرائيل للنفط، وجرى الاتفاق على تعزيز التعاون بين الدولتين في مجال النفط، وعلى توسيع أنبوب النفط بين ميناء إيلات والبحر المتوسط، ليس فقط لسد احتياجات إسرائيل من النفط الإيراني، وإنما أيضا لتصدير النفط الإيراني إلى أوروبا، من دون الحاجة للمرور في قناة السويس. وفي تقريره إلى هيئة أركان الجيش الإسرائيلي عن الزيارة، وقد كشف النقاب عنه الباحث الإسرائيلي عامي غلوسكا في كتابه "إشكول أصدرْ الأمر"، كتب رابين أن شاه إيران وقادة المؤسسة العسكرية الإيرانية أعربوا عن قلقهم الشديد جدا من الوجود المصري في اليمن، ومن ازدياد نفوذ الناصرية في الجزيرة العربية. وأن القيادة الأيرانية تعد نفسها جزءا من المحور الذي يضم السعودية وباكستان الذي يواجه مصر في اليمن والجزيرة العربية. وأكد الشاه، في الوقت نفسه، على تطابق المصالح بين دول هذا المحور، وهي إيران والسعودية وباكستان، وبين إسرائيل، في الموقف من الوجود العسكري المصري في اليمن ومن ازدياد نفوذ الناصرية في الجزيرة العربية. وطلب الشاه من رابين أن تقوم إسرائيل بدورها، وأن تنفذ حصتها في التصدّي لعبد الناصر وللوجود العسكري المصري في اليمن، باتخاذها خطواتٍ ترغم مصر على تخصيص وحشد جزء كبير من جيشها في سيناء على الحدود. وأكد رابين، في تقريره لهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، أن هذه هي مصلحة إيران في علاقتها الاستراتيجية مع إسرائيل، بشأن كيفية مواجهة الوجود العسكري المصري في اليمن، أي أن ترغم إسرائيل مصر على تخصيص جزء كبير من جيشها للحدود المصرية الإسرائيلية. وأضاف رابين إن أية علاقة غير مبنية على المصالح ليست جدية. وأخبر رابين هيئة الأركان أن شاه إيران سأله في أثناء اجتماعهما: "أين أنتم؟ هل تريدون أن تكون المواجهة معنا وأنتم تقفون مكتوفي الأيدي، ولا تفعلون شيئا"؟ واستطرد الشاه: "من يستطيع أن يرغم مصر على تخصيص جزء كبير من جيشها للحدود المصرية – الإسرائيلية هو أنتم. أنتم تستطيعون تحديد حرية حركة عبد الناصر في جنوب الجزيرة العربية، لكنكم لا تقومون بذلك".
التدخل الإسرائيلي في حرب اليمن ليس كافيا
كان الشاه يدرك جيدا أن إسرائيل لم تقف مكتوفة الأيدي إزاء الوجود العسكري المصري في اليمن، بيد أنه كان يريد من إسرائيل شيئا محدّدا، هو أن تقدم إسرائيل على خطوات عسكرية
أخبر رابين هيئة الأركان أيضا أن الشاه وقادة إيران كانوا سعداء جدا من الضربة العسكرية الإسرائيلية التي وجهتها لسورية في السابع من إبريل/ نيسان 1967، التي حدثت قبل أسبوع من زيارة رابين السرية إلى إيران، وشنت فيها الطائرات الإسرائيلية 171 غارة على المواقع السورية، وألقت عليها 65 طنا من المتفجرات، وحلقت فوق دمشق، وأسقطت ست طائرات سورية. وأضاف رابين إن قادة إيران يتمنون أن تستمر الاشتباكات بين إسرائيل وسورية، وأن ترغم هذه الاشتباكات مصر على التدخل، وحشد قواتها العسكرية في سيناء، ما يقود إلى تخفيف ضغط الجيش المصري في اليمن وجنوب الجزيرة العربية. وأكد رابين لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي أن هذه هي أمنية القيادة الإيرانية التي تريد أن تتحقق على أرض الواقع أكثر من أي شيء آخر. وإذا لم تهب مصر لمساعدة سورية ضد الاعتداءات الإسرائيلية، فإن القيادة الإيرانية تعتقد أن هيبة الرئيس عبد الناصر وشعبيته ستتضرّران كثيرا. وقال رابين إن شاه إيران يراهن على إسرائيل، في اتخاذ الخطوات المناسبة لكبح عبد الناصر في اليمن والجزيرة العربية، وإن القيادة الإيرانية تؤمن بقدرة إسرائيل في تحقيق ذلك "مثل إيمانها بالله". وأوضح رابين أن إيران مهمة جدا في المحور الذي يواجه عبد الناصر، وكانت تقوده السعودية، لأنها أيضا قناة لإجراء اتصالات مع دول عربية وإسلامية، على الرغم مما لمسه من كراهية القيادة الإيرانية غير العادية للعرب.
على أية حال، لم يكن طلب شاه إيران من رابين اتخاذ الخطوات التي ترغم مصر على حشد جيشها في سيناء غريبا عن رابين، ولا بعيدا عن رؤيته. ففي 1963 عبر رابين، عندما كان نائبا لرئيس الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، عن موقفه من إرسال الجيش المصري إلى اليمن، من دون أن يبادر الجيش الإسرائيلي إلى اتخاذ خطواتٍ ترغم مصر على تخصيص
وبعد شهر من زيارة رابين إيران، تحقق ما أرادته القيادة الإيرانية، وما أراده رابين وسعى إلى تحقيقه منذ شهور طويلة، فالتصعيد الذي اتبعته المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بقيادة رابين، وشمل التهديد باحتلال دمشق والاعتداءات المتكررة للجيش الإسرائيلي ضد سورية، قاد مصر إلى اتخاذ قرار إدخال الجيش المصري إلى سيناء، ونقل القوات العسكرية المصرية المرابطة في اليمن إلى مصر وسيناء. وأدت حرب 1967 التي خططت لها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، منذ سنوات، إلى إنهاء الوجود العسكري المصري في اليمن والجزيرة العربية. واعتبرت إسرائيل أن انتصارها في حرب 1967 لم يكن إسرائيليا فحسب، وإنما كان أيضا انتصارا للمحور الذي كان يواجه مصر في اليمن ويحاربها، والذي ضم السعودية وإيران وباكستان وأطرافا أخرى.
ضغط الشاه على السوفييت
كتب رابين، في تقريره إلى هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، أن شاه إيران قال له إنه لم يعد يثق بقدرة الولايات المتحدة، المتورّطة في مستنقع الحرب في فيتنام، في التصدي للوجود المصري في اليمن وكبح جماح الناصرية في الجزيرة العربية، لذلك توجه إلى الاتحاد السوفييتي بغرض إقناعه بضرورة العمل على وقف هذا المد الناصري. وقال الشاه لرابين إنه أوضح للسوفييت أن مصلحتهم في إيران لا تقل عن مصلحتهم في مصر، ولذلك وقع مع الاتحاد السوفييتي على اتفاقيات اقتصادية وتجارية ضخمة، شملت مجالات كثيرة، مثل النفط والغاز وإقامة مصانع روسية في إيران وشراء أسلحة. وقال الشاه لرابين إن خطوته هذه التي فاجأت كثيرين، ومنهم الأميركان، هدفت إلى جعل الروس يفكرون بجديةٍ ماذا يربحون من علاقتهم مع الرئيس عبد الناصر في مقابل ما يجنونه من علاقتهم بالشاه.
خاتمة
لم يكشف النقاب عن محضر جلسات اسحاق رابين مع الشاه والقيادات العسكرية والأمنية الإيرانية عشية حرب 1967. ومن المرجح أن يكون رابين قد لمّح للشاه بشأن محاولات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية استدراج مصر إلى الحرب، ما سيقود إلى إنهاء الوجود العسكري المصري في اليمن. وعلى الرغم من وجود تلميحاتٍ، في بعض المصادر، إلى أن الاتحاد السوفييتي استجاب جزئيا لطلب شاه إيران، إلا أنه من غير الواضح مدى استجابته لطلب الشاه أن يضغط على مصر من أجل وقف تدخلها العسكري وسحب جيشها من اليمن. وهذا موضوع يحتاج دراسة معمقة.