بدأت حكومة الرئيس الإيراني حسن روحاني بدفع ثمن التدهور والارتباك الاقتصادي الناتجين في نسبة كبيرة عن العقوبات الأميركية المفروضة على طهران، وانسحاب واشنطن من الاتفاق النووي. فمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، المختلط في تركيبته، والذي يضم نواباً من كافة التيارات، سواء الموالية للرئيس أو المنتقدة له نسبياً أو شديدة التحفظ عليه، أطاح بثاني وزراء حكومة الاعتدال، ويستعد لمساءلة آخرين. وصوّت 137 نائباً بالموافقة على عزل وزير الاقتصاد، مسعود كرباسيان، من منصبه، فيما خالف 121 آخرون ذلك، وامتنع نائبان فقط عن الإدلاء بصوتيهما. وجاء هذا بعدما نجح البرلمان بعزل وزير العمل، علي ربيعي، بتصويت 129 نائباً على سحب الثقة منه، مقابل 111 آخرين رفضوا ذلك. وكل هذا يأتي على خلفية أزمات وملفات اقتصادية عديدة.
وما إن بدأ الاقتصاد الإيراني يتنفس الصعداء، بعد التوصل إلى الاتفاق النووي، قبل نحو ثلاثة أعوام، والذي جمّد العقوبات المفروضة على البلاد لأسباب نووية، حتى عاد من جديد لمواجهة ارتباك يشبه نوعاً ما ذاك الذي اختبرته طهران في سنوات الحظر المشدد في زمن الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. صحيح أن التحسن الاقتصادي كان طفيفاً وانعكس في صورة استقرار نسبي، لا انتعاش حقيقي، إلا أن روحاني وحكومته استطاعوا استخدام ورقة الاتفاق لسنوات كإنجاز مهم أبعد شبح الحرب عن إيران أولاً، ونجح في رفع العقوبات عنها ثانياً.
لكن انسحاب واشنطن من الاتفاق في مايو/ أيار الماضي، وإعادة فرض العقوبات الأميركية على طهران، والتي دخلت حزمتها الأولى حيز التنفيذ العملي في أغسطس/ آب الحالي، والثانية، وهي الأكبر، ستبدأ في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، تركا معاً بصمات ثقيلة على المؤشرات، وهو ما أعاد الحديث عن ملفات اقتصادية داخلية إلى الواجهة، لم يستطع فريق الاعتدال التعامل معها بشكل جدي، بل وأصبح مسؤولاً عنها كما يرى منتقدوه. الفساد وسوء الإدارة والعجز، كلها عناوين زادت المشكلات الاقتصادية سوءاً، فنواب البرلمان المعترضون على عمل وزراء القطاعات الاقتصادية الإيرانية فضّلوا عدم التركيز كثيراً على التأثيرات التي تتركها العقوبات، من قبيل انهيار العملة المحلية أمام الدولار الأميركي، ولا على الإرث الثقيل الذي تسلمته حكومة روحاني من نجاد، الذي تعرض هو الآخر لمحاصرة البرلمان في فترة معينة، وإنما لأسباب مختلفة نوعاً ما. ورأى هؤلاء أن الحكومة الحالية، خصوصاً الوزارات المعنية بالشأن الاقتصادي، مسؤولة عن التدهور وعدم وضع خطط مجدية في بلد لديه الكثير من الإمكانات الداخلية رغم أنه يتعرض لحصار الخارج.
وقال عضو لجنة التخطيط والموازنة البرلمانية، حسين علي حاجي دليغاني، خلال جلسة استجواب الوزير المقال، إن القدرة الشرائية للمواطن الإيراني انخفضت بنسبة 50 في المائة خلال المدة التي تولى فيها كرباسيان حقيبته، وأن مبالغ تصل إلى 18 مليار دولار قد نهبت، إلى جانب خسارة 57 طناً من الذهب والمسكوكات، مشيراً للوضع السيئ الذي يعيشه العمال والمزارعون والمعلمون، فضلاً عن كل من يعاني من البطالة. وتحدث نواب آخرون عن الفساد في إدارة الجمارك، فمنذ عودة العقوبات الأميركية والبلاد تواجه ارتفاعاً في الأسعار بسبب نقص بعض المواد التي تنتظر خلف الحدود، كما يقول التجار، لكن الحكومة تتحدث عن وجود محتكرين من المستوردين أخذوا الدولار من البنك المركزي، وفقاً لسعره المخفض المحدد سابقاً والبالغ 42 ألف ريال للدولار الواحد، لا بسعر السوق الذي تخطّى المائة ألف ريال في بعض الأحيان، فإما أنهم لم يوردوا البضائع، أو أدخلوها وقاموا باحتكارها. وهو ذاته ما يضع وزير الاقتصاد، إلى جانب آخرين، في قفص الاتهام. فضلاً عن هذا، فإن نواباً آخرين، كعباس بابي زاده، رأوا أنه كان من الأولى أن يتقدم كرباسيان باستقالته، وأن تعتذر الحكومة بسبب تخبط الوضع المعيشي للمواطن الإيراني، وانهيار سعر العملة المحلية أمام الدولار، وعدم القيام بحلول جذرية للوقوف بوجه ذلك.
وكما كان متوقعاً، حاول كرباسيان الدفاع عن نفسه بالقول صراحة إن وزارته تسلمت ملفات ثقيلة، وأنه لا يتحمل مسؤولية التدهور لوحده، فضلاً عن إشارته لعامل استغلال الوضع من قبل البعض في الداخل. وكان أكثر جرأة بالقول إن العقوبات هي التي تترك هذه التبعات، فصحيح أن بلداناً أخرى، من قبيل تركيا وروسيا، تتعرض لعقوبات أميركية، لكن إيران مهددة بالفصل من نظام التحويلات المالية أو "سويفت"، وبقطع صادراتها النفطية والبتروكيميائية، معتبراً أنه "لو كان هناك انسجام داخلي لما وصل التدهور إلى هذا الحد". أما وزير العمل المقال، علي ربيعي، الذي كان أول ضحايا العزل البرلماني لأسباب اقتصادية، فتعرض للمحاسبة على ارتفاع نسب البطالة وعدم دفع رواتب المتقاعدين. وقدم المبررات ذاتها التي لم تكن مقنعة للنواب، كما أن مصادر إيرانية تتحدث عن استدعاء مرتقب لوزيري الصناعة والطرق.
ولطالما لعبت الاصطفافات الداخلية في إيران دوراً في التصفيات السياسية بين التيارات، فالبرلمان بدأ بمحاصرة روحاني علانية، والنسب المتقاربة بين مؤيدي كل ما يجري ومخالفيه تعود لاختلاط البرلمان، ولوجود نسبة لا بأس بها من المعتدلين، الموجودين في خط الوسط بين الإصلاحيين والمحافظين. أما على الضفة الإصلاحية، فقد انضم بعض أفرادها للجوقة المنتقدة لروحاني، والتي تحمّله مسؤولية التدهور الاقتصادي، وهذا يعود لخلفيات سياسية وللتخطيط لاستحقاقات انتخابية مستقبلية. فمحاولات الانسلاخ عن حكومة الاعتدال تكررت في أكثر من مناسبة، ومع ذلك فإن لجنة الأمل الإصلاحية البرلمانية صوتت على رفض مساءلة وزير الاقتصاد وقررت الوقوف إلى جانبه، وأدى ذلك لخطوة لافتة اتخذها النائب الإصلاحي المعروف، إلياس حضرتي، الذي استقال من اللجنة ذاتها، لأنه موافق على استجواب وعزل الوزير، مبرراً ذلك بعدم الرغبة بالتغريد خارج سرب كتلته. وقبل يوم واحد من الجلسة البرلمانية، كتب حضرتي، في تغريدة على "تويتر"، أنه في حال اقتنع البرلمان بإجابات كرباسيان ووافق على بقائه في منصبه، فهذا يعني أن النواب راضون عن الظروف الاقتصادية في البلاد، وهو ما يعني أيضاً أن دعوة روحاني لجلسة استماع، يوم الثلاثاء، ستكون بلا معنى، قائلاً إن "الشارع الإيراني سيحكم علينا".
ويتحضّر روحاني لتلبية مطلب النواب ليقف هو شخصياً أمام أسئلتهم في جلسة استماع تختلف دستورياً عن جلسات المساءلة أو الاستجواب، التي يتعرض لها وزراؤه الاقتصاديون واحداً تلو الآخر، وهي التي من المفترض أن تعقد الثلاثاء، وفقاً لمصادر حكومية. وهي ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها حكومة روحاني لضغط برلماني، لكنه لم يكن بهذا الحجم من الضخ الذي يروج لفشل الحكومة المؤيدة للانفتاح على الغرب وتفاوضت مع الولايات المتحدة الأميركية، ووقعت اتفاقاً نووياً لم يعد على إيران بأي فائدة اقتصادية، كما يقول المحسوبون على المحافظين المتشددين، وبات يجاريهم كثر من تيارات ثانية. وواجه روحاني، خلال دورته الرئاسية الأولى، مشكلة مع البرلمان في تعيين وزير التعليم العالي، فرفض النواب عدة خيارات اقترحها. وبعدما منحوا الثقة لرضا فرجي دانا، عزلوه من منصبه لأسباب تتعلق بارتباطه بملف احتجاجات العام 2009 وبملف ثانٍ يتعلق بمنح طلابية. ورشح الرئيس وزيرين من بعده، ووافق البرلمان على الثالث. لكن الأمور أصبحت أكثر سلاسة في الدورة الرئاسية الثانية، فوافق النواب من المرة الأولى على منح هذه الحقيبة لمنصور غلامي، والسيناريو ذاته تقريباً تكرر في وزارة التربية، كما أن وزارة الرياضة واجهت معضلة في تعيين صاحب حقيبتها، فلم يوافق النواب على ثلاثة أسماء مقترحة في الدورة الرئاسية الأولى لروحاني، ووصف البعض ذلك بالانتقام من الرئيس الذي أصر على تقديم خيارات إصلاحية لتولي حقيبة التعليم العالي. وواجهت حقيبة وزارة الطاقة عراقيل البرلمان في الدورة الرئاسية الثانية لروحاني التي بدأت العام الماضي، فلم يمنح النواب الثقة لحبيب الله بي طرف، ليكون الاسم الوحيد المرفوض من بين التشكيلة الحكومية المقترحة، كما كثرت العراقيل الاقتصادية التي تواجه روحاني منذ ذاك الوقت، وبدأ بخسارة أوراق قوته، مع أنه خفّض من خطابه التصعيدي إزاء قوى ثانية منتقدة له، من قبيل السلطة القضائية أو الحرس الثوري، لكن ذلك لا ينفي احتمال أنه سيبقى في مواجهة صراعات الداخل الإيراني، وهو ما قد يساهم بشكل أو بآخر بتهدئة الشارع المعني أولاً وأخيراً بوضعه الاقتصادي والمعيشي، والذي احتج مراراً على تدهوره في الفترة الأخيرة.