إنّها تنظرُ إلى الخلفِ كثيراً

07 ابريل 2018
+ الخط -
النظرُ إلى الخلفِ يُميتُ القلب كثيرًا. يشبهُ إلى حدٍّ ما وجودكَ في حلبةٍ للمُصارعة وجهًا لوجه أنت وذكرياتك. وبلحظةِ الخوفِ الكبيرةِ، تريدُ أن تنقضّ عليها ولكنّها تتمكنُّ منكَ بالضربةِ القاضية. فتصبحُ مهمتك الوحيدة أن تُصارعَ لتبقى على قيدِ الحياة.

مُذ غادرتُ سورية وأنا أنظرُ إلى الخلفِ كثيراً. ولهذا لا أستطيعُ الوقوفَ بثباتٍ ومن دون ميلانٍ حتى الآن.
وحدي أعرفُ ذلكَ الطريقَ الممتدَّ إلى أقصى الخيبات. أتّتبع أثرَ الحرائق التي تركَها قلبي على منفضةِ الطريق رمادًا. أُصبّر نفسي قائلةً لها إنَّ كلَّ شيءٍ سيكونُ على ما يُرام. حتى وإنْ كانت نُدوبي بحجمِ الكرة الأرضية.

أُربّت على كتفي بيدي واعدةً إيايّ أنَّ لي وطنًا آخر. جروحُهُ بلغتْ عَنَان السّماء. سيشفى وإن كنتُ أخافُ أن أزورَهُ يومًا فأجد كلّ ملامحِه الجميلة قد طُمِست وانمحَتْ.
ولأنّ بعض الكلماتِ تقضُم القلبَ قطعةً قطعة. فَتُحيله ندمًا ويأسًا. أفتحُ كتاب "كلمات رديئة" للكاتب والرسامِ العراقيّ "ميثم راضي" للمرة السادسة أو السابعة.

لا أعلمُ لمَ أبحثُ في ظلِّ كلّ هذهِ الأزماتِ المُوجعة عن فُوّهةٍ يعبرُ منها الألمُ دفعةً واحدةً.
كلّما شعرتُ أنَّ ثمّة ثغرةً في القلب سينفذُ منها الدم أفتحُ كلماتِه المُنتقاة على مَقَاسِ أوجاعنا - نحن المنكوبين في البلادِ العربية - لتزدادَ الثغراتُ ويزدادَ معها الألم وكأنّها حالةُ جلدٍ للذاتِ على ما ضيّعناه يومًا.
لا أريدُ سوى أن يكونَ حجمُ الذكرى نازفًا كما تنزفُ سورية الآن. ولا تجدُ مَن يُضمّدُ جراحَها أو يرفعُ عنها ما أصابها.
كما تنزفُ العراق. كما يبكي اليمن. كما تألمُ فلسطينُ دائمًا.

يكفي أن تكونَ بلادُكَ جريحةً جُرحًا عميقًا. يكفي أن تُبادَ الموصل بحجةِ القضاءِ على داعش. يكفي أن تجتاحَ الكوليرا حضارة عظيمةً كاليمن. حتى تقرأَ هذا الكتاب فتشعرَ بوخزٍ في قلبك.
يكفي أن تفقدَ صديقًا، جارًا، حارةً، طريقًا وروحًا، حتى تُقيمَ الحِداد كلّ عام وتُشعلَ شمعةً على روحِ كلّ مَن فقدتْه حتى لو كانَ حَجرًا. يكفي أنْ تحبسَ دموعك طيلةَ أيامٍ بل أعوام. لتسمحَ لها وأخيرًا بالانسكابِ على خدّيك.
وتخاطب بعدها مَن حولك:
يا تُرى "عندما ينتهي كلّ شيء
هل سيصنعونَ فيلماً عنّا بعد خمسينَ سنة
حيثُ تمتلئُ الشّاشة بالجثث
ويسألنا أحفادنا كيف نجوتُم من كلّ هذا
ونقولُ لهم: كنّا نقومُ بعد أن ينتهي التصوير ونذهبُ إلى بيوتنا"!
نعم. أنظرُ إلى الخلفِ كثيرًا حتى أصبحتُ كلّما ذُكِرت سورية أشعرُ بسربٍ من النوارس يغادرُ قلبي للضفة الأخرى يقتاتُ من فُتاتِ خُطواتي هناك ويعود إليّ بحفنةٍ من الحنينِ المُوجع.
أتذكرها على طريقة "ميثم راضي" فتأتيني "كقطعِ أثاثٍ خشبيةٍ تكاتِبُ غابةً كبيرة ووحدها الشّجرة التي صنعوا من ابنها تابوتًا، لا يصلُها أيّ بريد".

أستحضرها فتعبرُ إليّ كما كان "يعبر العُشّاق نحو بعضِهم البعض مثلَ الغُرز. عندما كانتِ الشَّوارعُ جروحًا".
أبحثُ عن كرسيّي الفارغِ فيها كَمَن تبحثُ عن الذكرى الوحيدة التي تركَها لها زوجُها الميّت. أهرب منها أحياناً كالذين "يركضُون في التقاريرِ المصوّرة عن الحرب".
أتذكرها في صورةِ ذلكَ الشّاب الذي أوقفَه رجالُ الأمن وأنا في طريقي إلى جامعةِ دمشق. أنظرُ خلفي فأجدُهُ شابًا مُصفرَّ الوجه. يداهُ ترتجفان. تهمتُه الوحيدة أنَّ اسمهُ موجودٌ على قائمةِ المطلوبين عند رجالِ الأمن الأسديين.
أرى في عينيْه دموعَ أمٍّ لن تتسلَّم جثةَ ابنِها إلَّا بعدَ أعوام.
أفتّش عنها في دموعِ صديقتي التي فقدتْ زوجَها بعد لحظاتٍ مِن ولادتها. زوجها الذي خرجَ من التعذيب في سُجون الأسد أشبَهَ بميّت. شاهدَ ثمرةَ حُبه. ابنَهُ الوحيد. ثمَّ لفظَ أنفاسَه الأخيرة. هي الآن تحلمُ أن يكبرَ ابنها الذي يحملُ اسم صديق والده الطبيب الذي ماتَ تحتَ التعذيب هو أيضًا.
أُراودها كي ترحمَنا وتظهرَ لنا:
"كسترٍ لآثامنا. فقد أصبحنا وكأنّنا نبحثُ عن قطعةِ حياةٍ في بالةِ الموتى
لا يهمّ حتى لو كانتْ بلا أزرار
أو رثّةً قليلًا
لا يهم. حتى لو لم تكُن على مقاسِنا
نحنُ أصلًا سنرتديها داخلَ البيت فقط
فلقدْ صارَ مرعبًا جدًا: أن نبقى عراةً تمامًا".
بإمكانِ الوطن أن يكون كلّ شيء بالنسبةِ لمواطنٍ عادي. ولكنّه بالنسبةِ لمعطوبي الحروب والقلوب، فهو يشكل خرابًا وقَدَرًا غيرَ محتوم. لذا كانَ لا بدّ أن أتكلّم عن كاتبٍ كـ"ميثم راضي" يجيدُ انتقاءَ الكلماتِ البسيطة جدًا. المؤلمة كثيرًا. كيفَ لا وهو ابنُ العراق الجريح الذي يلدُ في كلّ لحظةٍ وزمن جيلًا من الشُّعراء والعلماء والمبدعين.
ختامًا فقط أريد أن أضيف معلومة عن ميثم. هو لا يملكُ سوى كتابٍ واحد. "كلمات رديئة"، عبارة عن قصائدَ نثرية مليئةٍ بالحُزن والندم ونبذِ الحُروب والطائفية. بالإضافة إلى أنّه رسام كاريكاتير موهوبٌ جدًا. كلُّ لوحةٍ من لوحاتهِ الفنية تصلحُ أن تكونَ قصةً كاملة في حدّ ذاتها.

18247F94-0240-420E-B3AF-D0A6E6BDC48B
خولة شنوف

جزائرية الأصل سورية النشأة والهوى.. خريجة لغة عربية وحاصلة على ماجستير في الدراسات الأدبية أدب ونقد حديث من جامعة دمشق.تقول: أنا ثائرة وحرة حتى مطلع الفجر.