إنهم يكرهون هذا الرجل

14 سبتمبر 2015

جيرمي كوربين..الأعلى صوتاً في انتقاد إسرائيل في بريطانيا (سبتمبر/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -

كلصٍ في ليلةٍ مظلمةٍ، تسلَّل بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، إلى منطقة يوستون، شمال غرب لندن، ليرى الوثيقة التي على أساسها قامت الحكومة البريطانية بـ"مساعدة" الحركة الصهيونية في "إنشاء وطن قومي لليهود". كانت زيارة نتنياهو، قبل أيام، إلى لندن، قد ترافقت مع احتجاجات، عالية الصوت، ضد رئاسة الوزراء البريطانية التي سمحت بإتمام زيارة مجرم حرب، بحسب قطاع واسع من الرأي العام البريطاني الفاعل. كانت الزيارة، من أصلها، مغامرةً، وكان يمكن أن يُعتقل نتنياهو لو لم يكن رئيس حكومة في الخدمة، لأن لهؤلاء حصانة دبلوماسية، كما علّقت رئاسة الوزراء البريطانية. من يُراقب الوضع في بريطانيا يدرك الميل المتسارع ضد حروب إسرائيل على الفلسطينيين (وحقل رمايتها المفضّل: قطاع غزة)، وتنكليها بهم على غير صعيد. لم تكن مصادفةً أن أحد أقوى الشعارات التي رفعها المتظاهرون في وجه نتنياهو: اعتقلوا قاتل أطفال غزة.

ويبدو أن الحكومة البريطانية والسفارة الإسرائيلية في لندن قد وضعتا رغبة نتنياهو في التعريج على "المكتبة البريطانية" الشهيرة، خارج نطاق الزيارة الرسمية، لكي لا يثيرا مزيداً من الاحتجاجات. ولم نعرف، نحن الذين تابعنا الزيارة، عن "خَطْفة الرِجْل" النتنياهوية، إلا بعدما انتهت الزيارة.

لا بدَّ أنكم عرفتم، الآن، أيّ وثيقةٍ تسلَّل نتنياهو لإلقاء نظرةٍ عليها في "المكتبة البريطانية". إنها وعد بلفور، بالطبع! ولا بأس من التذكير به: هي رسالة وزير الخارجية البريطاني، آرثر بلفور، عام 1917، إلى اللورد روتشيلد، يؤكد فيها تأييد حكومة جلالة الملك مطامح الحركة الصهيونية بجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود، في الوقت الذي قطعت فيه هذه الحكومة وعوداً موثَّقة للشريف حسين، شريف مكة، بإقامة مملكة عربية على البلاد التي كان يسيطر عليها العثمانيون في المشرق العربي، بما فيها فلسطين. ظلّت مراسلات حسين ـ مكماهون، وغيرها من وثائق بريطانية تتعلّق بحكم العرب أنفسهم على الأراضي التي انكفأ عنها العثمانيون في الحرب العالمية الأولى، حبراً على ورق، فيما نُفِّذَ الوعدُ الذي قطعه بلفور بالحرف.

تسلُّلُ نتنياهو اللصوصيِّ إلى "المكتبة البريطانية"، وعدم قدرة عدد من قادة إسرائيل العسكريين زيارة المملكة المتحدة يعكسان المزاج البريطاني العام المؤيد للحقوق الفلسطينية. وهكذا، لاحظت الصحافة الإسرائيلية أنه في الوقت الذي زار فيه نتنياهو "10 داوننغ ستريت"، مقر رئيس الوزراء البريطاني، كان هناك جمع انتخابي كبير يسطِّر تطوراً دراماتيكياً في الحياة السياسية البريطانية، عبر ترجيح حظوظ جيرمي كوربين، النائب في حزب العمال، لرئاسة الحزب، خلفاً لإد ميلباند، المتحدّر من أبوين يساريين يهوديين مهاجرين من أوروبا الشرقية.

ليس هناك أكثر تعبيراً عن التغيّر في الحياة السياسية البريطانية، وميلها الى اليسار ومساندة قضايا الشعوب، وفي مقدمها القضية الفلسطينية، ممّا حصل في الحزب البريطاني العريق، بل حتى ما حصل في حزب المحافظين الذي اضطر إلى الزحف إلى الوسط، سواء في تحالفه مع حزب الأحرار في الولاية السابقة لكاميرون، أم في استمرار تركيزه على القضايا التي غالباً ما تكون "عمالية".

انتخاب جيرمي كوربين، السبت الماضي، زعيماً جديداً لحزب العمال البريطاني، وهو أوثق أصدقاء فلسطين، وأكثر ناقدي السياسة الإسرائيلية داخل مجلس العموم، خبر سيئ للحكومة الإسرائيلية وللقوى المؤيدة لليمين الإسرائيلي في بريطانيا. فهذا أكثر سياسي بريطاني يكرهه مؤيدو إسرائيل. إنه الأعلى صوتاً، والأثبت على موقفه، بين الساسة البريطانيين على هذا الصعيد، ولم يبزَّه في ذلك سوى الراحل توني بين. عليكم أن تقرأوا التعليقات التي تلت انتخاب كوربين زعيماً لحزب العمال من مؤيدي إسرائيل البريطانيين، والصحف الإسرائيلية المعتدلة، مثل هآرتس التي كادت تدمغه بـ"معادة السامية"، لتدركوا دراماتيكية الخطوة. ولكن، مهلاً، ليس كل منتقدٍ عنصرية السياسة الإسرائيلية معادياً للسامية، كما أن قاعدة حزب العمال لم تنتخب كوربين لأنه معادٍ لإسرائيل، فهذا ليس شغلها، بل لأسباب اجتماعية واقتصادية داخلية بالدرجة الأولى.

 

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن