إنهم يكتبونني

16 ديسمبر 2015

ساراماغو:الإحسان هو ما يتبقى، عندما لا يوجد اللطف والعدل(Getty)

+ الخط -
ـ "سار الموتى يوماً في مظاهرةٍ غاضبةٍ متلفّعين بأكفانهم العتيقة المهترئة الوسخة، وقصدوا قصر الحاكم، وطوّقوه غير مبالين بحراسة المسلحين، مطالبين بتنفيذٍ سريعٍ لكل مطلب من مطالبهم، فأطل الحاكم على الموتى من شرفة قصره، وصاح بهم متسائلاً بصوت حانق: ما هذا الضجيج والزعيق؟ ألا تعرفون أن المظاهرات محظورة؟ هل تريدون أن يقال عن بلادنا إنها بلاد لا يجرؤ على التظاهر فيها إلا الموتى، فيُساء إليها شر إساءة، ماذا تريدون؟ هيا تكلموا، وأعاهدكم على تحقيق كل مطلب لكم، إذا ثبت أنه عادل ومعقول.

صاح الموتى: نحن جياع، ونريد أن نأكل. فقال الحاكم لهم: ما هذا الكلام العابث؟ الموتى لا يحسون بالجوع، ولا يمكن أن يعرفوه. صاح الموتى: نريد مستشفيات جديدة وأطباء قديرين. فقال الحاكم لهم: لا تكونوا أنانيين، فهل تطالبون بإهمال رعاية صحة الأحياء، والعناية بصحة الموتى. صاح الموتى: نريد حدائق، يلعب فيها أطفالنا. فقال الحاكم لهم: كل مقبرة من مقابركم فسيحة، وملأى بالشجر والعشب، فمن يمنع أطفالكم من اللعب واللهو؟ صاح الموتى: نريد بيوتاً يدخلها الهواء والشمس. فقال الحاكم لهم: لا يحق لكم المطالبة إلا بقبور صحية.

صاح الموتى: نريد مدارس وجامعات جديدة. فقال الحاكم لهم: وهل هناك فرق يُؤبه به بين الميت الأمي الجاهل والميت المتعلّم المثقف. صاح الموتى: نريد برلماناً منتخباً بنزاهة، وبغير تزوير في الأصوات. فقال الحاكم لهم: موقف القانون من هذه المسألة ليس فيه قولان: من يمت يفقد حقوقه الانتخابية كلها. صاح الموتى: نريد الحفاظ على استقلال بلادنا. فقال الحاكم لهم: بلادكم هي مقابركم، ولا أحد يحاول الاعتداء على استقلالها، والانتقاص من سيادتها. صاح الموتى: نريد تنظيماً جديداً للسير يحمي أرواح الناس. فقال الحاكم لهم: مطلبكم عادل وسننظر فيه بأسرع وقت. صاح الموتى: نريد الحرية. فرمق الحاكم الموتى بازدراء، وقال لهم متسائلا بهزء: وماذا سيفعل الموتى بالحرية؟ عندما كنتم أحياء، خفتم من أن تطالبوا بها. فلم يتفوّه أي من الموتى بكلمة، وتفرّقت مظاهراتهم، وعادوا إلى قبورهم، قانطين يغمرهم الخجل".

الكاتب والقاص السوري الكبير زكريا تامر من أحدث كتبه "أرض الويل".  

ـ "عيناك نافذتاك". لا أذكر أين قرأت هذا التشبيه الفريد، ربما في الكتاب المقدّس. إنهما ليسا نافذتين تطل منهما على العالم الخارجي فحسب، لكنهما أيضا النافذتان اللتان يطل منهما العالم الخارجي إلى داخلك. وما أفظع أن يطل العالم في عينيك فيراهما مظلمتين. وما أشد وطأة العينين المظلمتين على صاحبهما، وعلى من يطل فيهما، وما أشد الوطأة، حين تكون العيون قد أظلمت، أو هي تبرق البريق الأخير، ويلمح الناظر فيها الظلام يزحف ويطبق. كان ظلام العيون أشدّ ما في ظلام الأوردي إظلاماً، وأكثرها إثارة للأسى والانقباض".

المناضل والمثقف المصري سعد زهران من كتابه الفذ "الأوردي مذكرات سجين".

ـ "لحسن الحظ أنه توجد كلمات لكل شيء، لحسن الحظ أنه توجد كلمات ستقول دائماً إن من يعطي عليه أن يعطي بكلتا يديه، بحيث لا يحتفظ بشيء يخص شخصاً آخر شرعاً، مثلما أن اللطف يجب ألا يخجل من كونه لطفاً، كذلك فإن العدل ينبغي ألا ينسى أنه، قبل كل شيء، إعادة مِلك إلى مالكه، إعادة الحق إلى صاحبه. كلمات كلها تبدأ بالحق الأساسي في العيش بكرامة. لو طُلب مني أن أضع الإحسان واللطف والعدل وفق ترتيب الأسبقية، لأعطيت المكان الأول للطف، والثاني للعدل، والثالث للإحسان. لأن اللطف يوزّع العدل والإحسان من تلقاء ذاته، ولأن منظومة العدل المنصفة تحتوي بداخلها ما يكفي من الإحسان، فالإحسان هو ما يتبقى، عندما لا يوجد اللطف والعدل".

الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو من "المفكرة"، ترجمة عدنان حسن.

ـ "في العالم الذي يكون فيه الزمن دائرياً، ستتكرر المصافحات والقبلات والولادات والكلمات، وهكذا أيضاً كل لحظة ينهي فيها صديقان صداقتهما، كل مرة تتفكك فيها أسرة بسبب النقود، كل ملاحظة فاجرة في خصومة بين الزوجين، كل فرصة ضاعت بسبب غيرة رئيس، كل وعدٍ لم يُنجز. وتماماً كما ستتكرر جميع الأشياء في المستقبل، فإن جميع الأشياء التي تحدث، الآن، حدثت مليون مرة من قبل، قلّة ما من البشر في كل بلدة، تدرك بغموضٍ في أحلامها أن كل شيء حصل في الماضي، هؤلاء هم البشر ذوو الحياة الشقية، الذين يشعرون أن خطل محاكماتهم وأفعالهم الخاطئة، وحظهم السيئ حدثوا في دورة الزمن السابقة. يصارع هؤلاء المواطنون الملعونون أغطية أسرّتهم في منتصف الليل، غير قادرين على النوم، مروّعين من معرفة أنهم لا يقدرون على تغيير فعل واحد، إيماءة واحدة، ستتكرر أخطاؤهم في هذه الحياة، كما في الحياة التي سبقتها".

الكاتب الأميركي آلان لايتمان من رواية "أحلام أينشتاين"، ترجمة أسامة إسبر.

ـ "لا مصادر للكاتب أفضل من أسباب إحساسه بالعار، الكاتب الذي لا يكتشف في ذاته أسباباً للشعور بالخزي، أو يتهرّب من هذه الأسباب، ليس أمامه إلا السرقة أو النقد".

إميل سيوران من "المياه كلها بلون الغرق"، ترجمة آدم فتحي.

ـ "تغيّرت مع مرور الزمن، ثم تغيّرت مرات عدة، وأكاد لا أذكر، الآن، ملامح أشخاص مرّوا في حياتي، إلا إذا قررت الغوص في عمق اللعبة، واستحضارهم فرداً فرداً، لكي أستعيد تواصلاً، لا أعرف إن كان فعلاً ضرورياً، أو نابعاً من محاولة لمعرفة نفسي. ولكن، هل سأصدق الذاكرة؟ كيف أفعل وقد ارتجلت وجودي دائماً من أماكن غير متوقعة، كفيلة بأن تبقيني في حالة تيقّظ؟ هل يمكن أن تبدو الصورة المنتظرة بفارغ الصبر صحيحة الآن؟ وحتى إن كانت كذلك، لا يهم كثيراً، الأمر الوحيد الذي قد يحدث فرقاً جذرياً في الصورة هو ما لا نقول، ومع ذلك، سأواصل الحكي لأمر واحد لا غير، متعة القول، وربما أيضاً متعة البوح، أو متعة الكذب".

الروائية اللبنانية جنى فواز الحسن من رواية "أنا وهي والأخريات".

ـ "والآن، أيها السادة، أقول لكم كلمة تبقى في ذكرياتكم وعقولكم، قاعدةً، ونهاية أيضاً، لكل الميتافيزيقا (هكذا يقول الأستاذ العجوز للطلبة في آخر درسه المزدحم)، لقد درستم الجديد والقديم، النظم الإغريقية والجرمانية، درستم: كانط... وهيغل، وأفلاطون، وأرسطو الأعظم من أفلاطون، وأعظم من سقراط، درستم يسوع طويلاً. الآن... أرى تلك النظم الإغريقية والرومانية محض ذكرى، والفلسفات كلها، والكنائس كلها، لكني أرى تحت سقراط ويسوع، أرى جلياً، حب الإنسان رفيقه، وما يصل الصديق بالصديق، والزوج بالزوجة، والطفل بالوالدين، والمدينة بالمدينة، والبلاد بالبلاد".

الشاعر الأميركي والت ويتمان من "أوراق العشب"، ترجمة سعدي يوسف.

 

دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.