إلى نورهان... التي أنقذتني

05 سبتمبر 2016
نورهان (مواقع التواصل)
+ الخط -
عندي أمل فيك، وبيكفي.. تغني مع فيروز وتتمايل مع اللحن. فيديو تضج فيه الصبية جمالا صاخبا وضحكة، وعيون سود "حلوين ما بينتسو". عن نورهان التي قررت أن ترحل عن عالمنا هذا، أتحدّث.

لم أعرفها، لم تكن صديقتي. أشعر بالأسف حيال الأمر أحيانا، وأحيانا أقول إنني تجنبت بذلك ألما أكبر.. حين وقع الخبر على مسمع (مروة 1) بكت بحرقة، هي البعيدة عن بيروت وعن نورهان وعن أصدقائهما.

صوت (مروة 2) يأتي على الهاتف من بيروت مخنوقا. نادين، يارا، أحاول مراسلتهن. أبكي مع (مروة 1)، نبكي نورهان، نبكي أنفسنا، نبكي بيروت. نحن الذين طحنت بيروت عظامنا الهشة مرارا وفي كل مرة ننتفض من جديد كانت تدهسنا وتحرق آمالنا. في تلك الليلة استسلمت. ماذا تجدي نفعا الحياة، ما فائدة أحلام ندرك أنها لن تتحقق، كيف قتلوا ضحكة هذه الفتاة ابنة العشرين، كيف انتحروها وأسقطوا معها قلوبنا أرضا.


لا يحق لأحد منا الغوص في أسباب قرار الآخر بإنهاء حياته، لا يحق لنا التحليل أصلا، فالسر رحل مع نورهان كما رحل قبلها بشهرين مع حسن الذي جاء من سورية ليرقص رقصته الأخيرة في سماء بيروت. لكن بعض الإحصاءات تشير إلى شخص ينتحر في لبنان كل ثلاث أيام. كيف لنا إذا أن لا نشك بهذه البلاد وعجزها عن احتوائنا، كيف لنا أن لا نتهمها بقتلنا.

وهل نحن المحطمين في هذه الدنيا التي هرست أحلامنا، أحياء أصلا؟ هل يكفي أن نتنفس لنقول أننا أحياء؟ أسئلة وجودية كانت تنتهشنا جميعا، نحن الذين لم تجمعنا مدرسة أو جامعة أو حي، بل التقينا على طريقة واحدة في التفاعل مع الأحداث، ومواقف متشابهة، وصحن بطاطا حرّة في مربوطة أو أنخاب في مزيان فصرنا ما يسمى "بجماعة شارع الحمرا".

لا أنتمي إلى الجيل الثاني من هذه الجماعة، جيل الحراك الذي تنتمي إليه نورهان، بل إلى جيل 2013 - 2014 جيل الثورة السورية حيث كنا نخطط لاعتصاماتنا ونكتب شعاراتنا لأجلها في مقاهي الحمرا، ونفرح ونتشاجر ونحب ونحزن ونتفاءل ونيأس ثم نودّع بعضنا هناك. إلا أن الجيلين من هذه الجماعة تجمعهم كيمياء مخيفة. يكفي أن ننظر إلى منشوراتنا الفيسبوكية وتفاعلنا العفوي الآني مع الأحداث لنعي تلك الكيمياء.

في الصباح الأول لرحيلها، كان فيسبوك يضج بصور نورهان مبتسمة. أصدقاؤها يخبرون عن البطيخ الذي تحب، وموسيقاها وخواتمها الكبيرة وكحلها الأسود ورقصها الجميل وقهوتها. غريب كيف تتشارك نورهان مع حسن حب الرقص. صرت أخشى الرقص وأخاف على الراقصين.

أنا التي عزلت نفسي عن صداقات قوية لسنتين خوفا من خسارتها، بكيت نفسي. من يبكيني غدا إذا رحلت. لا أريد العيش وحيدة والموت وحيدة بعد الآن. سأتمسك بمن أحب، ستتضاعف أعداد من أحب.

ما قيمة حياة بلا حب.. ألا يكفي الحب الذي صرنا نفيض به على بعضنا بعد رحيل نورهان لنعيش؟ أليست كحلتها وموسيقاها سببا كافيا لنضحك مجددا في وجه الحياة؟ لا يستحق قلبا أمي وأبي ندبا جديدا، أختي التي لم تجدني في السنوات الأخيرة بجانبها كما يجب أن تكون الأخت، هرعت إليها باكية أسألها أن تحضنني معنويا.

أنقذتني هذه الصبية الحلوة، أنقذتنا. صفعتنا على وجوهنا لنصحو ولندرك كم خسرنا. يقال أن قلوب المهزومين تجتمع على الهزيمة، ونورهان هزمتنا بطهرها العصي على تطويع بيروت له، بنقاء قلبها الذي لم يحتمل تلوثنا، نحن جماعة الحمرا، الذين وصفتنا "حديثة نعمة" في الصحافة وفقيرة أخلاق عموما، بـ"المعقّدين نفسيا"، حين تحاملت على نورهان في موتها، ممكن لأنها تغار أضواء المحبة الحقيقية التي انتشرت حول نورهان، هي التي لا يتعدى طموحها بعض أضواء الشهرة المزيّفة المنبعثة من جثث أطفال في سورية.

الآن فهمت هذه الصحفية المسكينة، فمن يدن نورهان في موتها ستمتّع نظره صور جثث أبرياء الحروب. يا إلهي، هل حقا هذا العالم يحوي نورهان وتلك الصحفية في آن؟!

يكتب صهيب: والذين ينتحرون ممن نحبّهم، كيف نقول لهم أننا سننتقم من الحياة.
سننتقم يا رفاق، سأنتقم، وسننتقم. مروى ومروة ويارا وفارس وأحمد ونادين وأختي وأصدقاء كثر، سننتقم جميعنا لنورهان وحسن.
سأنتقم من حزني بانتزاع لحظات حلوة من هذه الحياة، سأنتقم من اكتئابي بعمل أحبه، سأنتقم من المسافة باحتضان أمي وأبي وتقبيلهما كثيرا، سأنتقم للسعادة بطيارة الكترونية صغيرة كنت قد وعدت أختي الصغرى بها ونكثت، سأنتقم لطفولتي المشتتة بفرح أصنعه رغما عنه ومن أبسط التفاصيل كأن انتظر يوم تنجب لي قطتي قططا صغارا يشبهونها، سأنتقم لكل خيباتي بالكثير من المسامحة، سأنتقم من وحدتي بأنخاب الصداقة، سأنتقم من الظلم بعلم الثورة السورية أرفعه في كل فرصة، وصداقات افتراضية أخسرها لأجل كل موقف مع حراك مدني في بيروت، سأنتقم بالحب لأجل كل من أحب، وحين أنهي انتقامي هذا، سأتكحّل بكحل نورهان الأسود وأحلّ شعري وأرقص.. لن أخاف الرقص والراقصين هذه المرة.

(لبنان)
المساهمون