إلى الخلف دُر

29 أكتوبر 2014
لـ يزن خليلي / فلسطين
+ الخط -

في مطلع العام 1988، كان بجوارنا، في الحي نفسه، فنانٌ تشكيليٌ، لديه قدرة فنية عالية على تشكيل وتجسيم الخرائط بالجبص، رأيت منها الكثير. قال لي مرة: سأصنع لك "خارطة فلسطين". فرِحتُ مثل فراشة. حلمت أيامها كثيراً بالخارطة، وصرت أهلوس بها، وكل يوم أسأله عنها، بلا مللٍ ولا كلل.
وبعد فترة، قال: الخارطة جاهزة.

كنت في سن السابعة، مضى على الانتفاضة شهور قليلة، والجيش في كل مكان. وضعت الخارطة في كيس أسود، وخبأتها مثلما يخبئ الفدائي سلاحه. خبّأت الخارطة خلف دولاب الصحون وأغراض المنزل، وأخفيتها. راودتني كوابيس عن قدوم الجيش بشكل مفاجئ إلى المنزل، يمسكها الجندي بين يديه، ويصرخ في وجوهنا: لمن هذه الخارطة؟ ثم يكتشف أمري، فتحل الكارثة عليّ.

صرت أسأل أمي كل يوم: إذا اعتقلني الجيش، هل سيأخذونني؟ كنا أيامها نشير إلى كل من يعتقله الجيش بفعل: أخذَه، بدلاً من اعتقَلَه. نزعنا عن فعل الاعتقال شكله المنظم القانوني في انزياح غير واعٍ تجاه فعل الخطف. وفي الأخذ خطف! كانت تضحك أمي دائماً، وتقول: أه، سيأخذونك. فأخاف أكثر، ثم، يزيد اعتنائي بالخارطة، ولكثرة ما غيرت مخابئها، تهشمت ملامح الخارطة، ارتطمت كثيراً بالأثاث، تهشمت تفاصيلها البارزة المصنوعة من الجبص، ومع ذلك ظلت عندي لأطول وقت ممكن.

كنت دائماً أطيل النظر إلى الخارطة. أول مرة في حياتي، أرى خارطة بهذا الوضوح، وبهذه التفاصيل البارزة. حفظت أين تقع قلقيلية عليها، وصرت أتخيل بيتنا على جبل من جبالها، صرت أعرف أين يقع المنزل عليها: هنا منزلنا، وهنا منزل عمي فلان، أما هنا فمنزل جدي، وهنا مدرستي. وهكذا! كنت أرى نفسي، قطعة صغيرة جداً، بحجم حبة رمل في ثنية من ثناياها الكثيرة، وأنادي على إخوتي وأقول لهم: إني أراكم. شبّهت الخارطة بكرة الكريستال التي يستخدمها السحرة، ما أن يمسح يديه الاثنتين عليها، حتى يرى ما يريد رؤيته فيها، وكنت كذلك.

في عام 1991، دخلنا منطقة "المرج" لأول مرة، وأعتنينا بأراضٍ مزروعة بالجوافة والخوخ والمشمش، تواجدنا بشكل مستمر هناك وخصوصاً في العطلة الصيفية، صرنا فلاحين، ببشرة سمراء بفعل الشمس الحارقة، والرطوبة العالية. الرطوبة في قلقيلية عالية ولا تطاق، يتندر المواطنون هنا بالقول إنهم لم يحصلوا من البحر (الأبيض المتوسط) إلا على رطوبته، تبعد المدينة عن البحر 3 كيلومترات مربعة في حين تمنع دولة الاحتلال الناس من الوصول إلى شواطئه. أحببت الخوخ كثيراً، وبفعل الشمس، وفروة الخوخ المزعجة، صار عندي حساسية، سببت لي تشوّهاً مؤقّتاً في الجلد، فكرهت الخوخ، ولم آكله بعدها أبداً، وصرت أهرب من كل من يحمل حبة خوخ في يديه، ما إن أرى حبة خوخ، حتى أجد عنقي ووجهي قد تحوّلا إلى اللون الأحمر مع تهيجات شديدة. ظهرت تقرحات شديدة على يديّ الاثنتين، قال الطبيب، جلده لم يحتمل الشمس والسماد الكيميائي، وفروة الخوخ، أبعدوه عن الشمس حتى يشفى، ابتعدت عن الأرض و"المرج" فترة طويلة، وعندما شفيت عدت.

كان الشتاء قريباً، وجاء موسم الجوافة، صرنا نذهب هناك كل يوم نعتني بالأشجار. كانت كلها ضخمة، وثمارها متأخرة، وتتطلب تسلقها من أجل التقاط الثمار. وقعتُ مرّةً من علٍ، عن شجرة كبيرة، فتورمت يدي ورجلي، لكنني واصلت الذهاب لسقايتها. كانت تُسقى بالطريقة التقليدية، نفتح صنبوراً كبيراً من الماء عند طرف الحقل، وتمشي المياه في مسارب مخصصة لها، "عمّالات"، كنا نغلق مجرى الماء "العمّال" بقطع قماش، يطلق فلاحو قلقيلية عليها اسم: "شَلَتَة"، أمام حوض الشجرة التي نريد سقايتها، وحين تنتهي حصتها، نفتح المسرب مرة أخرى لتحط المياه في حوض شجرة أخرى، وهكذا، كنا نسقي الأرض كاملة.

لاحقاً، زوّدها أبي بأنابيب بلاستيكية، مفتوحة على شكل نقاط ماء عند كل شجرة، وصارت تسقي الأرض بجهد قليل وبوقت أقل، وبمتعة أقل طبعاً. أمضينا وقتاً طويلاً من العمل واللعب والطفولة في الحقول، فتراجعت علاماتنا المدرسية، بشكل واضح، فمُنعنا من الذهاب إلى هناك، حتى استغنى عنها أبي كلها، وتركنا بلا أرض، وإن كانت مستأجرة.

عدنا الى الأزقة. من فضاء واسع رحب، إلى فضائها الضيّق النزق. ثنائية الزقاق/ الحقل، في وعي الطفولة الفلسطينية، ثنائية قليلة الالتباس، لا يمكن إيجاد الخط الفاصل بينهما. مثلما يفعل المرح فعله في الحقول، كان قادراً، أن يلبس لباس الأزقة أيضاً. أمضينا حينها أياماً طويلة، نلعب ألعاباً نتقمص فيها أدوار "الملثمين والجيش"، أبطال الشوارع، في حروب متخيلة كنا نريدها أن تنتصر لنا. لكن، حتى تلك الألعاب كانت تثير حفيظة الجيش. طاردنا أكثر من مرة، وفي واحدة من تلك المرات، صعد صديق لنا سور منزل في الحي، وحين أطلق الجيش قنبلة صوتية تجاهنا، كي يفض جمهرة الأطفال، ارتبك، فقفز من على السور، فكُسرت ساقه.

ذهبنا في العطل المدرسية إلى حقول بعيدة على أطراف المدينة، نجلس على خزان مياه ضخم، نصعد إلى قمته عبر سلّم صَدِئٍ مثبت على جانبه، نراقب المروج من علو، ونشاهد مبانيَ شاهقة بعيدة وباهتة من هذا الارتفاع، عرفنا لاحقاً أنّها "تل أبيب"، عاصمة الاحتلال كله، كانا مبنييْن كبيرين، تقول رواية الأطفال حينها إن اسمها: عمارة "شلومو"،  وهو مجمع مكون من مبنيين ضخمين، وشلومو هذا، اسم يهودي قح، الشين بالذات يهودية، مثل حرف الخاء تماماً، كنا، وإذا أردنا أن نتكلم "العبرية" في ألعابنا تلك، لعبة الملثمين والجيش، نضيف حرف الشين أو الخاء إلى نهاية أي كلمة، أو بدايتها، فتصير بالفعل كلمة عبرية. سحر اللغة الطفولية المطواعة على كل الاحتمالات. احتلت المباني الشاهقة في تل أبيب، مجالنا البصري الطفولي، تل أبيب القريبة بصرياً بمبانيها الشاهقة، فصرنا نتخيل أنفسنا نلعب ألعابنا هذه في شوارع تل أبيب، نختبئ في مداخل بوابات مبانيها الضخمة الأنيقة، ونصعد أسوار منازلها الفخمة، وكذلك في كفارسابا، القريبة جغرافياً بالفعل منا، لكن الواقع "شاطر" دائماً في قمع هذه التخيلات.

لاحقاً، نهشت أنياب الديناميت والجرافات جبلاً من الجبال التي تحيط بـ"المرج" من جهته الشمالية. زرعوا في بطن الجبل أعواد ديناميت، وعلى مراحل متتابعة، أحدثوا انفجارات مهولة فيه، فصار الجبل منبسطاً. أحالوا الجبل إلى غير هيئته، لتحل مستعمرة جديدة مكانه، أسموها مستعمرة "تسوريجال"، جلسنا على خزان المياه الضخم، وكنا نراقب الانفجارات الهائلة التي تحدثها عمليات "بقر" بطن الجبل. بقروا بطن الجبل، وبقروا معالم ذاكرة ضاربة في القدم والتاريخ.

كيف تنهي جبلاً هكذا من الوجود؟ هل يتألم الجبل؟ هل يبكي بصمت حارق مثلنا؟ نزع الاحتلال عنه صفة القوة والثبات، وصار نثاراً، واستحال أرضاً منبسطة.
لسان الجبل صار لسان درويش، أو العكس:

أنا شاهدُ المذبحة
وشهيد الخريطة
أنا ولد الكلمات البسيطة
رأيتُ الحصى أجنحة...

صار للجبل أجنحة وطار. عادي إذن، أن يصبح الجبل في وعي الفلسطيني، بمآلات كثيرة، مآلات التحول، والاستلاب، والزعزعة.

 

* كاتب من فلسطين

المساهمون