ثمّة خصوصية تكتنف الحالة الإرترية حين يتم التطرق لعلاقة الشباب بالفضاءات العامة. مردّ ذلك إلى انعدام فضاءات عامة بعينها يعدّ وجودها في أماكن أخرى من البديهيات، أو بسبب حرمان الشباب من ارتياد الفضاءات المتاحة بحجج مختلفة لا تُفهم إلا في سياقها الإرتري.
فللجامعات، على سبيل المثال، خصوصية إرترية، فالجامعة الوحيدة في البلاد، جامعة أسمرا، جرى إغلاقها بشكل نهائي بعدما انخرط طلابها في أنشطة احتجاجية ضد سلوكيات النظام الحاكم بحق مجموعة الإصلاحيين التي نادت بتفعيل الدستور وعقد الانتخابات البرلمانية والرئاسية في عام ألفين وواحد.
والمقاهي بدورها كان يمكن أن تكون الفضاء الأرحب أمام الشباب، كما هو الحال في دول عربية عدة، غير أن الخصوصية الإرترية تُطلّ برأسها من جديد. فمن الصعوبة بمكان أن يجلس شاب في مقهى دون أن يشعر بتهديد أن تتلقّفه أيدي قوات الأمن التي تبحث باستمرار عن الشباب غير المنخرط في التجنيد الإجباري، خاصة إذا ما علمنا أن التجنيد في إرتريا ليس مرتهناً لمدة زمنية معينة بل هو مفتوح وإلى الأبد، بحجة استمرار تهديد الأعداء لإرتريا. هذا الأمر، أضعف وجود المقاهي في حياة الشباب كفضاءات عامة، وقلّص دورها وحصره في الفئات العمرية الأكبر والتي نالت إعفاءاً بسبب كبر السن، أو لوجود عذر طبي.
ولا تخرج النوادي الرياضية عن هذا الاستثناء الذي استحال قاعدة لفرط حضوره وطغيانه. فمع تعدّد الأنشطة الرياضية الممكن مزاولتها بشكل جماعي، فإن تحقيق ذلك أصبح يخضع لكثير من المضايقات الأمنية بعد تنبّه النظام لاستغلال الشباب لهذه الرياضات للهرب من البلاد. فما إن يبرع أي لاعب في رياضة ما ويتم اختياره لتمثيل البلاد في الخارج، حتى يجدها فرصة لعدم العودة. ويكفي هنا للتدليل على ذلك القول إن أربعة منتخبات وطنية لكرة القدم شاركت في بطولات أفريقية لم يعد منها إلى البلاد سوى المدرب الأجنبي وذلك لتحصيل أجره، كما هرب عدّاؤون، كان آخرهم حامل العلم الإرتري في أولمبياد لندن، حيث قام بأخذ دورة كاملة حيّا فيها الجمهور قبل أن يكمل طريقه إلى خارج الاستاد ويختفي في مدينة لندن!
ويبقى الفضاء الأكثر حضوراً في المشهد الشبابي الإرتري هو معسكر التجنيد الإلزامي، "ساوا"، إذ مع أبدية الإقامة فيه ومع تعدد الفعاليات بما يتجاوز مهمته الأساسية، غدا "ساوا" مجتمعاً موازياً، تُسبغ عليه الدولة اهتماماً لا تمنحه للمرافق الطبيعية في الخارج، وتسمح فيه بما لا تسمح به في حياة الإرتريين الطبيعية. فالمجنّد يقضي المرحلة الثانوية من دراسته في المعسكر، وفيه يتعلّم مهنة رديفة إلى جانب القتال، كما يحضر الحفلات الصاخبة التي تُقام في الهواء الطلق.
كل هذه الأمور مجتمعة، جعلت إرتريا إحدى أكثر البلدان نزفاً للشباب، نسبة إلى عدد سكّانها، فكل يوم يمر يشهد هروب نحو مئتي شاب إلى السودان، ومثل هذا الرقم أو أقل قليلاً باتجاه إثيوبيا، فضلاً عمّن يجد طريقاً للإبحار باتجاه اليمن. بينما لم يجد النظام رداّ على هذا التسرّب الهائل في خزّان البلاد البشري، سوى اتهام القوى العظمى بالتآمر لتفريغ إرتريا من طاقاتها الشبابية. لكن الأكثر غرابة أن النظام لم يقم بأي خطوة ملموسة لإيقاف هذا التفريغ، على حد وصفه!