إكرام الحيّ دفنه

16 يونيو 2015

تشييع طارق عزيز في عمّان (13يونيو/2015/Getty)

+ الخط -
ما الفرق بين طارق عزيز حياً وميتاً؟ أعني لماذا سجن النظام العراقي طارق عزيز حياً، وأطلقه ميتاَ؟ أعني هل تبدد خطر طارق عزيز بموته؟ 
على الجانب الآخر، لماذا قبلت الحكومة الأردنية بطارق عزيز ميتاً؟ وهل كانت ستقبل به لو أفرج عنه حياً؟
يخالجني إحساس بأن الفرق بين الجسد والجثة هو ما يحدد الفرق بين المسموح والممنوع في السياسة العربية حصراً، على افتراض أن هناك "مسموحات" في النظام العربي، باستثناء النفاق والتصفيق وموالاة الزعماء، والأمراض المترتبة عليها من فساد ورشوة وترهل.
ما يهمني من أمر طارق عزيز، ليس مبادئه وأفكاره، بل شهادة موته التي فتحت له أبواب السجون والمطارات، ليخرج حراً طليقاً بطرفة عين، في حين كانت حياته شهادة إدانة تستوجب السجن المؤبد، وحبس الحرية، ومنع التجول والسفر، وحظر استقباله في أي عاصمة عربية.
شهادة الوفاة، لا شهادة الولادة، هي ما يمنح المواطن العربي أهميته، هي جواز سفره إذا شاء السفر حراً طليقاً، وعليه دوماً أن يجددها، إذا شاء البقاء بمنأى عن القمع والكبت والسجون والملاحقات الأمنية. أما شهادة الولادة فهي فاتحة الإدانة في مسار حياته المحاصرة بالعسس والمطاردات، وحريٌّ به أن يخفيها، وأن لا يعمل على تجديدها ألبتة.
أقول ذلك، من دون أن أخفي امتعاضي من الطريقة التي حوكم فيها عزيز، خصوصاً حين كان يُقتاد إلى قاعة المحاكمات بـ"البيجامة"، وقد قلت حينها إن "الدورة الدموية" العربية تأبى التوقف بين السلطة والمعارضة، لأن الأخيرة ما تزال تبرهن أنها أشد قمعاً إذا أتيح لها تولي السلطة يوماً، ولنا أن نتذكّر حجم المجازر والفظائع التي ارتكبت في العراق تحديداً في الخمسينيات والستينيات، حين أجهزت ثورة العسكر على النظام الملكي، وكيف تم قتل وسحل وتمزيق رموز العهد البائد وتعليق جثثهم، وماذا صنع الشيوعيون الذين كانوا ضحايا العهد الملكي برفاقهم من حزب البعث في سنوات حكم عبد الكريم قاسم، وكيف كانوا يتلذذون بإعدام خصومهم، وتعذيبهم في معسكرات الاعتقال، ثم كيف انتقلت عدوى "الدورة الدموية" إلى حزب البعث، وهو يفتك بالشيوعيين من خصوم الأمس، حين قيّض له أن يتولى السلطة.
كنت أتعاطف مع طارق عزيز في محنته، على الرغم من أنني لم أكن مقتنعاً بالحقبة الاستبدادية التي كان أحد رموزها، لأنني آليت ألا أصفق لمستبد، حتى لو زرع لي البحر قمحاً أو حرر فلسطين، فمقام الحرية عندي يظل أعلى من "إنجازات" المستبدين برمتها.
أيضاً، تمنيت أن توقف السلطة الجديدة في بغداد تلك "الدورة الدموية" المستمرة منذ عقود، خصوصاً وأنها تربّت في فنادق لندن ونيويورك، وعرفت هناك قيم الحرية وإعلاء شأن الإنسان، وأن تبدأ عهدها بالصفح والغفران، لكن شيئاً من ذاك لم يحدث، بل أبت إلا أن تواصل الدورة نفسها، فتعدم رموز العهد السابق، أو تسجنهم حتى الموت، كما حدث مع طارق عزيز.
والحال أن شهادة البراءة العربية لا تقف عند موت طارق عزيز وحده، بل تشمل كل مواطن عربي، سياسياً كان أو من غير المتعاطين بها، لأننا جميعاً، في نظر حكامنا، مذنبون حتى يثبت موتنا، وحياتنا تهمة نكافح، طوال أعمارنا، للخلاص منها من دون جدوى، وتلاحقنا سلسلة الممنوعات من صرخة الولادة حتى شهقة الموت، وتوصد دون أجسادنا الأبواب والمطارات والوظائف، اللهم إلا إذا حملنا شهادة موت مبكر، تثبت موت أدمغتنا وضمائرنا وإرادتنا.
بهذه الشهادة، حصراً، أعني شهادة الموت، تنفتح أمامنا الأبواب والمطارات والقبور، ونصبح شخصيات مهمة، وتمنح معاملاتنا صفة الاستعجال، وقد نجد في استقبالنا المواكب والاحتفالات، ونصبح على حين غرة ذوي كرامة، لأن "إكرام الميت دفنه".
غير أن أنظمتنا العربية تجاوزت ذلك الحديث النبوي، ليصبح "إكرام الحي دفنه". ومرحباً بطارق عزيز جثماناً، لا جسداً.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.