هدنات محدودة على الارض فقط، لكن ليس في الاعلام وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تواجه إسرائيل حرباً إعلامية مختلفة تماماً، هي الأشد في تاريخها للوصول الى عقول وقلوب الملايين.
لقد سارعت آلة العلاقات العامة الاسرائيلية، في الايام الاخيرة، الى ترتيب لقاءات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مع معظم الشبكات الإعلامية الاميركية الكبرى المؤيدة لإسرائيل، بعدما أرعبها دخول صور الدمار وجرائم جيش الاحتلال عبر شاشات التلفزة الى بيوت الناس، في الأيام الأخيرة، ومناهضة الأجيال الشابة في الولايات المتحدة لسياسات إسرائيل.
كما أظهر استطلاع للرأي أجراه "معهد غالوب" المعروف، نهاية الأسبوع، أن 51 في المئة ممّن يحق لهم التصويت وتراوح أعمارهم بين 19 و27 عاماً، يرون العدوان الاسرائيلي على غزة أمراً غير مبرر، في حين أيدته نسبة أكبر من فئات عمرية متقدمة في السن.
إذا كان تقليدياً أن تكسب إسرائيل إعلامياً ودائماً في مراحل مبكرة، فإن المؤسسات الإعلامية الكبيرة اضطرت، خلال الأسبوع الأخير، الى إظهار نوع من التوازن، وبدأت في عرض صور أقرب الى الحقيقة لكشف بشاعة المعتدين، وتدفع السياسيين في الغرب الى التحذير من استمرار العدوان وتأثيره على الرأي العام بشكل لا يمكن تجاهله. لم يعد بإمكان معظم شركات الاعلام الكبيرة في أميركا وأوروبا المنحازة لإسرائيل، تجاهل الضحايا المدنيين وحجم الدمار والمعاناة.
وضع العدوان الاسرائيلي على غزة حداً فارقاً، سيتوقف عنده خبراء الاعلام والدعاية السياسية. ولأول مرة في التاريخ، يتمكن المتابع، الى حد كبير، من الوصول بسرعة الى ما يكفي من المعلومات التي يشارك فيها كثيرون غيره، وتغنيه بشكل كامل تقريباً، عن متابعة وسائل الإعلام التقليدية.
قرّبت وسائل التواصل الحديثة العدوان على غزة الى الواقع، وأحدثت تفاعلاً أكثر ممّا يمكن أن يحدثه أي تقرير صحافي في جريدة أو بضع دقائق على الشاشة.
لم يعد على المتابعين انتظار الصحيفة في اليوم التالي أو نشرات الأخبار أو البث المباشر ليعرفوا تطورات حدث يهمّهم ويتابعونه ويتفاعلون معه.
كل ما تحتاجه، حساب على تويتر أو فيس بوك أو غيرهما من شبكات التواصل، حتى تنتشر القصص والأخبار والصور، كما حدث مع بث آلاف الصور لآباء يحملون أبناءهم، وأطفال جرحى من القذائف مصابون بالرعب وسط حجم دمار هائل.
وصلت الصورة والاخبار الى عشرات الآلاف من الناس عبر الانترنت قبل أن تتمكن وسائل الإعلام التقليدية، عبر أدواتها وقنوات تحريرها وخضوعها لآلية الرقابة المعهودة على النص والصورة، من نشرها. مع ملاحظة أن تناقل الصور والأحداث يحمل مسحة شخصية، توفّر مصداقية أكثر من تلك التي تنقلها المؤسسات الإعلامية الكبرى.
شبكات التواصل كسرت الاحتكارات
خلال حرب 2008 ـ 2009، كان دور الميديا الحديثة محدوداً، لكن تطور التقنيات الحديثة، خلال السنتين الأخيرتين وتكريس شبكات التواصل الاجتماعي وسيلة إعلامية ودعائية هائلة ومنافِسة للوسائل التقليدية، ساعد هذه المرة في كسر احتكار شبكات الأخبار الرئيسة المنحازة في معظمها إلى إسرائيل. وأهم من ذلك، أجبرتها على الاقتراب من التعامل مع الصورة والنص الذي يتناقله آلاف، بل عشرات آلاف من الناس، خارج رقابتها، وبالطبع على حساب المشاهدين التقليديين ومتابعي الصحف الرئيسة. أمر يقلق الاحتكارات الإعلامية الكبرى ويعمّق السؤال حول دورها المستقبلي.
تراقب إسرائيل بحذر بالغ صعود مواقع، ذات مصداقية، متخصصة في الشروحات وتقديم تفاصيل ومعلومات يشارك فيها القارئ، ما يعني تراجع النصوص الخاصة بالرواية الاسرائيلية والمعدّة سلفاً.
ويلاحظ المختصون في هذا السياق، المعركة الصعبة التي يخوضها حلفاء إسرائيل ضد مواقع اجتماعية تتيح تقديم خلفية تاريخية أهمها، في الوقت الراهن، موقع "ويكي ميديا" الواسع الانتشار.
خسرت إسرائيل حربها على الفلسطينيين في غزة، مهما كان حجم الدمار ومهما ستوقعه لاحقاً من دمار ومجازر، وهي تواجه حرباً إعلامية تخسر فيها كلما طال أمد العدوان وجرائمه. فقد عادت القضية الفلسطينية الى واجهة الأحداث في العالم وفي المنطقة، ويُسلَّطُ الضوء على جرائم إسرائيل ويبرر أكثر وجوب مقاطعتها، من دون أن يتحقق الهدف الرئيس لإسرائيل بضرب الإجماع الوطني.
مرحلة لم تعهدها إسرائيل ولم تكن جاهزة لها تماماً، كما لم تكن جاهزة وغير مستعدّة لتبعات حربها الإجرامية على الشعب الفلسطيني في غزة.
ما قبل عدوان غزة ليس كما بعده، يصحّ هذا على الاعلام أيضاً.