إعادة تشكيل المؤسسات السياسية الفلسطينية: الهدف تكريس تفرد عباس

30 ديسمبر 2018
تزيد خطوات عباس من الانقسام الفلسطيني (عباس مومني/فرانس برس)
+ الخط -
يمضي الرئيس الفلسطيني محمود عباس قدماً في إحكام قبضته على كل مؤسسات النظام السياسي بتفرّد كامل، عبر السيطرة على كل السلطات، وبشرعية فصائلية تتآكل بتسارع، مستخدماً هذه المرة المحكمة الدستورية كذراع قانوني لإسقاط أي ألغام ومعيقات قانونية أو تشريعية في طريقه.
خطوات تغيير شرعية النظام السياسي بشكل عميق، بدأت بطيئة خلال السنوات الثلاث الماضية، لكن وتيرتها تسارعت خلال العام الحالي عبر صيانة شكلية لشرعية المجلس الوطني والمجلس المركزي، وإعادة تشكيل مؤسسات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وفق هندسة تضمن تفوّق عباس ومجموعة صغيرة من قيادة "فتح" والأمن بالدرجة الأولى، وحركة "فتح" ثانياً، للإمساك بكل خيوط النظام كي لا يترك أي أمر للصدفة في الإعداد للمرحلة التي تلي عباس، ليكون 2018 عام تقويض المؤسسات السياسية الفلسطينية.

تغيير النظام السياسي

يقول أستاذ القانون الدستوري في جامعة بيرزيت، عاصم خليل، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "قرار المحكمة الدستورية بحل المجلس التشريعي يترتب عليه أنه في حال غياب الرئيس عباس، لن يستطيع رئيس المجلس التشريعي الحالي عزيز دويك، المحسوب على حركة حماس، أن يكون رئيساً انتقالياً حسب القانون الأساسي". ويرى خليل أن "المحكمة الدستورية ستُكمل المطلوب منها، وهو استمرار تغيير النظام السياسي، عبر استحداث منصب نائب للرئيس، وبهذا يتم الانتقال إلى المرحلة المقبلة".

لكن أمين سر اللجنة التنفيذية لحركة "فتح" صائب عريقات، يقول إن "الرئيس عباس لم يتخذ قرار حل المجلس التشريعي، بل إن من اتخذ القرار هو المحكمة الدستورية". وتبدو تصريحات عريقات متناقضة مع الواقع، إذ صرح عباس لأول مرة بنيّته حل المجلس التشريعي من خلال المحكمة الدستورية في الثامن من الشهر الحالي، في حين نشرت وكالة الأنباء الرسمية "وفا" قرار المحكمة الذي اتُخذ في الثاني عشر من الشهر نفسه، فيما تم الإعلان عنه في الثاني والعشرين منه على لسان عباس بشكل رسمي في اجتماع القيادة. ولم تستطع أي مؤسسة حقوقية الحصول على قرار المحكمة الذي نشرته وكالة الأنباء الرسمية بعد يومين من إعلانه، في انعكاس لمدى الأجواء السرية التي اتُخذ فيها القرار.

وتعليقاً على ذلك، يقول رئيس الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، عمار دويك، إن "تشكيل المحكمة الدستورية أدى إلى تركيز المزيد من السلطات بيد الرئيس عباس، وأصبح هو المشرّع ومن يرأس السلطة التنفيذية، ومع تردي السلطة القضائية حالياً أصبح هناك تركيز كبير للسلطة، وبالتالي المخرج من هذه الحالة هو إجراء الانتخابات بأسرع وقت ممكن". ويضيف دويك في تصريحات لـ"العربي الجديد": "من اليوم الأول قلنا إن المحكمة الدستورية محكمة سياسية وجاءت بتفويض سياسي ولخدمة هدف سياسي، ونحن نرى أن الهدف السياسي لا يصب في مصلحة وحدة الشعب الفلسطيني وإنهاء الانقسام"، متابعاً "هناك تجميع وتركيز للسلطات الدستورية بيد شخص واحد وهو الرئيس عباس".

ويعود تأسيس المحكمة الدستورية العليا إلى القانون الأساسي المعدل لسنة 2003، وأصدر عباس القرار الرئاسي رقم 57 لسنة 2016 بشأن تشكيلها. لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن "قانون المحكمة الدستورية خضع لتغييرات جوهرية خارج الأصول وخارج البرلمان في يناير/ كانون الثاني 2006 قبل استلام المجلس التشريعي المنتخب الذي فازت فيه حركة حماس، لمهامه، فتمت إزالة المادة الخامسة من قانون المحكمة والمتعلق باشتراط مصادقة نواب المجلس التشريعي بالأغلبية المطلقة من أعضائه على تشكيل المحكمة الدستورية، وتم الإبقاء على بند تعيين الرئيس لأعضاء المحكمة"، كما يشرح الخبير القانوني عصام عابدين لـ"العربي الجديد".
تمت هذه التعديلات الجوهرية بعد فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعية عام 2006، وقبل استلام المجلس المنتخب الجديد لمهامه، أي أن الحديث يدور عن أيام قليلة قبل تسلّم "حماس" رسمياً لـ"التشريعي".
بذور الانقسام التي زُرعت في ذلك الحين عبر المساس بقانون المحكمة الدستورية "خارج الأصول وخارج البرلمان"، عبّدت طريقاً صلباً لتتحوّل المحكمة الدستورية إلى أداة سياسية تكرّس قراراتها مفهوم "الفساد السياسي"، على حد وصف 26 مؤسسة حقوقية ومجتمع مدني فلسطينية، في بيان لها.


أهداف حل التشريعي

لكن ما هي الأهداف المعلنة لحل المجلس التشريعي في هذا التوقيت؟ التصريحات الرسمية لعباس تفيد بأن هذا القرار يندرج تحت خانة تنفيذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي في المسارات الثلاثة، وهي أولاً إعادة النظر في الاتفاقات الموقّعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، والعلاقة مع الولايات المتحدة، وملف قطاع غزة.

يتمسك رئيس السلطة الفلسطينية بموقف حازم ضد وساطة متفردة أو احتكار الولايات المتحدة لأي عملية سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن من غير المعلوم إن كان يملك الإصرار نفسه على عدم العودة لأي عملية سلام إلا بعد تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن قراره باعتبار القدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، حسب ما صرح مراراً.

على صعيد العلاقة مع الاحتلال، فقد أكد عباس على حديثه بتعديل أو إلغاء الاتفاقيات، متحدثاً عن "اتفاق باريس الاقتصادي". لكن أحد أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة، الذي اشترط عدم ذكره اسمه لـ"العربي الجديد"، يحذر من أن "الحديث عن اتفاق باريس يأتي في سياق فتح مفاوضات جديدة، والدليل على ذلك اللقاءات التي لم تنقطع، وقام بها وزير الشؤون المدنية الفلسطينية حسين الشيخ ورئيس جهاز المخابرات الفلسطينية ماجد فرج مع وزير الأمن الإسرائيلي (السابق) أفيغدور ليبرمان، ووزير المالية الفلسطيني شكري بشارة مع وزير المالية الإسرائيلي موشيه كحلون لبحث التنسيق الاقتصادي بين الطرفين، إضافة إلى استمرار التنسيق الأمني مع الاحتلال"، مضيفاً "هذا يعني أن الرئيس أبو مازن لم ينفذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي المتكررة حول قطع التنسيق الأمني وعدم لقاء مسؤولي دولة الاحتلال".

في المقابل، لا يوجد أي تغيير يُذكر في قرارات المجلسين الوطني والمركزي على صعيد تبنّ حقيقي للمقاومة الشعبية التي أثبتت السلطة وحركة "فتح" فشلها في حشد الشارع لقضايا هامة مثل قرارات ترامب العقابية، على الرغم من ارتفاع مستوى الخطاب الوطني، إذ بدأ جزء من هذه البيانات بـ"لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة"، وهي العبارة المستخدمة في بيانات الانتفاضتين الأولى والثانية حين كان التفاف الشارع منقطع النظير حينها. والأمر ذاته كان واضحاً في التصدي لقرار الاحتلال بهدم الخان الأحمر، إذ شارك المئات من عناصر الأمن وأقاليم "فتح" وموظفي السلطة والوزارات الذين يتقاضون الرواتب فضلاً عن قيادات الفصائل الأخرى في الاعتصامات اليومية، مقابل العشرات من أنصار المقاومة الشعبية الذين يتواجدون في كل النقاط الساخنة من تلقاء أنفسهم من دون طلب من أي جهة، ويتعرض جزء غير قليل منهم لمضايقات من الأمن الفلسطيني.

ويرى سياسيون وقادة فصائل أن قرارات عباس موجهة ضد حركة "حماس"، وتفتقد لأي إجماع من فصائل منظمة التحرير. وتقول الأمينة العامة لحركة "فدا"، زهيرة كمال، لـ"العربي الجديد"، إنه "لم يتم التشاور بالقرارات التي اتخذها الرئيس حول حل المجلس التشريعي"، مضيفة "كل الفصائل مع رفع العقوبات عن قطاع غزة ودفع الرواتب كاملة، وهذا لم ينفذ". وتلفت إلى أن "التوصية بإلغاء كافة الإجراءات بحق قطاع غزة، تم التوافق عليها في توصيات المجلسين الوطني والمركزي، لكن في كل مرة يتم حذف هذه التوصية في البيان النهائي"، مشيرة إلى أن عباس برر قرار حل التشريعي بالقول "أنتم لم تحضروا ومقاطعين اللجنة العليا. إحنا أخدنا قرارات في اللجنة العليا والذين لم يحضروا يتحمّلون المسؤولية".

قصة اللجنة العليا
تُعتبر اللجنة العليا محطة أخرى كرّست تفرد عباس بالقرار، ورفضه أي شراكة سياسية مع فصائل منظمة التحرير، مثل "الجبهة الشعبية"، و"الجبهة الديمقراطية"، وحركة "فدا"، و"المبادرة الفلسطينية"، وهي فصائل قاطعت اجتماعات اللجنة العليا، وترى فيها خطراً يهدد اللجنة التنفيذية ويسحب صلاحياتها ويهمشها. ويبدو أن هذه المخاوف في مكانها بعد قرار حل المجلس التشريعي الذي اتخذته اللجنة.

ويبدو التدحرج بتهميش مؤسسات منظمة التحرير مرتباً، إذ اختتم المجلس الوطني دورته في الرابع من مايو/ أيار الماضي، بعد عشرين عاماً من الانقطاع، وكان قراره الجديد هو "تفويض المجلس المركزي لمنظمة التحرير بكافة صلاحياته". ويقول مصدر في اللجنة التنفيذية لـ"العربي الجديد"، إن "أحد أهداف عقد المجلس الوطني كان تجديد شرعية عباس ليستطيع الذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول وعرض مبادرته للسلام على الأمم المتحدة، فضلاً عن ترتيب الشرعيات السياسية انطلاقاً من انعقاد المجلس الوطني".

وجاء اجتماع المجلس المركزي في أغسطس/ آب الماضي من دون قرارات تُذكر، ليكون الاجتماع الأخير نهاية أكتوبر/ تشرين الأول حاسماً بقرار جديد، وهو تشكيل لجنة عليا مكلفة بتنفيذ قرارات المجلس المركزي. وتضم اللجنة العليا أعضاء من اللجنة التنفيذية للمنظمة، واللجنة المركزية لحركة "فتح" ومسؤولين في الحكومة، وقيادات في الأمن مثل رئيس جهاز المخابرات ماجد فرج، ورئيس جهاز الأمن الوقائي زياد هب الريح. ومن غير المعلوم عدد أعضاء هذه اللجنة ومن هم جميع أعضائها، لا سيما أنها لا تضم جميع أعضاء اللجنة التنفيذية، فضلاً عن أن صلاحية هذه اللجنة غير معروفة وكذلك مرجعيتها، ولم يصدر أي شيء مكتوب بشأن ذلك.

وترى أوساط فلسطينية أن قرار عباس تشكيل اللجنة الوطنية العليا، في اجتماع المجلس المركزي نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حين اقترح تشكيل اللجنة وقام لاحقاً باختيار أعضائها بنفسه من دون الرجوع للمجلس، جاء مكملاً لخطوات تفرّد كان قد بدأها فعلياً، سواء بتوزيع المهمات في اللجنة التنفيذية، أو عبر استحداث وإلغاء دوائر في المنظمة، واستئثاره بالدوائر التي يرغب بها، مثل الدائرة السياسية والصندوق القومي الفلسطيني.

تكريس هيمنة "فتح"

لعل حجر الزاوية في كل عملية التدحرج نحو التفرّد المطلق لعباس للتحكّم في كل مؤسسات منظمة التحرير، تنطلق من هيمنة الحزب الواحد، أي حركة "فتح"، وهندسة كل الهيئات والمؤسسات لتكون غالبية الأصوات محسومة دوماً للحركة، سواء أنصارها أو المستقلين الذين تختارهم، أو الفصائل الصغيرة التي تدور في فلك حركة "فتح" وليس لها وزن حقيقي في الشارع أو في أي انتخابات للجامعات أو النقابات، مقابل وزن سياسي في المنظمة يدعم قرارات عباس، فضلاً عن تشظي اليسار الفلسطيني الذي يضم خمسة فصائل لم تتوحّد في موقف واحد.

وبالنسبة لـ"هندسة" المجلس الوطني، فلم تُنشر أسماء أعضائه حتى الآن على صفحة المجلس الإلكترونية، على الرغم من نشاطها. ويهدف عدم نشر الأسماء بشكل مكتوب إلى عدم معرفة خريطة العلاقات، سواء العائلية أو السياسية، التي تمت هندستها واختيار الأعضاء على أساسها لضمان هيمنة حركة "فتح" على المجلس. الأمر نفسه تكرر في اختيار أعضاء المجلس المركزي، إذ كانت الكلمة الأولى لـ"فتح" في اختيار هؤلاء، مع قاسم مشترك أكبر في طريقة أخذ القرار في المجلسين، برفع اليد بالأغلبية من دون صناديق اقتراع، فيما لجنة الصياغة التي عادة ما تكون تحت سيطرة "فتح" هي التي تقرر ماذا يخرج في صيغة البيان النهائي، ناهيك أن أيام الاجتماع تكون لإلقاء الكلمات وليس لتشاور حقيقي، وهو الأمر الذي يشكو منه أعضاء المجلس همساً.

تقول عضو المجلس المركزي، فيحاء عبد الهادي، لـ"العربي الجديد": "لم نعرف من هم أعضاء اللجنة الوطنية، لكن رأينا صورتهم في الاجتماع عبر التلفزيون". وتضيف: "لم يتوافق عليها (اللجنة الوطنية) أعضاء المجلس المركزي، كما أن لجنة الصياغة لم تسمع أحداً، وعندما عادت بتثبيت موضوع اللجنة الوطنية في البيان، سألوا الموجودين إذا كانوا يوافقون عليها، وأغلبية الحاضرين رفعوا أيديهم". وتتساءل: "إذا كان رئيس اللجنة التنفيذية هو الرئيس عباس، فلماذا يخوّله المجلس المركزي بالتنفيذ مرتين؟".
أمام هذا الواقع، يتخوّف سياسيون من أن هذا التدحرج في القبض على كل مؤسسات الشرعية الفلسطينية، يؤسس إلى انفصال حقيقي عن قطاع غزة.