إعادة تركيب صورة الياس شوفاني

21 مايو 2015
شوفاني في مشهد من الفيلم
+ الخط -
في البداية ترددت بالذهاب لمشاهدة الفيلم تجنبا لمآس جديدة قد أعرفها عن تاريخ الثورة الفلسطينية، كي تضاف إلى مآسي ثورات هذا اليوم.

فيلم "رحلة في الرحيل" للمخرجة والشاعرة الفلسطينية "هند شوفاني" عن والدها المناضل الياس شوفاني"، الذي عرض منذ أيام في بيروت ضمن إطار خاص للأصدقاء. فيلم مصور على وقع قصائد كتبتها ابنة لأبيها. يحمل اسم كتاب للوالد أيضاً، كم سيكون الياس ومسيرته النضالية حاضرة في فيلم استمر تصويره خمس سنوات.

في بداية الفيلم يظهر الياس في دمشق أثناء اتصال مع ابنته هند، للاطمئنان عليه وسط الأحداث الجارية في سورية، إذ يبدو بروح مرحة رغم سماع القصف من حوله وانقطاع الكهرباء عنه في أغلب الأوقات. الياس الذي قضى حياته يناضل من أجل فكرة الثورة ومفهوم الثورة، ظهر خلال الفيلم منكوبا بما آلت إليه ثورته. هو من انضم إلى الثورة في السبيعينات بعدما ترك جامعته في الولايات المتحدة، حيث كان بإمكانه أن يكون بروفسورا في المهجر، ينظّر عن الثورات وعن تاريخ الانتصارات الوهمية التي تلقيناها نحن، أبناء هذا الجيل.

أو ربما كان بإمكانه أن يبقى قياديا حتى آخر حياته، ملتحقا بالسلطة الفلسطينية، لولا انشقاقه عن حركة فتح عام 1983. القيادي في حركة فتح، والكاتب المؤرخ واليساري المثقف، والباحث في مجلة الدراسات الفلسطينية، صاحب باع كبير في قسم الدراسات العبرية فيها آنذاك، فقد كان متمكنا في العبرية والعربية، غير إنتاجه لـ22 كتاباً.

المفكر والمناضل والثوري حتى آخر نفس منعه من عيش حياة طبيعية كبقية أبناء جيله، فقد كان وحيدا وملاحقا من إسرائيل قبل انشقاقه، إضافة لملاحقته من حركة فتح والمقربين من ياسر عرفات بعد انشقاقه عنها.


اغترب عن أهله وابنتيه حتى في الشتات، وتوفيت زوجته في وقت مبكر، ليضاف إلى غربته ووحدته ألم جديد. ربما لم يكن نادما على طريق الثورة الذي اختاره، وكان صريحاً ومعترفاً براديكاليته. الجملة التي كان لها وقع علي وما زالت في رأسي من الفيلم عندما كان في منزله في دمشق. سألته هند: "ما شفتنا عم نكبر.. ما كان عندك حياة زوجية طبيعية.. ما بتندم انو ما كنت موجود بالعيلة؟".

-" ما بندم أبدا، لأنو كنت عم اشتغل شغلة أنا بحبا. وكنت استمتع انو عم انجز فيها. شغلي كان على حساب العيلة وما بدايقني لأن أنا اخترتو".

صراحة وصرامة هذه الإجابة عن مساره الثوري، وعدم تردده في الإجابة، ولو للحظة، كما ظهرت في الفيلم كانت مماثلة تماما لصرامته اللاذعة في انتقاده للسلطة الفلسطينية، وحال حركة فتح وعرفات واتفاقية أوسلو والمسار التطبيعي مع إسرائيل الذي اتبعته. توفي الياس في أوائل عام 2013 في منزله الدمشقي الذي كان شاهدا على ثورته ووحدته الأبدية حتى آخر لحظاته.

السؤال الذي حيّرني منذ مشاهدة الفيلم، ما الفرق بين جيلنا وجيله. نحن الذين شهدنا الثورة السورية وكنا جزءاً منها فلسطينيين سوريين، لكن كنا نفتقد مفهوم الثورة ونحن في رحمها. لم يكن هناك فكرة مسبقة أو مبادئ ثورية فكرية لدينا لنقاوم ونرسم ملامح حريتنا الخاصة بنا بناء عليها.

كانت ردة فعل استبداد النظام الدكتاتوري العنيفة كافية لتنسف كل من كان يحمل فكره مفاهيم ثورية، أو ربما تربية البعث التي احتضنتنا، وأملت علينا انتصارات وهمية أبعدت عنا كل تفكير له صلة بثورة.

سواء اتفقنا أو اختلفنا مع الياس شوفاني بآرائه ومسيرته السياسية، لا نستطيع أن ننكر مدى حاجتنا هذه الأيام لفكر ثوري ونضالي مماثل لفكره ولثقته بالثورة المستمرة دوما، مهما مررنا بنكسات. أسئلة كثيرة تدور في رأسي حول ما آلت إليه ثوراتنا، وأينها منّا الآن.. وفي النهاية من سيرحل عن الآخر؟ مـَن مِنا بعد ثلاثين عاما، سيبقى متمسكا بثورته وقضيته؟

(سورية)
المساهمون