إصلاح الخطاب الديني في العالم العربي

23 يونيو 2015
من أشغال ندوة "تجديد الخطاب الديني" في طنجة(العربي الجديد)
+ الخط -
لم يكن مقدراً لندوة "ضرورة تجديد الخطاب الديني" التي نظمت في بيت الصحافة في طنجة بإشراف اتحاد كتاب المغرب، أوائل الشهر الجاري، أن تصل إلى غير ما توصلت إليه من خلاصات، وقوامها أن ضرورة تحديث الحقل الديني مطلب آني، لكنه محاط بالكثير من الصعوبات الثقافية والمعرفية، من خارج المنظومة الدينية ومن داخلها في الآن نفسه.
فقد استأثر المثقفون التقليديون من فقهاء وعلماء دين وخريجي الكليّات الجامعية الدينية، بتأطير المنظومة الدينية، في الوقت الذي غاب الدين كـ "أطروحة ثقافية" عن اهتمامات الأكاديميين والباحثين من مختلف تخصّصات العلوم الانسانية، وخصوصًا في ما يتعلّق بالأبحاث العميقة التي أجراها باحثون ومفكّرون عرب في مجال الدراسات الاجتماعية.
بيد أن التحوّلات الدراماتيكية التي عرفها العالم العربي بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، والتداعيات السلبية للربيع العربي، وما أدّت إليه من ظهور للحركات الجهادية التكفيرية، كل هذا جعل الدول والمؤسسات الرسمية، تنتبه إلى الخطأ الكبير الذي ارتكبته حينما أقصت البحث الديني من الدرس الأكاديمي.
فالغرض من لقاء مماثل، كما ذكر الباحث المغربي كمال عبد اللطيف هو التعبير عن ضرورات آنية لا سبيل لإغفالها : "تزداد حاجة الثقافة العربية اليوم في ضوء مآلات الحاضر العربي إلى استكمال معارك النهضة العربية في موضوع الإصلاح الديني". ويفسّر عبد اللطيف السبب الكامن وراء العودة إلى إنعاش هذا النقاش الذي هيمن في فترات لاحقة من التاريخ الثقافي العربي في: "إن ما يؤكّد هذا الأمر ويمنحه الراهنية والشرعية، هو انتشار أشكال من الخلط في موضوع توظيف الدين في المجتمع، الأمر الذي ولّد ظواهر غريبة في المشهد الثقافي العربي، حيث انتعشت وتنتعش الفتاوى التي تملأ الفضائيات والفضاءات الافتراضية بالفكر المحافظ، والفتاوى التي تحاصر إمكانية إعادة بناء الموروث الثقافي العربي بروح مجتهدة ومبدعة".
جمع الملتقى باحثين من مصر وتونس ولبنان والعراق وسلطنة عمان والكويت والسودان والمغرب والأردن، وانصبت المداخلات على آنية إعادة طرح موضوع الإصلاح الديني في ظل إسلام سياسي ينحو في ظواهره الشاذّة نحو التطرّف، ويتجسد كآلية للتكفير وسفك الدماء، في حين أن جوهر الإسلام كدين بعيد عن المسلك الجهادي والتكفيري الذي تتبناه فئة تعتبرها نفسها "دار إسلام" وبالباقي "ديار كفر"، وهذا ما جعل من موضوعة "تجديد الخطاب" موضوعًا متجددًا.
لذا تبرز الحاجة الماسة إلى استكمال أسئلة النهضة العربية التي طُرحت منذ القرنين الماضيين، خصوصًا بسبب عامل واقعي حاضر بقوّة أي "الانتعاش الذي عرفته المواقف والخطابات الدينية المتطرّفة في السنوات الأخيرة"، الأمر الذي يدفع إلى "تجاوز مختلف صور المخاتلة ونزعات التوفيق في فكرنا المعاصر وفي مواقفنا من التراث ومن الفكر المحافظ".
فرغم الجهد الكبير الذي قدّمه مفكرو النهضة، فإنهم لم يستطيعوا "مغادرة فقه السياسة الشرعية التقليدي لنزوعهم إلى التوفيقية بين التمدّن الغربي، والحداثة السياسية وبين الإسلام"، بتعبير الباحث الأردني محمّد سلام جميعان، عندما اقترح "خارطة طريق"، للخروج من مآزق أسئلة النهضة العربية، وذلك من خلال إعادة النظر في مفهوم "ولي الأمر وطاعته"، والتعامل العلمي مع العديد من النصوص الدينية مثل : السيرة النبوية والحديث الشريف عبر مقاربات جديدة خارج النسق الإيديولوجي وتطوير آليات عدم الخوف من الفتنة في سبيل تعزيز مكانة العدل والحرية.
الإسلام الأوروبي كان حاضرا في أطروحة الباحث المغربي، رشيد بو طيب الذي يعيش في ألمانيا، حين أكّد أن الإسلام "دين وثقافة"، وبناءً عليه فإن تفكيك بنية التفكير في الإسلام كما يعيشه المسلم اليوم، سواءٌ في البلاد العربية أم في المهاجر، يدعو إلى مقاربات مختلفة، من بينها عيش المسلم في المدينة المعاصرة الغربية، وتجاوز تلك النظرة التي تعدّ المهاجرين أجسادًا غريبة تعكّر صفو المدينة وانسجامها. ويقول: "المدينة الحديثة غير مضيافة، وليس هذا بالأمر الجديد. لكنها إزاء المسلمين هي أيضًا غير عادلة، وفي الغالب الأعم عنصرية، ومسكونة بحقد مرضي".
حالة اللاعدالة تلك، مردها إلى التوجهات العامة التي تعرفها السياسات الأوروبية، والثقافية منها على وجه الخصوص، فـ "للأمر علاقة بالضعف الذي ينتاب المشروع الديمقراطي اليوم أمام الهيمنة الرأسمالية. لكن للأمر علاقة أيضًا بالسياسة الثقافية الأوروبية، التي تصمت عن الدور التاريخي والحضاري للإسلام، إن لم تعمد إلى تزييفه كما تفعل وسائل الإعلام الألمانية مثلًا"، وفق الخلاصة التي ينتهي إليها بوطيب، والتي استقاها من معايشته الطويلة للمجتمع الألماني والنقاشات الدائرة في وسائل إعلامه، حول الإسلام والمسلمين وظواهر الجسد الإسلامي مثل الحجاب واللباس الأفغاني وغيره.
في حين كانت وجهة نظر الباحث المصري والأستاذ في الأزهر الشريف، عبد الغفار حامد هلال تنحو منحى كلاسيكيا، أو لنقل سلفيا، من حيث الدعوة إلى أن تكون أي محاولة تجديدية للخطاب الديني متقيدة بالنصوص ومواكبة لمستجدات العصر، انطلاقًا من الاستجابة لرغبات الجمهور الواسع، والالتفات إلى الجانب التربوي.
فلا سبيل لعزل الدين عن الحياة أو فصله على الدولة من أجل تجديده، كما يؤكد على ذلك. بيد أنه أوكل مهمة تجديد الخطاب الديني للعلماء، داعيًا في الوقت نفسه إلى تنقية المجال من الشوائب ومن أهل التعصّب، ومؤكدًا على أهمية الانخراط في العصر، وتوجيه الإسلام الصحيح للأجيال الجديدة.

الإسلام الإبستيمي

الماضي الحافل لمدونة التصوّف العربي حافز دفع الباحث اللبناني سالم المعوش، إلى الدعوة لاستلهام التجربة الصوفية والعرفانية التي عرفها الإسلام للإجابة عن كثير من أسئلة العصر ومن بينها، سؤال تجديد خطاب الدين، منبهًا إلى أن النصّ الصوفي كان ثورة حقيقية في مجال التفكير الديني والخروج عن الفهم المحدود للنصّ.
فالتجربة الصوفية تقدّم حلًا جذريًا للمذهبية السائدة اليوم بعنف شديد، حسب المعوش، من حيث دعوتها الإنسانية الصافية وروحها الشمولية ونظرتها الكلية إلى الممارسة الدينية. من دون أن يغفل سوق بعض المقارنات بين ما نعيشه اليوم في العالم العربي من تمزّقات ودعوات متطرفة، وبين ما عاشه أهل التصوّف في أكثر من زمان ومن جغرافيا عربية.
المنجز الفكري لمحمّد أركون كان حاضرا في ندوة طنجة، فقد ركّز الباحث التونسي علي الحبيب الفريوي في عرضه للأطروحة الفكرية لأركون على القراءة التي قدمها الأخير، للثقافة العربية الإسلامية، وكيف يمكنها أن تتموقع اليوم في المشهد العالمي الذي يعرف صراع ثقافات وحضارات لا يرحم.
كانت نقطة قوة طرح أركون تكمن في المنهج الإبستيمولوجي الذي استعمله، وانفتاحه على مناهج جديدة من لسانيات وعلم نفس وتأويل في قراءة النصّ الديني، وما أسفر عنه ذلك من معالجة إبستيمولوجية للقضايا التي يطرحها إسلام السلف، وكيف يمكن إعادة النظر والتفكير فيها اليوم على ضوء تغيّرات العصر والتحوّلات التي تشهدها حياة العرب والمسلمين، الأمر الذي دفع أركون وقتها إلى تبني أطروحة تدعو إلى "إسلام جديد"، كدعوته إلى "إسلام أوروبي" متّسق مع العيش في المدينة الأوروبية، ومتآلف بعمق مع قضايا الحرية والديمقراطية.

معرفة متبادلة

مداخلة الباحثين المغاربة تميّزت بدقّة أكبر، سواءٌ في التشخيص أم في المعالجات، فالباحث المغربي أحمد شرّاك شدد على ضرورة استحضار أبعاد ثلاثة في قضية تجديد الخطاب الديني؛ يركّز البعد الأوّل على المرأة، من حيث ضرورة إعادة تموضعها في الحياة الاجتماعية، عبر إنصافها وضمان مبدأ المساواة، وإدخالها في الفعل الاجتماعي وعدم الحجر عنها، فهذه مقدّمة أساسية لتحرير المجتمع وتجديد الخطاب الديني.
أمّا البعد الثاني فيرتبط بالدين نفسه، من خلال الفصل بين الدين والتديّن، وبين الدين والسلطة السياسية، وبين الدين وحرية الفكر والتفكير. بينما يتعلّق البعد الثالث بفتح باب التأويل والاجتهاد، والاحتكام إلى الاجتهاد من الناحية الاجتماعية، وعدم الركون إلى الإجابات الجاهزة، فالدين هو دين المجتمع، والأخير كائن متغيّر ومتحوّل، وبناءً على ذلك، لا بدّ من مواكبة تلك التحولات وعدم الجمود. وهذا ما يمنح النصّ الديني تجدّده وديناميته.
مقاربة الباحثة المغربية في العلوم الاجتماعية خديجة الكور، اهتمت بتفكيك العلاقة بين الدين والهوّية الوطنية، والدعوة لمقاربة إعلامية ذكية في ما يخصّ الشأن الديني، مع ضرورة "الحسم في نوعية" المعرفة الدينية التي يقدّمها الإعلام بوسائله المختلفة.
في صميم موضوع الندوة تبنى الباحث المغربي سمير بو دينار، خيار التأسيس لمعرفة متبادلة في عالمنا، من خلال إعادة بناء السؤال الديني في عصرنا على ضوء منظومة قيمه الجوهرية، ذلك أن: "الخطاب الديني لا يتجدّد ذاتيًا ويفعل حضاريًا فحسب، بل يصير مؤسسًا لتلك المعرفة المطلوبة عن الآخر، بل لمنهج تلك المعرفة المتبادلة التي تشتدّ حاجة عالمنا إليها اليوم".
المساهمون