إشكالية الدعم والتضامن والتعاطف السياسي
اشتباك فكري قيمي تدور رحاه على مواقع التواصل الاجتماعي عند كل خلاف حول موت مجرم، أو عقاب مذنب، أو الدعاء لخائن، خلافات عظيمة تسبب عنادا شديدا، وكثيرا من العصبية، حتى ينسى المتشاكسون المسألة الأصلية وينهالوا على بعضهم البعض سباً، وتخويناً، وطعناً، ولعناً، ناهيكم عن الطرد، والحظر.
تعود جذور هذه الإشكالية إلى استناد التقييم إلى العاطفة، أوالمجاملة، بعيداً عن التحليل الواقعي، انطلاقاً من سوء فهم لفضيلة النبل ولطبيعة أخلاق الفرسان؛ أملا في أن يؤدي فرض مبادئ القيم المطلقة إلى تقارب وجهات النظر المتناحرة، لكن للأسف، لا ينتج عنها إلا مزيد من التطاحن بين أصحاب الرؤى المتضاربة.
مؤخراً يخلط البعض بين أسلوب طرح القيم الحقوقية التي تناشد الجهات الرسمية والمنظمات الدولية، وبين طريقة تقديم القيم الأخلاقية التي تخاطب الجماهير؛ فتجدهم مثلاً يطالبون بحقوق معتقل مفوض للمنقلب من الجهات الرسمية، ثم يفرضون تضامنهم له على صفحاتهم الشخصية بجمل حاسمة تدخل مؤيديهم جنتهم، وتلقي بمعارضيهم في الجحيم؛ وكرد فعل، يصب من شرب مر التفويض غله في التعليقات، فيتهمونه بالقسوة، وترويج الكراهية، ويبدأ التجريح المتبادل.
تقع مسؤولية تعليم العامة كيفية تهذيب المشاعر الناقمة على عاتق النخب، بدلاً من انتقادها وتحقيرها
على الصعيد الحقوقي، وفي حالة انقسام كالتي تعيشها مصر، أنظر للعاطفة كمظلة للتعايش المجتمعي، وأتخذها حداً أدنى للإنسانية، فلا يصح أن يكون البشري إنساناً في موضع وأقل إنسانية في موضع آخر؛ لذلك لا أثق بانتقائيي التعاطف؛ وأعتبر أن مقام رفض الظلم عامة هو مقام نجدة مستغيث؛ أما الدعم والتضامن، فأصنفهما كقرار عقلي، بمعنى أنه يمكنك أن تعطف على مذنب انتهكت حقوقه، لكن لك حرية الاختيار إن كنت ستدعم قضيته وتتضامن معها أو ألا تفعل؛ وليكون كلامي أكثر وضوحاً، فإني أرى أن العاطفة لا تتقولب في إطار واحد جامد، بل إنها تتشكل في أنماط مختلفة داخل نفس الإنسان السوي، فهي إما إيجابية كما في حالة المظلوم حين تترجم إلى فيض من مشاعر الرأفة والرحمة، أو سلبية كما في حالة المذنب؛ عندما تتحول إلى إشفاق من المصير الذي آل إليه، أو تأثراً من أجل عمره المهدر، أو شبابه الضائع، أو سنه الطاعن، أو شيبته المهانة، أو مرضه المذل، ومن العاطفة أيضاً، الخوف من قدرة الله عندما يأخذ الظالم ولا يفلته، ومنها، أخذ العبرة من مآل الطغاة.
أما على الصعيد الاجتماعي، فوجهة نظري، أنه لا يمكن تطبيق منهج العمل الحقوقي الذي يفرض على العاملين فيه حيادية وضبط نفس، على مجتمع مذبوح. إن محاولة غرس نظرية "الدعم المطلق المجرد" في أرض تشبعت بدم المقهورين، أمر ينافي طبيعة النفس البشرية؛ لذلك أقول إنه من الإنسانية بالتأكيد أن ترفض الجور على حق مذنب، لكن من الإنسانية أيضاً ألا تحرم المغلوب من أن يفرح بترضية، وألا تلوي عنق التاريخ بتجاهل أحداث بغرض المساواة بين الجاني والمجني عليه، في سبيل صناعة قنبلة من المصالحة الظاهرية ستنفجر ولو بعد حين. إن الاعتدال يكون حتى في رقي الطبع، فلا تكن ملائكياً أكثر من الملائكة.
كل يوم، أقرأ قصصاً أكثر حزناً من سابقاتها لا يلقي لها الإعلام بالاً، إما تجاهلاً، أو كسلاً، أو خوفاً من اتهامه بدعم الإرهاب، حكايات تصفية، وتعذيب واعتقال، واغتصاب، وإهمال طبي، وإعدام، واختفاء قسري، وعذابات زيارات للسجون، واعتداءات، وحبس، وتفتيش متحرش، وتذلل لإجراء عمليات خطيرة، ومصابين بعاهات بسبب ظروف الاعتقال، ودعوات لمساعدة زوجات معتقلين اضطررن للعمل؛ أقرأ خطابات زوجة محبة، وابن محروم، ورؤيا أم، وحمداً لله على رؤية حبيب هزيل ذي عينين زائغتين؛ أشاهد صوراً ومقاطع فيديو لمعاناة أهالي المعتقلين أمام السجون أو داخل المحاكم؛ كل هذا طبعاً خلافاً لمآسي رابعة التي لا يستطيع من عاصرها أن ينسى مشاهد الجثث المحترقة، والأدمغة المنفجرة؛ فهل يعقل أن يضبط أبطال القصص سالفة الذكر انفعالاتهم، وأن يميزوا الشعرة الفاصلة بين رفض مبدأ ظلم النظام للجميع، وبين شفاء صدورهم أن نال من تسبب في معاناتهم، وآلامهم أي قدر من العقاب الإلهي؟
لا يصح أن يكون البشري إنساناً في موضع وأقل إنسانية في موضع آخر؛ لذلك لا أثق بانتقائيي التعاطف
اجتماعياً، تقع مسؤولية تعليم العامة كيفية تهذيب المشاعر الناقمة على عاتق النخب، بدلاً من انتقادها وتحقيرها! هذه الصفوة، وللأسف استدرجت لتشارك جماهير الثورة في احداث خلل كارثي في منظومة الأخلاق، إما بالانسياق أو الصمت، فتشوهت أرقى القيم، وبهتت أرفع المعايير، فانتشر احتقار الصغير للكبير، وزحف سباب الشوارع إلى مواقع التواصل، وتبجحت أبشع مظاهر الكراهية، وتميعت المبادئ والمسلمات، والأهم من ذلك كله، تهمش دور الدين الذي يعد حزام أمان للمجتمعات سواء الإسلامية أو غير الإسلامية؛ ما يجنيه المثقفون اليوم، هو حصاد إهمال الأمس.
تفرض هبة الشهرة على العاملين بالمجال السياسي، أو الحقوقي، أو الإعلامي مسؤوليات هي أمانة كالتي يحملها المعلمون في أعناقهم، لذا فمن واجبهم أن يكونوا دقيقين، واضحين، محددين، في اختيار الألفاظ الواصفة لمشاعر التأييد، والدفاع، والتضامن، والتعاطف، والترحم؛ أوالهجوم، والشماتة، والغضب؛ وأن يمزجوا لينها وشديدها بمقادير محسوبة، فالإسراف في أي منهما يفضي لنفاق وتضييع حقوق، كما قد يؤدي إلى نشر ثقافة الغوغاء التي تقضي باقتلاع أحشاء المتهم؛ عليهم قبل أن يخطوا كلماتهم، أن يزنوا المعادلة.
إن للقارئ على الكاتب حق احترام عقله، وللكاتب على القارئ حق النقد، والمراجعة دون تجاوز. من المهم أن يتخيل كل من يكتب سطرا أو يلفظ حرفا، كم نفسا سيحمل وزرها، وكم نفسا ستنتفع؟
مخاطبة الجماهير .. مسؤولية.