إسلاميون في موازين الديمقراطية
هذا مقال يتحدث عن "الإسلاميين" الذين خاضوا تجارب الحكم عن طريق المشاركة في العمليّة السياسيّة، ونظراً لراهنيّة المقال حول فشل أو إفشال هذه التجارب الحركية، ورغم ما كتبه العديد من المحللين والباحثين حول علاقة الإسلاميين بالديمقراطية، وتقييم هذه التجربة التي تم توظيفها من أجل استدراج الإسلاميين إلى الفخ، ظناً منهم أن مشاركة هؤلاء في العملية السياسية سوف تساهم في إضفاء مزيد من الشرعية على عملهم السياسي، وسينالون رضا المؤسسات الدولية العالمية، وسيحظون بثقة المنتظم الدولي.
لن ندخل في ذلك النقاش عن تحديد المفاهيم، حول مفهوم الديمقراطية. فالديمقراطية ليست آلية من الآليات للوصول إلى السلطة، كما اعتقد بعض الإسلاميين، أو هي عبارة عن مجموعة من المساطر والإجراءات والترتيبات الإدارية من أجل اتخاذ القرارات بشكل فردي أو جماعي. وإنما هي مجموعة من القيم والمبادئ تنبثق من أصول فلسفية أيديولوجية، وتعتبر أحدى فروع الفكر الليبرالي المناقض للإسلام من جذوره، وكما وصفها موريس دوفيرجي بأنها إنجيل العصر فهي منظومة قيم كونية عالمية ومقارنتها بالإسلام أو بالشورى كما نظر لها بعض أساطين الديمقراطية المنتسبين إلى التيار الإسلامي لم يكن يعرف أن كلا المفهومين والنظامين ينتمي إلى بنيتين فكريتين متناقضتين.
ـ بل حتى الديمقراطية الغربية بمختلف نظمها السياسية ومجتمعاتها كالديمقراطية الفرنسية أو البريطانية أو الأميركية، كانت سياساتها تتسم بنوع من ازدواجية المعايير، فالديمقراطية الأميركية التي يتغنى العديد من الليبراليين بنموذجها، عرفت سياستها العديد من التمييز والعنصرية والكراهية تجاه الإنسان الأميركي، كالسود والأقليات بل حتى تجاه الكاثوليك، بل حتى الديمقراطية نفسها تعرف تناقضات كثيرة في ما يتعلق بصفة "الكونية"، لأن الكونية تقوم على تجريد النظم والقوانين والتشريعات من صفات الخصوصية، فالديمقراطية الأميركية تختلف عن الديمقراطية الفرنسية، والديمقراطية الفرنسية تختلف عن الديمقراطية البريطانية، فهي تنبثق من مصادر نشأتها وتكوينها من خصوصية كل مجتمع ونظام غربيين. وبالتالي، لا يوجد نموذج واحد للديمقراطية بل عدة نماذج، وكذلك الديمقراطية المطبقة في الغرب، في الولايات المتحدة خاصة، يتم التحكم فيها من قبل مؤسسات تساهم في صنع الخطط والسياسات الاستراتيجية للبلد، بعيدًا عن الآليات التي تحترم القانون، فهؤلاء هم الذين يحددون اختيار المتنافسين، وإقصاء العديد من الناخبين أو تهميشهم. وهذه المؤسسات الاستراتيجية هي التي تدير صناديق الاقتراع، وهي من تتحكم في خيوط المشهد السياسي ضمن تعددية سياسية مطلوبة على المقاس، الذي يقوم بتهديد مصالح هذه القوى التي تتحكم في المال وأجهزة الإعلام والأسواق، وقد يصل به الأمر إلى حد القتل والتصفية الجسدية. وقد حدث هذا على مستوى الحزبين الأميركيين: الديمقراطي والجمهوري أو على مستوى حزب العمال أو حزب المحافظين البريطانيين.
وكما يقول روبرت دال، في كتابه الشهير "عن الديمقراطية"، حتى في الولايات المتحدة الأميركية فإن الاقتراع الشامل لا يتضمن السود، وكذلك النساء، وكان هناك نصف كامل من البالغين يتم استبعادهم من الحياة السياسية لأن أغلبهم من النساء، وتم استثناء العديد من الرجال وحرمانهم من حق الاقتراع لأنهم لا يتقنون القراءة أو الكتابة، وهو (استبعاد كان يؤيده الكثير ممن ينصبون أنفسهم دعاة للديمقراطية) وكذلك الدول التي تعتبر الى حد الآن نظماً ديمقراطية، كما هو الحال في بلجيكا وسويسرا وفرنسا، تم حرمان النساء ـ في هذه الدول ـ من حق الاقتراع والتصويت بل والمشاركة السياسية الى غاية 1945، أي بعد الحرب العالمية الثانية، وهي دول يرى فيها العديد من الناس أنها ديمقراطيات متقدمة.
ـ على الرغم من أن الديمقراطية هي منتوج غربي خالص، يعتريه كثير من السلبيات والنقائص، خاصة على مستوى التدبير والتنزيل والممارسات، إلا أن بعض المفكرين الذين ينتسبون إلى التيار الإسلامي حاول التنظير لها في بداية التسعينيات، والبعض من هذه الحركات الإسلامية طرحت مشاريع مجتمعية وبرامج سياسية لخوض غمار السياسة في إطار الديمقراطية، مستفيدين من التحول النسبي الذي بدأ يحصل في بداية التسعينيات على مستوى العلاقة بين السلطة والمعارضة، معتقدين أن الفضاء الهامشي الذي بدأت تسمح به هذه الأنظمة سيسمح لها بمزاولة عملها السياسي بعيداً عن أي احتواء لها، معتقدين أن مشاركتهم في العملية السياسية ضمن نظم تقوم تشريعاتها على ترسانة من القوانين والتشريعات المدنية وشبكة معقدة من الأجهزة والتنظيمات الإدارية والقضائية والأمنية سيسمح باندماجهم في الحياة السياسية مع باقي القوى الأخرى.
ـ فانبرى بعض من هؤلاء كالغنوشي وحسن الترابي ومحفوظ النحناح يقومون بمجهودات تأصيلية تحت محاولات التجديد والمعاصرة، وبدأوا يوظفون مصطلحات ومفاهيم كانت غائبة سابقاً عن القاموس السياسي للحركات الإسلامية كان لها أثر كبير في انبطاح هذه الحركات وانخلاعها عن أسسها العقائدية، كالحرية والمواطنة وحكم الأكثرية والتداول السلمي للسلطة، وحقوق الإنسان، بل حاول بعض من هؤلاء أن يوفقوا بين مفهومي الشورى والديمقراطية لغويا رغم التباين الكبير بينهما تحت اسم (الشوراقراطية) على غرار الشيوعية الإسلامية، أو الاشتراكية الإسلامية، إلا أن مجهوداتهم التأصيلية والتنظيرية للتوفيق بين المفهومين لغوياً وتأصيلياً باءت بالفشل ولم تحظ بثقة نظرائهم وشركائهم من التيارات الحداثية والمدنية الذين كانوا ينظرون إليهم على أن توظيفهم للمفاهيم المركزية المدنية في خطابهم السياسي إنما هو نابع من قناعتهم بأن الديمقراطية هي مجرد آلية للوصول الى السلطة وليس لإيمانهم بها كقيم ومبادئ، فلا يمكن الإيمان بالديمقراطية في نظر هذه النخب الحاكمة، التي تستغلها كشماعة لضرب الإسلاميين، الذين كانوا سابقا من أشد وأعتى المدافعين عن الديكتاتوريات، إلا بفصل الإسلام كمرجعية عقدية وفكرية عن هذه التيارات.
لقد قام الأستاذ راشد الغنوشي في كتابه (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) بمحاولات تأصيلية للتوفيق بين الإسلام والديمقراطية كنموذجين لتدبير الحكم، واستعان ببعض المصطلحات والمفاهيم كالتعددية السياسية وحق الاقتراع والتصويت وحكم الأكثرية بل استند الغنوشي في كتابه الى إلغاء الحاكمية في الإسلام، إذ قال إن الإسلام ليس بحاجة الى إقامة سلطة، وإنما المعيار والركيزة الأساسية في أي وظيفة للسلطة في المجتمع هي إقامة العدل، ويقول في حوار مع مجلة (قراءات سياسية) إنه من أجل الوصول إلى دولة الإسلام (دولة العدل) لا بد من الوصول الى الديمقراطية (دولة العقل).
ـ لم يخطر ببال هؤلاء الإسلاميين أن الديمقراطية نشأت وترعرعت في بيئة اجتماعية مختلفة وفي سيرورة تاريخية معقدة وأصولها العقائدية والفلسفية والأيديولوجية تختلف تماما عن الإسلام كعقيدة وشريعة، وبنيتاهما الفكريتان تختلف كل واحدة فيها عن الأخرى، وأن انتزاع الديمقراطية من بنيتها الفكرية ووضعها في إطار الإسلام تحت ذريعة التجديد والعصرنة ما هو إلا مجرد نقاش سوفسطائي جدلي.
لقد كان الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله أكثر اتساقاً مع الرؤية الإسلامية الشمولية، وأكثر من استطاع أن يؤصل لعدم الانسجام والفصام النكد بين الإسلام والديمقراطية، حيث قال في كتابه (الإسلام والمدنية الحديثة): (إني أقول للمسلمين بصراحة إن الديمقراطية القومية العلمانية تعارض ما تعتنقون من دين وعقيدة.. ولا انسجام بينهما في أمر مهما كان تافهاً، لأنهما على طرفي نقيض)، كما رفض الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله، مؤسس حزب التحرير، أي قياس يقارن الإسلام والديمقراطية، ضارباً بذلك ليّ أعناق النصوص التي من شأنها أن تتناسب مع الأيديولوجيات والأفكار والمذاهب البشرية، فيقول في كتابه (نظام الحكم في الإسلام) ص 9: (فمن الضروري أن نتغلب على ما ألفناه من أنواع النظم، ونرتفع عن الواقع وعن جميع أنظمة الحكم الموجودة في العالم، ونختار الحكم الإسلامي متميزا، ولا نحاول أن نوازنه بباقي أنظمة الحكم، ونفسره حسب رغباتنا ليطابق أو يشابه غيره)، كما أن الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي الذي يعتبر الآن من أشد المدافعين عن الديمقراطية وجواز المشاركة السياسية في ظل الدساتير المدنية، يقول في كتابه (الحلول المستوردة) الصادر سنة 1971 في ص: 67: (وترتب على إقرار القوانين الوضعية الأجنبية الأصل مخالفة الإسلام دين الأمة، مخالفة ظاهرة بإحلال المحرمات، أو إقرار المنكرات، أو إهمال الواجبات، أو إسقاط العقوبات، مع أمر القرآن الصريح بالحكم بما أنزل الله...) ويقول في ص 72: (فالسلطة المنتخبة لا تملك التشريع فيما لم يأذن به الله، لا تملك أن تحل حراماً أو تحرم حلالاً أو تعطل فريضة، فالمشرع الأول هو الله جل شأنه، وإنما يشرع البشر لأنفسهم فيما أذن لهم فيه، أي فيما لا نص فيه من مصالح دنياهم...).
قرر الإسلاميون خوض غمار الديمقراطية بقوة، ونزلوا بكل ثقلهم للمشاركة في العملية السياسية كرقم صعب في معادلة الخارطة السياسية والمجتمعية، مستفيدين بذلك من التحولات العالمية الدولية والسيادة العالمية للفكر الليبرالي كمنظومة عالمية، ولا شك أن هذه العوامل كلها ساهمت في تخفيف القبضة الأمنية نسبيا عن المعارضة بمختلف مشاربها وتلاوينها، فمن أهم التجارب التي خاضها الإسلاميون كانت التجربة الجزائرية سنة 1991، التي تعتبر بحق أنها أكبر تجربة جديرة بالدراسة والاهتمام والتوثيق، فلقد كانت انتخابات 26 ديسمبر/ كانون الأول مفاجأة بمثابة المسمار الذي دق في نعش نظام الشاذلي بن جديد، ما أثار جنون القوى الدولية والإقليمية، وهذا مما حدا بالرئيس الفرنسي ميتران إلى أن يهدد بالتدخل عسكرياً في الجزائر، فكانت النتيجة ذلك الانقلاب الدموي الذي وقع وأطاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ وتم الزج بقادتها في السجون.
ـ التجربة التونسية: لقد خاض حزب (الاتجاه الإسلامي) الانتخابات التمهيدية في أواخر الثمانينيات وحقق نتائج مقبولة جداً، لكن النتيجة أن جهاز الدولة شهد تطورا كبيرا على حساب الديمقراطية التي طبل لها كثير من قادة العمل الإسلامي في تونس وتمت ملاحقة قادة الاتجاه الإسلامي وشيخه الغنوشي، وبعد الربيع العربي، قدم حزب (النهضة) التونسي مزيداً من التنازلات لإرضاء شركائه في الوطن، خاصة بعد الاغتيالات المدبرة التي وقعت إبان حكومة الترويكا كاغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي ولطفي النقض، والتي تم استغلالها من أجل ممارسة مزيد من الضغوطات على النهضة وتحميلها مزيدا من المسؤولية لتقصيرها في محاربة الإرهاب، ولا شك أن (حكمة) الغنوشي ساهمت في تطويع الحزب وجعله أكثر (واقعية) و(تميعا) مع متطلبات الحياة السياسية الجديدة، هذه الواقعية التي نتج عنها فصل الدعوي عن السياسي الذي اعتبره قادة النهضة من أهم مخرجات المؤتمر العاشر الذي عقد في مايو/ أيار 2016 والذي كان بمثابة إعلان (الفصام النكد) بين حزب النهضة كحزب سياسي وبين الإسلام كمرجعية عقائدية، ورغم جميع التنازلات التي قدمها الغنوشي لتصحيح (المسار الديمقراطي) و(إنضاج) التجربة الديمقراطية حسب زعمه، لم يشفع له ذلك، فقد تصاعدت الاتهامات من قبل القوى السياسية التونسية كالجبهة الشعبية ذات التوجه الماركسي بأنه السبب في إثارة النعرات الدينية والهوياتية.
ـ الحزب الإسلامي العراقي: تعتبر تجربة الحزب الإسلامي العراقي (الإخوان المسلمون في العراق سابقاً) من أخس الصفقات التي وقعت في تجارب الحركة الإسلامية، إذ شارك هذا الحزب في جميع مراحل الحياة السياسية في ظل الاحتلال الأميركي إلى الآن من مجلس الحكم العراقي الذي شكله الحاكم الأميركي بول بريمر، مروراً بحكومة علاوي ثم حكومتي الجعفري والمالكي، فلقد جاء المحتل الأميركي إلى العراق وتم تدمير الدولة وحل أجهزتها وتسريح موظفيها تحت ذريعة (اجتثاث البعث) وقتل أكثر من مليون عراقي، وتم تشريد الآلاف، ورغم كل هذا: شارك الحزب الإسلامي بعضويته في مجلس الحكم الانتقالي الذي شكله بول بريمر، وكان رئيسه (محسن عبد الحميد) قد سبق له أن ترأس هذا المجلس بشكل دوري في سنة 2004، ثم جاء خلفه طارق الهاشمي الذي شغل منصب نائب الرئيس في عملية سياسية قامت على أساس المحاصصة الطائفية، بل وقبلوا بالتوقيع على مسودة الدستور الذي تم إقراره سنة 2005، في حال تم تعديل بعض بنوده، ولم تكن في لجنة صياغة مسودة الدستور من ممثلين من العرب السنة سوى اثنين فقط، ذلك الدستور الذي كرس بناء مؤسسات الدولة على أسس طائفية، وكرس الفيدرالية على المستوى الإداري وذبح تحت مظلته الآلاف من أهل السنة بأبشع أنواع القتل والمجازر التي ارتكبت في حقهم، وظهر الحزب الإسلامي العراقي كمن يحاول أن يلعب الدور التمثيلي للمكون السني في البرلمان، بل إن الحزب الإسلامي العراقي لعب دور الخيانة كأداة وظائفية في (مشروع بترايوس لدعم الصحوات)، حيث لعب بعض قياداته كرافع العيساوي وطارق الهاشمي وأسامة التكريتي دور العراب في عقد الصفقات مع شيوخ العشائر في الأنبار والموصل وديالى كأداة وسيطة لتمهيد الأرضية للقضاء على المقاومة العراقية، وأنفقت عليه مليارات الدولارات، كأخس مشروع صفقة ستظل وصمة عار في تاريخ الحركة الإسلامية (الإخوانية) لن يغفره التاريخ. ورغم كل ما قدمه طارق الهاشمي في خدمة الاحتلال الأميركي والحكومة الطائفية، فقد تمت محاصرة بيته واحتجازه في مطار بغداد بشكل مهين من قبل حكومة المالكي في أواخر سنة 2011 وحكم عليه غيابياً بالإعدام شنقاً أربع مرات.
ـ تجربة العدالة والتنمية في المغرب: تعتبر تجربة العدالة والتنمية في المغرب تجربة جديرة بالدراسة والتأمل، منذ مشاركتهم في العملية السياسية وخوضهم غمار الديمقراطية في الانتخابات التشريعية لسنة 1997، الى قيادتهم لتدبير الحكومة بمعية ثلاثة مكونات سياسية علمانية بعد فوزهم في الانتخابات التشريعية لسنة 2011، وهي تجربة أقرب إلى حزب النهضة في تونس أو جبهة العمل الإسلامي في الأردن في ظل نظام ملكي ربما اتسمت سياسته بنوع من المرونة أو العصا والجزرة من أجل احتواء القوى السياسية بجميعها في البلاد، كثيرون ممن يرون في التجربة المغربية وعلاقة الإسلاميين بالقصر اتسمت بسياسة أكثر براغماتية ومهادنة، لكن تموقع هذا الحزب ضمن الخارطة السياسية المغربية، كان بدعم كبير من القصر من أجل إحداث نوع من التوازن السياسي في المغرب وبقاء الحزب وأمينه العام الذي يشغل منصب رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران في الصورة حتى يبقى القصر بعيداً عن الشعارات والمطالب والخطابات التي تم توجيهها مباشرة اليه في موجة الاحتجاجات الشعبية إبان حركة 20 فبراير/ شباط.
لقد نجح القصر الملكي بخطة محكمة أتقنت أتم الإتقان، في تمريغ كرامة حزب العدالة والتنمية ووزرائه وأمينه العام عبد الإله بنكيران في التراب وإغراق سمعة الحزب في الوحل، ووضعه في الصورة في تماس مباشر مع الشعب، فبعد أن تم استقدامه للعب دور إطفائي الحرائق إبان مرحلة وصفت بحساسيتها، وكذلك بعد القرارات على مستوى السياسات الاجتماعية التي اتخذتها حكومة بنكيران التي مست التطلعات والاحتياجات اليومية للمواطنين كأنظمة التقاعد والزيادة في المحروقات ورفع الدعم عن المواد الأولية والزيادة في الأسعار كالسكك الحديدية ثم تأييد إلغاء مجانية التعليم، وما نتج عن هذه القرارات من احتجاجات وغليان شعبي مهدد بالانفجار كانت تستهدف رأس بنكيران في الواجهة ولا يفوتنا أن نذكر بأنه رغم ما اتخذته حكومة بنكيران من قرارات غير شعبية لصالح التوازنات الماكرو اقتصادية، إلا أن السلطة وظفت قبل سنة من استحقاقات أكتوبر/ تشرين الأول 2016 جميع أوراقها وأخرجت جميع أسلحتها من صحف ومواقع إلكترونية وإذاعات لشيطنة الحزب وتشويهه إعلامياً، وهيجت المركزيات النقابية للقيام باحتجاجات مفبركة بالإضافة إلى دورها في خلخلة التوازن الحكومي عن طريق أحزاب سياسية مشاركة في الحكومة ساهمت بشكل كبير في عرقلة الأداء الحكومي، أضف إلى ذلك أن حقبة ما بين سنة 2008 وبين 2016 كانت كافية لإفراز واقع من التقاطبات الهوياتية في العديد من النقاشات العمومية بين حزب الأصالة والمعاصرة وحزب العدالة والتنمية وصلت إلى حد اتهام الأخير بالإرهاب والتخابر مع داعش والموساد، ولم تكن هذه الاتهامات تلقى جزافاً بقدر ما كانت تقف من ورائها جهات تريد توريط الحزب وحله واستئصاله من المشهد السياسي بالمرة على غرار تجربة الإخوان في مصر.
إن استقراء الواقع المرير والحصاد المر لتجربة الإسلاميين في الديمقراطية على مدار ثلاثة عقود، كفيل بالحركة الإسلامية المتدمقرطة أن تقوم بنقد ذاتي آخر لتجربتها وإعادة بلورة رؤية سياسية منبثقة من تصور عقائدي صحيح سليم مع قراءة متأنية لفقه الواقع واستحضار التجارب المريرة والدروس المؤلمة التي كانت بمثابة كارثة جنت على إخوانهم في العديد من الدول، وكانت آخرها تجربة الإخوان المسلمين في مصر بعد الانقلاب العسكري ومجزرة رابعة العدوية والنهضة، كفيلة بأن تراجع الحركة الإسلامية رؤيتها السياسية وأن تتدارك الخلل في منطلقاتها، خاصة قصورها في المنهج التربوي والدعوي.
ـ بل حتى الديمقراطية الغربية بمختلف نظمها السياسية ومجتمعاتها كالديمقراطية الفرنسية أو البريطانية أو الأميركية، كانت سياساتها تتسم بنوع من ازدواجية المعايير، فالديمقراطية الأميركية التي يتغنى العديد من الليبراليين بنموذجها، عرفت سياستها العديد من التمييز والعنصرية والكراهية تجاه الإنسان الأميركي، كالسود والأقليات بل حتى تجاه الكاثوليك، بل حتى الديمقراطية نفسها تعرف تناقضات كثيرة في ما يتعلق بصفة "الكونية"، لأن الكونية تقوم على تجريد النظم والقوانين والتشريعات من صفات الخصوصية، فالديمقراطية الأميركية تختلف عن الديمقراطية الفرنسية، والديمقراطية الفرنسية تختلف عن الديمقراطية البريطانية، فهي تنبثق من مصادر نشأتها وتكوينها من خصوصية كل مجتمع ونظام غربيين. وبالتالي، لا يوجد نموذج واحد للديمقراطية بل عدة نماذج، وكذلك الديمقراطية المطبقة في الغرب، في الولايات المتحدة خاصة، يتم التحكم فيها من قبل مؤسسات تساهم في صنع الخطط والسياسات الاستراتيجية للبلد، بعيدًا عن الآليات التي تحترم القانون، فهؤلاء هم الذين يحددون اختيار المتنافسين، وإقصاء العديد من الناخبين أو تهميشهم. وهذه المؤسسات الاستراتيجية هي التي تدير صناديق الاقتراع، وهي من تتحكم في خيوط المشهد السياسي ضمن تعددية سياسية مطلوبة على المقاس، الذي يقوم بتهديد مصالح هذه القوى التي تتحكم في المال وأجهزة الإعلام والأسواق، وقد يصل به الأمر إلى حد القتل والتصفية الجسدية. وقد حدث هذا على مستوى الحزبين الأميركيين: الديمقراطي والجمهوري أو على مستوى حزب العمال أو حزب المحافظين البريطانيين.
وكما يقول روبرت دال، في كتابه الشهير "عن الديمقراطية"، حتى في الولايات المتحدة الأميركية فإن الاقتراع الشامل لا يتضمن السود، وكذلك النساء، وكان هناك نصف كامل من البالغين يتم استبعادهم من الحياة السياسية لأن أغلبهم من النساء، وتم استثناء العديد من الرجال وحرمانهم من حق الاقتراع لأنهم لا يتقنون القراءة أو الكتابة، وهو (استبعاد كان يؤيده الكثير ممن ينصبون أنفسهم دعاة للديمقراطية) وكذلك الدول التي تعتبر الى حد الآن نظماً ديمقراطية، كما هو الحال في بلجيكا وسويسرا وفرنسا، تم حرمان النساء ـ في هذه الدول ـ من حق الاقتراع والتصويت بل والمشاركة السياسية الى غاية 1945، أي بعد الحرب العالمية الثانية، وهي دول يرى فيها العديد من الناس أنها ديمقراطيات متقدمة.
ـ على الرغم من أن الديمقراطية هي منتوج غربي خالص، يعتريه كثير من السلبيات والنقائص، خاصة على مستوى التدبير والتنزيل والممارسات، إلا أن بعض المفكرين الذين ينتسبون إلى التيار الإسلامي حاول التنظير لها في بداية التسعينيات، والبعض من هذه الحركات الإسلامية طرحت مشاريع مجتمعية وبرامج سياسية لخوض غمار السياسة في إطار الديمقراطية، مستفيدين من التحول النسبي الذي بدأ يحصل في بداية التسعينيات على مستوى العلاقة بين السلطة والمعارضة، معتقدين أن الفضاء الهامشي الذي بدأت تسمح به هذه الأنظمة سيسمح لها بمزاولة عملها السياسي بعيداً عن أي احتواء لها، معتقدين أن مشاركتهم في العملية السياسية ضمن نظم تقوم تشريعاتها على ترسانة من القوانين والتشريعات المدنية وشبكة معقدة من الأجهزة والتنظيمات الإدارية والقضائية والأمنية سيسمح باندماجهم في الحياة السياسية مع باقي القوى الأخرى.
ـ فانبرى بعض من هؤلاء كالغنوشي وحسن الترابي ومحفوظ النحناح يقومون بمجهودات تأصيلية تحت محاولات التجديد والمعاصرة، وبدأوا يوظفون مصطلحات ومفاهيم كانت غائبة سابقاً عن القاموس السياسي للحركات الإسلامية كان لها أثر كبير في انبطاح هذه الحركات وانخلاعها عن أسسها العقائدية، كالحرية والمواطنة وحكم الأكثرية والتداول السلمي للسلطة، وحقوق الإنسان، بل حاول بعض من هؤلاء أن يوفقوا بين مفهومي الشورى والديمقراطية لغويا رغم التباين الكبير بينهما تحت اسم (الشوراقراطية) على غرار الشيوعية الإسلامية، أو الاشتراكية الإسلامية، إلا أن مجهوداتهم التأصيلية والتنظيرية للتوفيق بين المفهومين لغوياً وتأصيلياً باءت بالفشل ولم تحظ بثقة نظرائهم وشركائهم من التيارات الحداثية والمدنية الذين كانوا ينظرون إليهم على أن توظيفهم للمفاهيم المركزية المدنية في خطابهم السياسي إنما هو نابع من قناعتهم بأن الديمقراطية هي مجرد آلية للوصول الى السلطة وليس لإيمانهم بها كقيم ومبادئ، فلا يمكن الإيمان بالديمقراطية في نظر هذه النخب الحاكمة، التي تستغلها كشماعة لضرب الإسلاميين، الذين كانوا سابقا من أشد وأعتى المدافعين عن الديكتاتوريات، إلا بفصل الإسلام كمرجعية عقدية وفكرية عن هذه التيارات.
لقد قام الأستاذ راشد الغنوشي في كتابه (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) بمحاولات تأصيلية للتوفيق بين الإسلام والديمقراطية كنموذجين لتدبير الحكم، واستعان ببعض المصطلحات والمفاهيم كالتعددية السياسية وحق الاقتراع والتصويت وحكم الأكثرية بل استند الغنوشي في كتابه الى إلغاء الحاكمية في الإسلام، إذ قال إن الإسلام ليس بحاجة الى إقامة سلطة، وإنما المعيار والركيزة الأساسية في أي وظيفة للسلطة في المجتمع هي إقامة العدل، ويقول في حوار مع مجلة (قراءات سياسية) إنه من أجل الوصول إلى دولة الإسلام (دولة العدل) لا بد من الوصول الى الديمقراطية (دولة العقل).
ـ لم يخطر ببال هؤلاء الإسلاميين أن الديمقراطية نشأت وترعرعت في بيئة اجتماعية مختلفة وفي سيرورة تاريخية معقدة وأصولها العقائدية والفلسفية والأيديولوجية تختلف تماما عن الإسلام كعقيدة وشريعة، وبنيتاهما الفكريتان تختلف كل واحدة فيها عن الأخرى، وأن انتزاع الديمقراطية من بنيتها الفكرية ووضعها في إطار الإسلام تحت ذريعة التجديد والعصرنة ما هو إلا مجرد نقاش سوفسطائي جدلي.
لقد كان الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله أكثر اتساقاً مع الرؤية الإسلامية الشمولية، وأكثر من استطاع أن يؤصل لعدم الانسجام والفصام النكد بين الإسلام والديمقراطية، حيث قال في كتابه (الإسلام والمدنية الحديثة): (إني أقول للمسلمين بصراحة إن الديمقراطية القومية العلمانية تعارض ما تعتنقون من دين وعقيدة.. ولا انسجام بينهما في أمر مهما كان تافهاً، لأنهما على طرفي نقيض)، كما رفض الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله، مؤسس حزب التحرير، أي قياس يقارن الإسلام والديمقراطية، ضارباً بذلك ليّ أعناق النصوص التي من شأنها أن تتناسب مع الأيديولوجيات والأفكار والمذاهب البشرية، فيقول في كتابه (نظام الحكم في الإسلام) ص 9: (فمن الضروري أن نتغلب على ما ألفناه من أنواع النظم، ونرتفع عن الواقع وعن جميع أنظمة الحكم الموجودة في العالم، ونختار الحكم الإسلامي متميزا، ولا نحاول أن نوازنه بباقي أنظمة الحكم، ونفسره حسب رغباتنا ليطابق أو يشابه غيره)، كما أن الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي الذي يعتبر الآن من أشد المدافعين عن الديمقراطية وجواز المشاركة السياسية في ظل الدساتير المدنية، يقول في كتابه (الحلول المستوردة) الصادر سنة 1971 في ص: 67: (وترتب على إقرار القوانين الوضعية الأجنبية الأصل مخالفة الإسلام دين الأمة، مخالفة ظاهرة بإحلال المحرمات، أو إقرار المنكرات، أو إهمال الواجبات، أو إسقاط العقوبات، مع أمر القرآن الصريح بالحكم بما أنزل الله...) ويقول في ص 72: (فالسلطة المنتخبة لا تملك التشريع فيما لم يأذن به الله، لا تملك أن تحل حراماً أو تحرم حلالاً أو تعطل فريضة، فالمشرع الأول هو الله جل شأنه، وإنما يشرع البشر لأنفسهم فيما أذن لهم فيه، أي فيما لا نص فيه من مصالح دنياهم...).
قرر الإسلاميون خوض غمار الديمقراطية بقوة، ونزلوا بكل ثقلهم للمشاركة في العملية السياسية كرقم صعب في معادلة الخارطة السياسية والمجتمعية، مستفيدين بذلك من التحولات العالمية الدولية والسيادة العالمية للفكر الليبرالي كمنظومة عالمية، ولا شك أن هذه العوامل كلها ساهمت في تخفيف القبضة الأمنية نسبيا عن المعارضة بمختلف مشاربها وتلاوينها، فمن أهم التجارب التي خاضها الإسلاميون كانت التجربة الجزائرية سنة 1991، التي تعتبر بحق أنها أكبر تجربة جديرة بالدراسة والاهتمام والتوثيق، فلقد كانت انتخابات 26 ديسمبر/ كانون الأول مفاجأة بمثابة المسمار الذي دق في نعش نظام الشاذلي بن جديد، ما أثار جنون القوى الدولية والإقليمية، وهذا مما حدا بالرئيس الفرنسي ميتران إلى أن يهدد بالتدخل عسكرياً في الجزائر، فكانت النتيجة ذلك الانقلاب الدموي الذي وقع وأطاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ وتم الزج بقادتها في السجون.
ـ التجربة التونسية: لقد خاض حزب (الاتجاه الإسلامي) الانتخابات التمهيدية في أواخر الثمانينيات وحقق نتائج مقبولة جداً، لكن النتيجة أن جهاز الدولة شهد تطورا كبيرا على حساب الديمقراطية التي طبل لها كثير من قادة العمل الإسلامي في تونس وتمت ملاحقة قادة الاتجاه الإسلامي وشيخه الغنوشي، وبعد الربيع العربي، قدم حزب (النهضة) التونسي مزيداً من التنازلات لإرضاء شركائه في الوطن، خاصة بعد الاغتيالات المدبرة التي وقعت إبان حكومة الترويكا كاغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي ولطفي النقض، والتي تم استغلالها من أجل ممارسة مزيد من الضغوطات على النهضة وتحميلها مزيدا من المسؤولية لتقصيرها في محاربة الإرهاب، ولا شك أن (حكمة) الغنوشي ساهمت في تطويع الحزب وجعله أكثر (واقعية) و(تميعا) مع متطلبات الحياة السياسية الجديدة، هذه الواقعية التي نتج عنها فصل الدعوي عن السياسي الذي اعتبره قادة النهضة من أهم مخرجات المؤتمر العاشر الذي عقد في مايو/ أيار 2016 والذي كان بمثابة إعلان (الفصام النكد) بين حزب النهضة كحزب سياسي وبين الإسلام كمرجعية عقائدية، ورغم جميع التنازلات التي قدمها الغنوشي لتصحيح (المسار الديمقراطي) و(إنضاج) التجربة الديمقراطية حسب زعمه، لم يشفع له ذلك، فقد تصاعدت الاتهامات من قبل القوى السياسية التونسية كالجبهة الشعبية ذات التوجه الماركسي بأنه السبب في إثارة النعرات الدينية والهوياتية.
ـ الحزب الإسلامي العراقي: تعتبر تجربة الحزب الإسلامي العراقي (الإخوان المسلمون في العراق سابقاً) من أخس الصفقات التي وقعت في تجارب الحركة الإسلامية، إذ شارك هذا الحزب في جميع مراحل الحياة السياسية في ظل الاحتلال الأميركي إلى الآن من مجلس الحكم العراقي الذي شكله الحاكم الأميركي بول بريمر، مروراً بحكومة علاوي ثم حكومتي الجعفري والمالكي، فلقد جاء المحتل الأميركي إلى العراق وتم تدمير الدولة وحل أجهزتها وتسريح موظفيها تحت ذريعة (اجتثاث البعث) وقتل أكثر من مليون عراقي، وتم تشريد الآلاف، ورغم كل هذا: شارك الحزب الإسلامي بعضويته في مجلس الحكم الانتقالي الذي شكله بول بريمر، وكان رئيسه (محسن عبد الحميد) قد سبق له أن ترأس هذا المجلس بشكل دوري في سنة 2004، ثم جاء خلفه طارق الهاشمي الذي شغل منصب نائب الرئيس في عملية سياسية قامت على أساس المحاصصة الطائفية، بل وقبلوا بالتوقيع على مسودة الدستور الذي تم إقراره سنة 2005، في حال تم تعديل بعض بنوده، ولم تكن في لجنة صياغة مسودة الدستور من ممثلين من العرب السنة سوى اثنين فقط، ذلك الدستور الذي كرس بناء مؤسسات الدولة على أسس طائفية، وكرس الفيدرالية على المستوى الإداري وذبح تحت مظلته الآلاف من أهل السنة بأبشع أنواع القتل والمجازر التي ارتكبت في حقهم، وظهر الحزب الإسلامي العراقي كمن يحاول أن يلعب الدور التمثيلي للمكون السني في البرلمان، بل إن الحزب الإسلامي العراقي لعب دور الخيانة كأداة وظائفية في (مشروع بترايوس لدعم الصحوات)، حيث لعب بعض قياداته كرافع العيساوي وطارق الهاشمي وأسامة التكريتي دور العراب في عقد الصفقات مع شيوخ العشائر في الأنبار والموصل وديالى كأداة وسيطة لتمهيد الأرضية للقضاء على المقاومة العراقية، وأنفقت عليه مليارات الدولارات، كأخس مشروع صفقة ستظل وصمة عار في تاريخ الحركة الإسلامية (الإخوانية) لن يغفره التاريخ. ورغم كل ما قدمه طارق الهاشمي في خدمة الاحتلال الأميركي والحكومة الطائفية، فقد تمت محاصرة بيته واحتجازه في مطار بغداد بشكل مهين من قبل حكومة المالكي في أواخر سنة 2011 وحكم عليه غيابياً بالإعدام شنقاً أربع مرات.
ـ تجربة العدالة والتنمية في المغرب: تعتبر تجربة العدالة والتنمية في المغرب تجربة جديرة بالدراسة والتأمل، منذ مشاركتهم في العملية السياسية وخوضهم غمار الديمقراطية في الانتخابات التشريعية لسنة 1997، الى قيادتهم لتدبير الحكومة بمعية ثلاثة مكونات سياسية علمانية بعد فوزهم في الانتخابات التشريعية لسنة 2011، وهي تجربة أقرب إلى حزب النهضة في تونس أو جبهة العمل الإسلامي في الأردن في ظل نظام ملكي ربما اتسمت سياسته بنوع من المرونة أو العصا والجزرة من أجل احتواء القوى السياسية بجميعها في البلاد، كثيرون ممن يرون في التجربة المغربية وعلاقة الإسلاميين بالقصر اتسمت بسياسة أكثر براغماتية ومهادنة، لكن تموقع هذا الحزب ضمن الخارطة السياسية المغربية، كان بدعم كبير من القصر من أجل إحداث نوع من التوازن السياسي في المغرب وبقاء الحزب وأمينه العام الذي يشغل منصب رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران في الصورة حتى يبقى القصر بعيداً عن الشعارات والمطالب والخطابات التي تم توجيهها مباشرة اليه في موجة الاحتجاجات الشعبية إبان حركة 20 فبراير/ شباط.
لقد نجح القصر الملكي بخطة محكمة أتقنت أتم الإتقان، في تمريغ كرامة حزب العدالة والتنمية ووزرائه وأمينه العام عبد الإله بنكيران في التراب وإغراق سمعة الحزب في الوحل، ووضعه في الصورة في تماس مباشر مع الشعب، فبعد أن تم استقدامه للعب دور إطفائي الحرائق إبان مرحلة وصفت بحساسيتها، وكذلك بعد القرارات على مستوى السياسات الاجتماعية التي اتخذتها حكومة بنكيران التي مست التطلعات والاحتياجات اليومية للمواطنين كأنظمة التقاعد والزيادة في المحروقات ورفع الدعم عن المواد الأولية والزيادة في الأسعار كالسكك الحديدية ثم تأييد إلغاء مجانية التعليم، وما نتج عن هذه القرارات من احتجاجات وغليان شعبي مهدد بالانفجار كانت تستهدف رأس بنكيران في الواجهة ولا يفوتنا أن نذكر بأنه رغم ما اتخذته حكومة بنكيران من قرارات غير شعبية لصالح التوازنات الماكرو اقتصادية، إلا أن السلطة وظفت قبل سنة من استحقاقات أكتوبر/ تشرين الأول 2016 جميع أوراقها وأخرجت جميع أسلحتها من صحف ومواقع إلكترونية وإذاعات لشيطنة الحزب وتشويهه إعلامياً، وهيجت المركزيات النقابية للقيام باحتجاجات مفبركة بالإضافة إلى دورها في خلخلة التوازن الحكومي عن طريق أحزاب سياسية مشاركة في الحكومة ساهمت بشكل كبير في عرقلة الأداء الحكومي، أضف إلى ذلك أن حقبة ما بين سنة 2008 وبين 2016 كانت كافية لإفراز واقع من التقاطبات الهوياتية في العديد من النقاشات العمومية بين حزب الأصالة والمعاصرة وحزب العدالة والتنمية وصلت إلى حد اتهام الأخير بالإرهاب والتخابر مع داعش والموساد، ولم تكن هذه الاتهامات تلقى جزافاً بقدر ما كانت تقف من ورائها جهات تريد توريط الحزب وحله واستئصاله من المشهد السياسي بالمرة على غرار تجربة الإخوان في مصر.
إن استقراء الواقع المرير والحصاد المر لتجربة الإسلاميين في الديمقراطية على مدار ثلاثة عقود، كفيل بالحركة الإسلامية المتدمقرطة أن تقوم بنقد ذاتي آخر لتجربتها وإعادة بلورة رؤية سياسية منبثقة من تصور عقائدي صحيح سليم مع قراءة متأنية لفقه الواقع واستحضار التجارب المريرة والدروس المؤلمة التي كانت بمثابة كارثة جنت على إخوانهم في العديد من الدول، وكانت آخرها تجربة الإخوان المسلمين في مصر بعد الانقلاب العسكري ومجزرة رابعة العدوية والنهضة، كفيلة بأن تراجع الحركة الإسلامية رؤيتها السياسية وأن تتدارك الخلل في منطلقاتها، خاصة قصورها في المنهج التربوي والدعوي.