بعد أشهر قليلة على رحيله، أصدرت دار الحوار السورية في سبتمبر/أيلول الماضي النسخة العربية من سرديات إدواردو غاليانو "أشباح الليل والنهار" في نحو مئتين وعشرين صفحة بترجمة مدى عطفة. الكتاب الذي جاءت نسخته الإسبانية بعنوان "نهارات وليالي الحب والحرب" غرف فيه الروائي والصحفي الأورغواياني من ذاكرته المثقلة بقصص المنافي والخيبات وتساقط الرفاق بالموت حيناً وبالخذلان أحياناً تحت وطأة ديكتاتوريات لا ترحم.
يستهلّ غاليانو مجموعته بالقول إنّ "كل ما رُوي في هذا الكتاب حدث"، وإنّه كتبه كما حفظته ذاكرته، ولم يُغيّر إلا بعض الأسماء، ويضيف "ستحتفظ الذاكرة بما هو جدير بالحفظ. الذاكرة تعرف عني أكثر مني، وهي لا تضيّع ما لا يستحق الضياع". إذن هذه السرديات تأتي لتكمل مشوار غاليانو في تقديم التأريخ الموازي كما فعل في "مرايا" و"أبناء الأيام" و"ثلاثية ذاكرة النار"، وغيرها. لكنّ غاليانو يؤكد أنّه حين يدلق ذاكرته المتعبة على الورق فإنّه لا يمارس الشكوى، "لأنّ البكاء على الأشياء، بعد كل الذين خسرناهم من أشخاص هو إهانة للألم".
يطوف صاحب "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية"، العابر للحدود، عموم القارّة المكلومة، من غواتيمالا وكوبا في الوسط، إلى الجنوب حيث الأرجنتين والبرازيل، لينتهي عند موطنه الأورغواي. وجلّها في النصف الثاني من القرن الماضي كان يجمع بينها تسلّط الديكتاتوريات "السجناء الذين أُخذوا من السجون، يموتون بحكم قانون الهاربين أو معارك لا يوجد فيها إصابات أو خسائر من جانب الجيش". في الأرجنتين على سبيل المثال، يُعنْون الكاتب حكاياته عنها بـ"فكاهات بيونس آيرس السوداء"، "نحن الأرجنتينيين ننقسم إلى مذعورين وسجناء ومدفونين ومنفيين. أُلحقت عقوبة الإعدام بقانون العقوبات في منتصف 76 لكنّ القتل في البلاد يتمّ كل يوم دون محاكمة أو حكم". ومع غواتيمالا تحضر الإمبريالية الأميركية المقيتة "غواتيمالا كانت أول مخبر أميركي لاتيني لتطبيق الحرب القذرة على نطاق واسع. رجال درّبتهم ووجّهتهم وسلّحتهم الولايات المتحدة يقومون بتنفيذ خطة الإبادة".
سهام الذاكرة الغاضبة لم يُصوّبها غاليانو على الديكتاتوريات الراسخة فقط، فثمة خيبة أمل طافحة تجاه الطغاة الجدد، أولئك الثوار الذين تلاشت وعودهم بمجرد وصولهم إلى الحكم "الرعب في الأرجنتين بدأ عندما خيّب خوان دومينغو بيرون، وهو في السلطة، الآمال التي كان قد أيقظها خلال منفاه الطويل في السهوب. السلطة كالكمان، تؤخذ باليسرى وتُعزف باليمنى".
يطوف صاحب "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية"، العابر للحدود، عموم القارّة المكلومة، من غواتيمالا وكوبا في الوسط، إلى الجنوب حيث الأرجنتين والبرازيل، لينتهي عند موطنه الأورغواي. وجلّها في النصف الثاني من القرن الماضي كان يجمع بينها تسلّط الديكتاتوريات "السجناء الذين أُخذوا من السجون، يموتون بحكم قانون الهاربين أو معارك لا يوجد فيها إصابات أو خسائر من جانب الجيش". في الأرجنتين على سبيل المثال، يُعنْون الكاتب حكاياته عنها بـ"فكاهات بيونس آيرس السوداء"، "نحن الأرجنتينيين ننقسم إلى مذعورين وسجناء ومدفونين ومنفيين. أُلحقت عقوبة الإعدام بقانون العقوبات في منتصف 76 لكنّ القتل في البلاد يتمّ كل يوم دون محاكمة أو حكم". ومع غواتيمالا تحضر الإمبريالية الأميركية المقيتة "غواتيمالا كانت أول مخبر أميركي لاتيني لتطبيق الحرب القذرة على نطاق واسع. رجال درّبتهم ووجّهتهم وسلّحتهم الولايات المتحدة يقومون بتنفيذ خطة الإبادة".
سهام الذاكرة الغاضبة لم يُصوّبها غاليانو على الديكتاتوريات الراسخة فقط، فثمة خيبة أمل طافحة تجاه الطغاة الجدد، أولئك الثوار الذين تلاشت وعودهم بمجرد وصولهم إلى الحكم "الرعب في الأرجنتين بدأ عندما خيّب خوان دومينغو بيرون، وهو في السلطة، الآمال التي كان قد أيقظها خلال منفاه الطويل في السهوب. السلطة كالكمان، تؤخذ باليسرى وتُعزف باليمنى".
خيبة الأمل تمتد أيضاً إلى الرفاق القريبين، رفاق الخنادق والمنافي في أزمنة ماضية. أولئك الذين فقدوا ثوريتهم أو تنازلوا عنها طوعاً وغدوا أناساً موغلين في العادية، مواطنين صالحين بالأحرى يستظلون بظلّ جلادهم الذي سامهم صنوف العذاب "بعد سنوات تحوّل أريبالو إلى موظف. خطير هذا النوع، نوع التائبين. صار أريبالو سفيراً للجنرال أرانا، صاحب صلاحيات كبيرة، مدير غواتيمالا الاستعماري، ومنظم المجازر. حين علمتُ بالأمر، كنت قد فقدت براءتي قبل سنوات، ولكنّي شعرتُ كأني ولد مخدوع".
هذه الخديعة التي غُرست في مواضع رخوة من جسد غاليانو ووجدانه، دفعت به نحو المنفى الذي يقول عنه "علّمني مزيداً من التواضع وصبراً جديداً. أعتقد بأنّ المنفى تحدّ. يبدأ بكونه وقتاَ للتوبة، ناشئاً من عجز أو هزيمة، ويتطلّب تواضعاً وصبراً لتحويله إلى وقت للإبداع، ولاتخاذه كجبهة أخرى للنضال".
يعود إدواردو غاليانو في أشباح الليل والنهار أيضاً إلى بداياته الأولى في الكتابة، إلى خيط النور الذي أغراه بمواصلة السير في هذا العالم البهيّ "فكّرتُ بأنني أعرف بعض القصص الجيدة كي أقصّها على الآخرين، واكتشفتُ أو تأكدتُ بأن ما أريده هو أن أكتب. في تلك الليلة أدركتُ أنني صيّاد كلام. خُلقتُ لهذا. هذه ستكون طريقتي في التواجد مع الآخرين بعد الموت، وهكذا لن تموت الأشياء، ولا الناس الذين أحببتهم".
صيّاد الكلام هذا إذن كان مُدركاً تماماً للغاية التي يمضي نحوها، فهاهو موجود بيننا بعد الموت، دون أن تموت أشياؤه، ولا الناس الذين أحبّهم وأحبّوه. رحل إدواردو غاليانو وترك بيننا ذاكرته طازجة شهيّة، لا تبرد ولا يأخذ منها وفرة المرتادين. طالما بقي الظلم والاستبداد في هذا العالم سيظلّ الناس بحاجة لقراءة ذلك النوع من الأدب الذي ينتصر لهم ويقف إلى جوارهم بشجاعة لافتة، متحمّلاً كل التبعات.
في المقابل لا تزال تلك الذاكرة محتفظة بحوافّها الحادّة، وبعد أن أدمت صاحبها وأنهكته طوال عقود، هي مهيأة لإيذاء كل من يمرّ بها. يقول إدواردو غاليانو "مذ كنتُ طفلاً عرفتُ أنّ في الجنّة لا توجد ذاكرة. لم يكن لآدم وحواء ماض".